حرْبٌ ماثلةٌ، حُزْنٌ مستمر! قصة قصيرة

 


 

 

طه جعفر الخيفة
وحيدٌ و بعيد، هكذا كان قلبه. لا يعرف درجة الحرارة علي وجه التحقق. كل ما صار يعرفه هو أن تلك الزهرات التي كانت ترافق بالعبير مشاويره قد ذَبُلَت. أحترقت دروب الحي بنار الشمس اللاهبة. في السماء حريق ، في الشوارع رملٌ ساخن. لم يكن الفصل صيفاً. كانت أيام الدَرَت. شمس الخير هذه لم يكن عندها ما تنضجه غير جلودهم. فلم يزرع أحد. المطرات القليلة أنبتت عشباً حانقاَ قد إصفرّ لونه الآن. عشبٌ ينظر للناس بغضب.
إنتبه فجأة لحقيقة أنه نازحٌ بلا عمل، بلا بيت، بلا سيارة و بلا أسرة. تذكر أن الخوف هو ما جعله يرسل حبيبته و الأولاد إلي أهلها بالقرب من المناقل. أنتظر نهاية الحرب في بيته بالحاج يوسف. كغيره إحتاج أن يغادر مسكنه جراء صوت المدافع، دمدمة الطائرات و هديرها، رفرفة المسيرات الآلية و صوت الدوي الصامّ للآذان. الصراخ، نداء يا ابو المروة، صوت الألم خلف جميع التفاصيل. نداءات الأرواح المهزومة بالجوع، عدم الدواء و الرعب كانت الأعلي صوتاً. و الحرب لم تنتهِ.
عبوات السجائر الورقية صناديق مهروسة و باهتة اللون. كريستالات الماء أو العرقي متسخة و بلا هوية. ضحك و هو يقول لنفسه حتي القمامة لم تستطع المكوث فتبددت. تعطل شبكة الأتصالات، إنقطاع الكهرباء. جعلا تلفونه قطعة لامعة تشبه طوبة لا تنتمي للوطن، طوبة معدنية بغطاء زجاجي.
هذا أول يوم يخرج من بيته في حي كرري بالقضارف. لم يكن بالشارع أحد يعرفه عدا مالك العقار الذي يستأجره. بيوت خالية تقريبا. أحسّت جارته بحركته، عرف ذلك من إقترابها من الباب.
يعرف الجميع حكايته. هو الرجل الذي صرخ ثم بكي بصوت مرعب. ظل بين صراخ و بكاء. تم ركض حول الحي يردد ما معقول ما معقول. رددّها إلي أن جفّ حلْقَهُ ثم ىسقط من الإعياء. حملوه. لم يكن يسمعهم و هم يقولون
استغفر الله يا زول،
البركة فيك،
الموت حق.
عرفوا من الزائر الذي جاءه بالأمس أنه فقد أطفاله و زوجته. ذهبوا به للمستشفي لم يكن هنالك طبيب يصف له شيئاً. حتي ما تمّ وصفه عن طريق الطبيب من أبناء الحي لم يكن موجودا في الصيدليات خالية الأرفف. عندما هدأ من الصُراخ ظل يبكي بصوت مكتوم. مُتكِوِمٌ علي الفراش. حوله جمعٌ. صامتون. الوقت يمُر بهم ببطء. جلس علي حافة السرير. بدأ ينظر إليهم بعينين حمراوتين و زائغتين. ناوله أحد الجالسين كوب ماء. قال أحدهم: ما تديهو موية. ثم غادر. جاء بعد قليل بين يديه صينية عليها كورية مغطاة و ملعقة. جلس إلي جواره ممسكاً بملعقة الشوربة قائلاً أشرب يا باشهمندس. تناول معلقة واحدة. أصرَ عليه الجالسُ إلي جواره ليشرب فشرب. قال قريبه يا نادر استغفر الله. لم يرد. بدأ أحد الجالسين في قراءة "قل أعوذ برب الفلق" كررها ثلاثة مرات ثم قرأ "قل أعوذ برب الناس" ثلاث مرات أيضا ثم قرأ آية الكرسي. ردد الجمع اللهم إنه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أستغفرك و أتوب إليك. خرج من بينهم. كان بوسط الحوش ينظر للفراغ فوق رأسه. السماء منيرة بنجومها المشتتة كالأفكار في رأسه. دخل قائلاً: يا نصر الدين تعال. خرج وراءه إبن عمّه. تبعوهم بخطوات أبطأ. سمعوه يقول أنه يريد أن يسافر للمناقل. قال أحد الحاضرين سيطر الدعم السريع علي ود مدني ، كبري حنتوب مغلق و الجزيرة في حالة فوضي. قال نصر الدين حتي المناقل غير آمنة و لقد ذهب أهلنا إلي ربك. لا يوجد أحد في حلتنا. رجع إلي حيث كان. لم يتركوه ظلّوا إلي جواره.
