سد فراغ الإمام قضية لا تشغل أنصار حزب الأمة وحدهم.هي مسألة تكاد لأسباب متعددة تبلغ منزلة قضية رأي عام. استقصاء تثبيت زعيم جديد للحزب مهمة شاقة على أجهزة الحزب. لكن الإهتمام ليس قاصرا على محيطه الداخلي. الطريق الآمن لتصعيد الرئيس المرتقب يتم بالضرورة فقط داخل مدارج تاريخ الحزب ليس خارجها.أي محاولة تتجاهل هذا الفهم تشكل قفزة خارج السياق، مصيرها الإخفاق لا محالة. هوية الزعيم المرتقب تحدد مستقبل الحزب. لكن آلية صعوده إلى سدة الرئاسة ترسم إلى حد بعيد قسمات استرداد الحزب قواه أو توغله في الوهن والتشتت.
*** *** ***
من مخاض حراك ثقافي اجتماعي طويل داخل مؤتمر الخريجين وعلى حوافه تخلّق أول حزب سوداني موسوما بـ "الأمة" في 31 مارس 1945.كما ورد في البيان التأسيسي فإن الحزب يدين بمبدأ " السودان للسودانيين".الكيان الوليد يجسد تحالفاً بين طائفة الأنصار بعض كبار الخريجين وقادة الرأي وبعض زعماء العشائرورؤساء القبائل كما نصّ البيان.الطائفة ظلت الرافعة الأساسية لقوى الحزب في كل نضالاته السياسية ورأس الرمح في جميع معاركه.
اللجنة التأسيسية للحزب تعكس قسمات ذلك التحالف. فمن بينه أعضائها من المثقفين محمد علي شوقي،ومحمد صالح الشنقيطي. من الأنصار وآل البيت عبدالله الفاضل، الصديق عبد الرحمن ومحمد الخليفة شريف. من زعماء القبائل السلطان محمد بحر الدين، محمد الأمين ترك والزبير حمد الملك.
*** *** ***
تبني الحزب شعار " السودان للسودانيين" لا يثير سؤالاً لكل متتبع لبدايات حركة التنوير السياسي . ذلك شعار سكه استاذنا الرائد حسين شريف.لكن إطلاق " الأمة" على الحزب اضطرني لممارسة نبش في التاريخ.
فالإسم لم يكن متداولاً في أدبيات تلك الحقبة السياسية.فهناك "الأشقاء ، الأتحاديين ، الأستقلاليين،القوميين ". ربما كان أحد الأخيرين أقرب الخيارين إلى نهج راعي الحزب ومشايعيه من الخريجين.في سياق مساءلة مرجعيات لم يستبعد الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه تأثر الإمام المؤسس بحزب الأمة المصري. الأستاذ الحقوقي المؤرخ استند في فرضيته إلى علاقة ودٍ ربطت بين الإمام ولطفي السيد وصورة لديه تجمع بين الإمام والسيد فيلسوف "الأمة " المصري وسكرتيره لاحقا. ربما يعزز تلك الفرضية تبني ذلك الحزب شعار"مصر للمصريين".
*** *** ***
عندما سأل سرور رملي الإمام عن موقعه داخل الحزب وعما إذ اهو الرئيس أجابه قائلا إني جندي في الصف "وهبني الله من الإمكانيات مالم يتيسر لكثير منكم "وسأهبها وصحتي وولدي وكل ما أملك لقضية السوداان .لعل مقولة الإمام المؤسس تعيد إلى الذاكرة قول مشابه على لسان الإمام الصادق في حوار تلفزيوني ذائع . مع اتساع دائرة الوعي وتقلّب الحزب بين الربح والخسارة ظلت هذه الأعمدة حاملة بنيان الحزب وحاضنته ثابتة راسخة في وجه كل الأعاصيرالداخلية والخارجية. صحيح انحسرت موجات الإنتماء بالإنتساب التلقائي إلى تلك الدوائر الثلاث . بل تحول بعض منتسبيها إلى هضاب الخصومة السياسية . لكن كل محاولات الإنقسام والتشظي المنظمة مروقاً عن هذا الجلباب التقليدي انتهت إلى خسران مبين.
*** *** ***
تصاعد وهج الوعي والمد اللبرالي بالتزامن مع انحسار الإنتماء الوراثي داخل الحزب ساهما إلى جانب الكاريزما الذاتية في إقتلاع الصادق جذع الحزب الأخضرعند انشقاقه على الإمام الهادي. تلك خطوة تزامنت مع إطلالة السودان برمته على شرفة تحديث لوّح الصادق ببعضٍ من مفرداته .في ذلك الإنشقاق خرجت كوكبة من نخبة دوائر التأسيس الثلاثية لكن الصادق لم يستطع سحب قطاع كبير من قاعدة جمهرة الأنصار إذ ظلت متشبثة بولائها التقليدي للإمام المنصّب ؛ الهادي. فحينما خاض الصادق الإنتخابات في الجبلين لاحقاً – وهي معقل أنصاري-. تعرض للهزيمة . مبارك الفاضل تحمل كلفة فادحة في عملية انسلاخه الإنقاذي إذ لم يفلح في اختطاف غير قلّة من النخبة بالإضافة إلى سباحته عكس تيار التقدم وقتذااك . ما كان لمبارك الفاضل استقطاع شريحة وافرة من جمهرة الأنصار – عمود خيمة الحزب- لأكثر من سبب.
