حرب الصفوة العبثية من وراء الحرب (2-2)

 


 

 

لو صرفت النظر قليلاً عن الحرب العوان الدائرة بين قوات الشعب المسلحة والدعم السريع ببيض الصفائح لوجدت حرباً أخرى بين صفوة الرأي والسياسة على بيض الصحائف حول من منهم أوعز بهذه الحرب. وتستقطب هذه الحرب قوى الحرية والتغيير (قحت) بمختلف تسمياتها من ناحية وجماعة النظام القديم المعروفين بالفلول أو الكيزان في الناحية الأخرى. فوقعت الحرب، في عقيدتهم، بسبب واحد منهما حصرياً. وهو ما يوحي بأن الجيشين المتقاتلين بمثابة ضحايا دسيسة أحد الطرفين في حين خليا من كل دافع مستقل ومشروع للحرب بينهما.
وإذا لم تكن حرب الصفوة هذه باباً في المكايدة فلربما هي من سوء ظنهم بالعسكرية. فظلت هذه الصفوة ترى العسكرية درجة أدنى منهم لأن من دخل كلياتها كان ممن لم يوفق لدخول جامعة الخرطوم. أما محمد حمدان دقلو، قائد الدعم السريع، فليس بشيء عندهم لبداياته المتواضعة جداً كتاجر حمير في زعمهم لا هنا ولا هناك. فاستحال على الصفوة بالنتيجة نسبة اندلاع هذه الحرب لأي من العسكريين. فمثلها لا يقع إلا لمن جعل الله له بسطة في العلم مثلهم.
يسمي أنصار النظام القديم، الفلول، حرب الدعم السريع للجيش تمرداً رتبت له قحت لتنفيذ الاتفاق الإطاري الذي تعاقدت عليه في ديسمبر 2022 مع الجيش والدعم السريع ب"إرشاد" المجتمع الدولي. ويرون أنه تمرد "مدروس ومعد له مسبقاً بتهيئة سياسية عبر ما يسمى الاتفاق الإطاري". ويعرضون للتدليل على ذلك فيديوهات لرموز من "قحت" يقولون فيها إنه، إذا لم تتراض الأطراف عند الاتفاق الإطاري، فالحرب واقعة. واختارت "قحت" عندهم الدعم السريع باعتباره "جناحاً عسكرياً للدولة المدنية".
فمن رأي الصحافي عادل الباز أن الحرب كانت الخطة "ب" في مشروع استئثار قحت بالحكم. فلما عرفت قحت أن ذلك لن يتم لها بحيلة إصلاح الجيش وهيكلته احتاجت إلى قوة صلبة هي الدعم السريع. فغفروا لها اشتراكها الفظ في فض الاعتصام في يونيو (حزيران) 2109، ووسوسوا لحميدتي أن بوسعه أن يكون قائد الهامش الجديد على غرار جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في الثمانينيات وما بعدها. وزينوا له، وهو الواسع الإمكانات والثراء، أن يتحول من حال جندية الجنجويد الميليشيات إلى قوات محترمة تعزف على وتر الحرية والمدنية وتعادي الإسلام السياسي. فدخل دقلو اللعبة السياسة ليكون الجناح العسكري (الجيش الجمهوري الإيرلندي) لقحت "شين فين". وكان توقيع الدعم على الإطاري تقنيناً لهذه السياسات لقحت حياله وله.
وبدأ علي عسكوري، القيادي في الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية، من تخيير قحت الناس بين الإطاري أو الحرب ليقول إنها إنما هددت على ذلك النحو لاعتقادها أن المجتمع الدولي، الذي هي وكيلة عنه، قادر على فرض إرادته التي جسدها في الإطاري. وزاد بأن تهديد أهل قحت بالحرب يعني معرفتهم بالطرف الثاني الذي بيت النية لحرب الجيش. فلو أنهم ما عرفوا هذا الطرف لهددوا بما هو في وسعهم مثل التظاهر أو غيره كعهدهم. وعليه فـ"قحت" في قوله ضالعة حتى الثمالة في الحرب من حيث معرفتها بها، والترتيب المسبق لها، بل الإعلان عنها صراحة. واشتبه في نداءات قحت للمجتمع الدولي بإيقاف الحرب لصدورها عن اتفاق سري مع الدعم السريع مفاداه أنهم سيطلبون من العالم وقف الحرب (في دلالة حظر الطيران، قوة الجيش المؤكدة) متى فشل في انقلابه، بل سارعوا، حين لم ينجح تمرد الدعم السريع، إلى تضخيم خسائر الحرب على الناس والأرض استثارة للرأي العام العالمي وتبرير تدخل المجتمع العالمي.
ويهبط التراشق بين الجماعتين في تبادل الاتهام بإشعال الحرب دركاً. فتنشر كل جهة قائمة بمن تسميهم المجرمين من وراء الحرب في الجهة الأخرى ليوم الحساب القريب. فتنشر قحت بمثابة إنذار قائمة بطائفة من إعلاميي الفلول الذين يروجون للحرب. وفي المقابل ينشر أنصار النظام القديم قائمة برموز الفترة الانتقالية والاتفاق الإطاري ممن ينتظر التنكيل بهم. ويشترط بعضهم في طلب القضاء على رموز قحت حالاً. فالانتظار حتى انجلاء المعركة سيتيح للوسطاء حمايتهم من العقاب.
ولم تمتنع الأطراف في حرب الصفوة من وراء الحرب من تزوير الأدلة لإثبات تورط الطرف الخصم في إشعال الحرب. فأشاعت قحت مذكرة قالت إنها ملخص اجتماع للحركة الإسلامية (10 رمضان 1444، 1 أبريل (نيسان) 2023) لهذا الغرض. والمذكرة موضوعة لا جدال. حملت مراد الواضع بغير ذكاء. فمن المستغرب أن يقول من أعدوا للحرب من الإسلاميين، وفي محضر اجتماعهم، إنهم سيفتعلون "أزمة بين الجيش والدعم السريع" كساعة الصفر لانقضاض الجيش على الدعم السريع. والأكثر غرابة أن تعلن جماعة في محضرها أنها، متى انتصر الجيش، ستشكل حكومة انتقالية تعقد "انتخابات صورية". ولا خلاف أن واضع هذا المحضر لا يريد تذنيب الإسلاميين فحسب، بل أراد أن يفعل ذلك باعترافهم هم أنفسهم ولسانهم راغم في محضرهم.
هذه الحرب بين الصفوة حول من تسبب في هذه الحرب التي أكلت أخضر السودان ويابسه تدعو للرثاء. تسمع من بعض الصفوة أن الحرب الحقيقية النازفة بين الجيش والدعم السريع عبثية. وفي هذا القول طلب عجيب للامتياز يجعل حربهم هي الحق وما عداها باطل. وليس هذه العطالة بمستغربة من صفوة للرأي والقلم لم تعد ترى، تحت تطاول النظم الديكتاتورية عليها وإهانتها للحرية، من الحقائق حولها سوى أوجاعها وثاراتها. فتوهمها أنها من أشعل الحرب بغض النظر حالة تجاحد نرجسية لا ترى من الحرب الحقيقة إلا حرب طوائفها من ورائها.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء