حرب الرايات: «علم 56»… وانكسار بابنوسة

خرجت بابنوسة من جلدها. مدينة نزح عنها أكثر من مئة وسبعة وسبعين ألف روح، وبقيت مبانيها وحدها تتذكر من مرّوا تحت ظلال ماضيها. وفي اللحظة التي انشغل فيها السودانيون بجدل “العلم القديم” الذي لوّح به البرهان، كانت مليشيا الدعم السريع تكتب سطراً آخر في دفتر الحرب.

اقتحمت المليشيا مقر الفرقة 22 في بابنوسة وأعلنت سيطرتها عليه، كأنها توقّع عقداً جديداً لما قد تصنعه غداً في بورتسودان، ويصبح خريطة مختلفة للسودان.

المشهد بدا كأنه لوحة واقعية لخيال حرب طويلة: هدنة تُعلَن من طرف واحد، وجبهة تُفتح بعد ساعات. مدينة خالية من البشر، لكنها شاهدة على انتهاكات للمليشيا، لم تتجاوز ساعاتٍ من عمر بيانها. معايير الهدنة واضحة: توقّف كامل عن العمليات الهجومية، لا استغلال للفراغ، ولا توظيف لموت المدن لإعادة رسم خطوط النار.

مع ذلك، واصل الطرف الأقوى على الأرض هندسة الوقائع، كأن الهدنة مجرد استراحة محارب، لا التزاماً إنسانياً صادقاً.

في بورتسودان، ارتفع الجدل حول “العلم القديم”. لا نعرف لماذا تتم إثارة الموضوع بعد كل هذه الحقب؟ هل يتخلّص السودان من جرحه عبر لون وشعار؟.

وحين ارتفع دخان بابنوسة بدا الأمر كأنه الرد غير المكتوب على خطاب الرموز. العلم الذي لوّح به البرهان لا يتجاوز محاولة لشراء الوقت، أو إعادة تموضع داخل وجدان السودانيين، بينما الأرض يُعاد تقاسمها بالقوة. استلم المايكرفون وهمس للناس: انسوا أهوال الحرب… امنحوني رمزاً واحداً فقط يكون نصيري.

النبرة تغيّرت في خطاب سلطة الأمر الواقع. ارتفع صوت البرهان ومالك عقار بدعوة كل قادر على حمل السلاح للانضمام إلى القتال. النداء يشبه فتح باب لا عودة منه، باب عنوانه “المعركة الأخيرة”، حتى إن لم يُعلن عن ذلك صراحة. فحين تعلن القيادة نداءً عاماً للقتال، يدرك الجميع أن النزاع دخل طوراً مختلفاً، أطول من هدنة، وأوسع من حدود بابنوسة.

الأسئلة تتدافع:

  • إلى أين يمضي البرهان وهو يلوّح براية من الماضي، بينما تتساقط ثكنات جيشه في الحاضر؟
  • ما مستقبل القوات المشتركة التي تحارب إلى جانبه؟ والمستنفِرين والممتنعين ممن دعاهم إلى حمل البنادق؟
  • كيف يمكن فهم صمتهم وملامح جزعهم وهم يشاهدون الخرائط تتبدل بين ساعة وأخرى؟

بابنوسة تتحول إلى عنوان مكثف لحرب تتجاوز السيادة إلى معنى الوطن نفسه. مدينة بلا أهل، صارت دليلاً دامغاً على أن الحرب تجيد استغلال الغياب، وأن كل هدنة لا تترافق مع وقف فعلي للأعمال الهجومية تصبح مجرد فرصة للتمدد.

بين “العلم القديم” الذي لوّح بشعاره البرهان، ومقر الفرقة 22 الذي اجتاحته المليشيا، يقف السودان أمام تشققاته. كل شقّ يعكس صورة مختلفة للوطن المنكوب: وطن الذاكرة، وطن القوة، وطن الإشارة، وطن النار. وفي قلب المشهد يتقدم سؤال واحد لا يهدأ:
هل تتحول الحرب إلى مشروع تقسيم مكتمل الأركان، أم إلى صراع طويل يسعى كل طرف فيه إلى كتابة اسم جديد على الأرض؟

عن نزار عثمان السمندل

نزار عثمان السمندل

شاهد أيضاً

مسرح التضليل يكاد يبتلع “المدنية”

نزار عثمان السمندل تبدو الحكاية كأنها تراجيديا كُتبت سلفاً: ثورة خرجت من قلب الشوارع لتصنع …