حرمان الكيزان وإفساد السودان

 


 

 

 

في سنين طفولتي في مدينة الخرطوم، كان المحل الاشهر لبيع الدراجات "العجلات" هو محل حسن صالح خضر في بداية السوق العربي في وسط المسافة بين مسجد الخرطوم الكبير وميدان الامم المتحدة سابقا. وكان المحل الأشهر لصيانة وإصلاح الدراجات "العجلات" بالخرطوم هو محل "أبوعلي" على شارع القصر قرب محطة الغالي وغرب مقابر فاروق وجنوب حديقة القرشي.

كان إمتلاك الدراجة نوع من التميز الإجتماعي وخاصة للشباب، ولذلك كان حلم الأطفال والشباب هو "إمتلاك" دراجة ولو لفترة زمنية مؤقتة نصف ساعة او ساعة عن طريق الإيجار!!! وكان من بين جيراننا في حي الديم شرق طفل صغير يسمى نزار يحب ركوب الدراجات بشدة، عندما سمع بخبر وفاة والده كان تعليقه ببراءة طفولية "كويس كان مانعني أسوق العجلة"!!! ظلت هذه الجملة ومازالت صادمة لي منذ قرابة ال 40 عاما!!!
مع التقدم في العمر فهمت أن كثير من الأمور لها علاقة بالحرمان كدافع، وكمثال فقد كبر حلم إمتلاك "العجلة" عند كل "نزاري" في حكومة الإنقاذ ليتحول إلى "880 سيارة لاندكروزر لكل الدستوريين الإتحاديين" بالإضافة الى "المارسيدس والكامري والبكاسي دبل كاب الفخيمة"!!! وذلك ما يقودني اليوم للقول بأن هذه الجيوش الجرارة من الوزراء والمسؤولين والدستوريين بالحكومات الإتحادية والولائية بالسودان "3 الف دستوري" ولعله عدد اكبر مما هو موجود بالولايات المتحدة الإمريكية والصين مجتمعين. تسعى لشيء واحد هو تعويض حرمانها!!! ينسب للمرحوم الزبير محمد صالح نائب رئيس الجمهورية قوله " ﻧﺤﻨﺎ بسيطين ﻭأوﻻﺩ ﻣﺰﺍﺭﻋﻴﻦ ﻟﻮ شفتونا ﺭﻛﺒﻨﺎ ﺍﻟﻌﺮﺑﺎﺕ ﻭﺑﻨﻴﻨﺎ ﺍﻟﻌﻤﺎﺭﺍﺕ ﺍﻋﺮﻓﻮﻧﺎ فسدنا "!!! كما سبق أن هدد موسي هلال الذي كان يشغل منصب مستشار رئيس الجمهورية وقال (راس النظام فاسد ولا يمكن اصلاح الوضع)!!! "وهدد موسي هلال بفضح بعض قيادات الدولة الفاسدين بالاسم اذا دعت الضرورة، خاصة الذين يمتلكون فلل في جزيرة النخلة بإمارة دبي وتتراوح اسعارها بين ٥ الي ١٥ مليون دولار في اشارة واضحة منه الي الرئيس عمر البشير" !!!

إذن تعويض ذلك الحرمان في نفوس المسؤولين الحكوميين هو ما يدفعهم للتعبير عن وضعهم المالي قبل وصول حكومة الانقاذ من باب الإسقاط النفسي "الفيك بدربو" فقال أحدهم "زمان الواحد كان عنده قميص واحد و الان الدولاب مليان قمصان"، و ذلك الخوف من الحرمان هو ما يدفعهم للتتشبث بالسلطة والبكاء عند مفارقتها كما فعل الوزير كمال عبد اللطيف داخل مقر وزارة المعادن بعد إقالته من منصبه قائلاً " نحن أبناء هذه الفكرة وهذا المشروع ولن ندعها لرجل ولا يوجد رجل لديه حق أكثر منّا"!!! وقد علق على ذلك الموقف أستاذ العلوم السياسية بجامعة أم درمان الإسلامية الدكتور صلاح الدين الدومة قائلاً "لم نشهد على مر التاريخ مسؤولاً يبكي لأنه أقيل من منصبه إلا في عهد الانقاذ".
و يرى الدكتور الدومة أن بكاء المسؤولين في الحكومة الحالية "وسيلة من وسائل التملق لقيادة الدولة أو الحزب حتى لايتم استبعادهم من مناصبهم او للترضية السياسية". كما فعلها وزير العدل د. عوض حسن النور، في يوم 11/01/2017م اثناء القاء خطابه في حفل تدشين البوابة الالكترونية بمقر الوزارة بالخرطوم في حضور رئيسه البشير.