*** *** ***
في المشهد الراهن بعضٌ من ملامح حال "الأمة" إثر وفاة الصديق المباغتة .ثمة حديث عن وصية شفاهية للجنة خماسسية إنتهت إلى تنصيب الهادي إماما.
الصديق وحده تولى قصبتي الأمامة والزعامة السياسية من موقع رئاسة الحزب .
عبد الرحمن هو إمام الأنصار وراعي الحزب. الهادي فرض هيبة الإمام على الحزب استناداً للإرث.إخراج العمل السياسي من تحت عباءة الإمام شكّل المحور الأساسي في جهد الصادق على درب عصرنة "الأمة".ذلك التقدم تراجع عنه الصادق نفسه أو حرّضه آخرون بعد استشهاد الهادي.رغم بنائه مؤسسة الأنصار هيئة منفصلة عن الحزب عاد الصادق فجمع بين الأمامة والزعامة.
*** *** ***
على المسرح ليس ثمة قامة تسد الفراغ الهيولي الناجم عن غياب الصادق على جبهتي الهيئة والحزب.أكثر من ذلك ليس هناك مرشحٌ يستقطب ولاء غالبية جماهير مؤسستي الدين والدنيا.مع ذلك يجول على خشبة المسرح عدد من اللاعبين الطامحين. آلية الإنتقاء والترجيح الحالية لا تبدو مؤهلة لإنجاز الحسم .هذه خلاصة قرآءة في خارطة الحزب البنائية. صحيح تصاعد الوعي داخل تلك الخارطة لكن الصحيح أن الخارطة نفسها ضاقت تحت تأثيرات متباينة.أعداد الوافدين من خارج الربوة التقليدية انحسرت بالإضافة إلى منسربين من على الربوة إلى شعاب مغايرة. كتلة الولاءات التقليدية الصماء تشققت حتى غدت رقاعا مبعثرة، ربما أكثرها تماسكا في النيل الأزرق والنيل الأبيض.مصادر التمويل السخية غشيها التيبس والشح.هذه بضعة من عناصر تفرض حضورها في عملية تثبيت رئيس جديد للحزب.
*** *** ***
ربما يجد تيار الوعي المتصاعد داخل الجزب عند المنعطف الحالي فرصة للقبض على كابينة القيادة.تلك خطوة بالغة الأهمية على قدر دلالاتها لكن من غير اليسير انجازها قفزاً فوق واقع خارطة الحزب. في الإحتفاظ برمزية بيت المهدي حفاظ على بقاء كتلة الولاء التقليدية بغية أداء دورها في المعارك. حنكة النخب المخضرمة من حملة قبس الوعي تتبدى في إضاءة البيت بمشاعل الوحدة. الإجماع العائلي على تقديم رئيس شرط لا غنى عنه .ربما تجد الأسرة مخرجاً في وجه مؤهل من خارج دارتها.على قدر الإصطفاف الغالب خلف الرئيس المرتقب منذ لحظة الإختيار تتأتى النتائج المستقبلية. كما يراد للنخب الوفاء تجاه العائلة فليس بعزيز اصطفاف الأسرة طوعا واختيارا – أو هكذا ينبغي- وراء رئيس من بين نخبة الحزب.
*** *** ***
بما أن الرئيس المرتقب يخلف الصادق المهدي فهو لن ينجو من مقارنة ظالمة.حتما لن يأتي رجل له ما للراحل من قدرات في السياسة‘ الفكر ‘ الثقافة والتواصل في الداخل والخارج. ساقط في الوهم كل من يظن النجاة في تخليق قيادة جماعية بغية تشكيل بانوراما تسد النواقص الفردية في المتنافسين على مكانة الراحل. هذه رؤية فاسدة قاصرة مثلما هي فكرة الهروب من مواجهة عبء اللحظة التاريخية عبر مرحلة إنتقالية. كلاهما نفقان يشكلان بيئة تفضي إلى مراكمة سلبيات تناسل تحديات .القيادة الجماعية تفرّخ مراكزالقوى وبؤر الصراع مثلما هو الحال في المراحل الإنتقالية.أقصر الطرق وأكثرها أماناً هو المناداة بتكريس " المؤسسية"عبر ممارسات ديمقراطية تبني هياكل الحزب كما تفرز قياداته من قاعدة الهرم الحزبي إلى قمة القيادة. هذا في الواقع أقرب إلى الفكر التجريدي من منظور حال الحزب الراهن من حيث القدرات والإمكانات المتاحة. هذه منزلة يرقى إليها بالتدرج الممنهج ليس بالقفز الإفتراضي.التجربة تؤكد إخفاق أفضل أحزابنا تنظيما في التطبيق السليم لهذا المنهج بمكاييل الحصاد العام
*** *** ***
أمامة الأنصار لاتواجه معضلة كما الحزب.الإمام بنى أمانة الهيئة على ممارسة استقلاليتها. بين قادتها علماء فقهاء متبحرون في شؤون الدين والعباد قابضون على جمر المهدية حافظون لأسرار الطريقة .الصادق أكد منذ خلافه مع عمه أحمد أن الأمامة ليست حقا بالوراثة. فالإمامة متاحة أمام كل " من تقلّد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين" حسب توصيف الإمام المجاهد محمد أحمد المهدي.
aloomar@gmail.com