مرّت عليهم ثلاث أيام بلياليها. لم يتكلم. جاء أحد الجيران و طلب منه حلاقة ذقنه و الإستحمام. ففعل ذلك بصمت. جلبوا له جردل ماء و صابون فاستحم. الماء البارد دفع خواطراً فجالت في نفسه، خيالات مبهمة و أصوات خافتة
وحيدٌ و بعيد، هكذا كان قلبه. لا يعرف درجة الحرارة علي وجه التحقق. كل ما صار يعرفه هو أن تلك الزهرات التي كانت ترافق بالعبير مشاويره قد ذَبُلَت. أحترقت دروب الحي بنار الشمس اللاهبة. في السماء حريق ، في الشوارع رملٌ ساخن. لم يكن الفصل صيفاً. كانت أيام الدَرَت. شمس الخير هذه لم يكن عندها ما تنضجه غير جلودهم. فلم يزرع أحد. المطرات القليلة أنبتت عشباً حانقاَ قد إصفرّ لونه الآن. عشبٌ ينظر للناس بغضب.
خرج من الحمام و صَلّي. نشر الحضور فرشات كانت مطوية و جلسوا عليها. تكلم نادر في اليوم الخامس و قال : عندي ثلاثة بنات و زوجتي كانت مدرسة، لا أعرف كيف أو أين ماتوا. ردّ عليه أحد الحاضرين قائلاً: سيكلمك نصر الدين، لكن الآن دعنا نقرأ الفاتحة و ندعو لهم فهم شهداء. قرأوا الفاتحة ثم انصرفوا.
قال نصر الدين: في طريقهم إلي القضارف، صادفتهم مجموعة من جنود بلباس عسكري. طلبوا ما عندهم، أخدوا السيارة و كل ما يملكون من مال، حُلِي، تلفونات و ملابس و عندما حاول أحدهم الإعتداء علي أحد الفتيات تصدي له الجميع فقتلوهم و تركوا جثامينهم علي الطريق . جاءت بعد ذلك سيارة، تَعرّف أحدُ ركابها عليهم من ملامحهم رغم الفوضي التي تركتها عمليات النهب، السَلْب و القتل علي أجسادهم فاتصل بنا . ذهبنا في سيارة أخري لندفنهم و نصلي عليهم كان بينهم زوجتك و بناتك و بعضٌ من أهلنا كانوا، اربعة عشر شخص مقتولين ، لقد ترك السَلْب و النهب و الرصاص ملامح ماكثة و غير محايدة في المكان.
سمع ذلك عبر جلده و أحسّ به في في صدره كإختناق لأن أذنيه مشغولتان بتفاصيل السرذ السميكة. خرج عبر الباب إلي الشارع فتردد هذا الكلام في ذهنه للمرة الثالثة:
وحيدٌ و بعيد، هكذا كان قلبه. لا يعرف درجة الحرارة علي وجه التحقق. كل ما صار يعرفه هو أن تلك الزهرات التي كانت ترافق بالعبير مشاويره قد ذَبُلَت. أحترقت دروب الحي بنار الشمس اللاهبة. في السماء حريق ، في الشوارع رملٌ ساخن. لم يكن الفصل صيفاً. كانت أيام الدَرَت. شمس الخير هذه لم يكن عندها ما تنضجه غير جلودهم. فلم يزرع أحد. المطرات القليلة أنبتت عشباً حانقاَ قد إصفرّ لونه الآن. عشبٌ ينظر للناس بغضب. و يقول ماذا تنتظر؟
ماذا تنتظر؟ الحرب ماثلة! ماذا تنتظر؟

طه جعفر الخيفة
18 فبراير 2024م
اونتاريو – كندا




taha.e.taha@gmail.com
////////////////////////

 

آراء