هذا التشبث يؤدي لأن تصبح الدولة رهينة "النزوات الشخصية" والإجتهادات الفردية الخاطئة" بدون بصيرة". قال الفريق محمد حمدان حميديتي قائد قوات الدعم السريع " زي ما قلت ليكم البلد دي بلفها عندنا نحن اسياد الربط والحل،مافي ودمرة بفك لسانو ،نحن مش قاعدين في الضل "!!!
المؤلم في الأمر أن تعويض ذلك الحرمان قد يكون عبر حرمان كل الشعب من أبسط حقوقه الدستورية مثل الإستشفاء، ففي خلال فترة شهرين توفى بمرض الكوليرا عشرات الالاف ولم تكلف السلطة الحاكمة نفسها إعلان إنتشار وباء الكوليرا وإعلان حالة الطواريء بل إكتفت بتوفير دعم جد ضعيف لمقابر الصحافة مثلا!!! وكعادة النظام في التحايل وتسمية الإشياء بغير مسمياتها فأعلنوا أن المرض في جنوب السودان هو الكوليرا أما في السودان فهو إسهالات مائية!!! وحتى هذه أعلن وزير الصحة الإتحادي بأنها ليست مسؤوليته!!!
بنفس الدرجة من البحث عن تعويض الحرمان نجد مايقوم به المسؤولون الحكوميون السودانيون في البحث ولو بطرق ملتوية لنيل الشهادات العلمية وإلا لماذا يحتاج شخص في منصب رئيس جمهورية وفي بلد في حالة حرب منذ قرابة ال30 عاما للإدعاء بأنه وجد الوقت الكافي للدراسة ولتحضير بحث لنيل شهادة ماجستير، وتعقد لجنة علمية لمنحه الشهادة.
ومن ثم تبعه في ذلك التقليد الأعمى أغلب المسؤولين الحكوميين والحزبيين فقال الطبيب الطيب محمد خير بأنه يحضر دكتوراه في علوم القران، والنتيجة أنه أصبح عدد حملة الماجستير والدكتوراه في السودان يفوق عدد حملة تلك الشهادات بين المسؤولين في الدول الأوربية قاطبة!!! والذي زادني حيرة هنا أن ذلك الداء اصاب حتى ذلك المثقف الذي يكتب بإسم سارة عيسى والذي قيل أنه الأمام الصادق المهدي نفسه وقيل هو أحد المقربين إليه، فقد أضاف هذا المثقف درف الدال إلى اسمه فاصبح يكتب بإسم د.سارة عيسى.

ولا نملك إلا ان نتمنى أن ينال الوزير الجديد سليل الإسرة الميرغنية إبراهيم الميرغني درجة الدكتوراه أيضا!!! لما لا وهو يرتفع بالمستوى الخطابي عن مستوى "لحس الكوع" إلى " الصراع على السلطة ظل بالنسبة لها-الانقاذ- أولوية مقدمة على تحقيق السلام ومهام البناء الوطني وكأن السلطة هي غاية في نفسها".
متمنين له أن يكون موضوع الدكتوراه هو "آلية تحقيق السلام والبناء الوطني".

أنشد الشاعر حميد

"خلِّي بالِك مستقيم
دغري وإن مال الزمنْ
راحل الليل البهيم
والبصيرات ما عِمَنْ
الظروف الليلي أبن ...
روقي لا خوف لا حزنْ
باكر التِّقْيات تنورق ... وتنملي الضرعات لبنْ
أبقي زي ما هي القماري .. ما بتدور عن سكنْ
ببصاره تلد صغاره .. لا مضادات لا حقنْ
لا قياصر لا طواريء .. وعمره حسها ما انسجنْ "

Wadrawda@hotmail.fr

//////////////////

 

آراء