حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء (5 من 9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
24 June, 2023
24 June, 2023
shurkiano@yahoo.co.uk
في شأن عودة الرِّق في السُّودان صرَّح وزير النقل والمواصلات في حكومة الصَّادق المهدي السيِّد ألدو أجو دينق أنَّ 400 طفلاً من أطفال قبيل الدينكا تمَّ اختطافهم في منطقة بحر الغزال بواسطة العرب، وتمَّ ابتياعهم في غرب السُّودان. علاوة على ذلك، ذكر وزير الزراعة في مجلس تنسيق جنوب السُّودان أنَّه أنقذ اثنين من أطفال قبيل التابوسا في غرب السُّودان اللذين تمَّ اختطافهما بواسطة القوَّات المسلَّحة السُّودانيَّة. ومع ذلك لم يعر رئيس الوزراء الصَّادق المهدي وحكومته أي اهتمام بأمر هذه التصريحات الخطيرة، ولم يشكِّل لجنة قانونيَّة في التحرِّي في أمر هذه الجرائم ضد الإنسانيَّة.
في تلك الأجواء نشط التجمُّع العربي في دارفور في تجنيد وتدريب أفراد الميليشيات العربيَّة، بغض الطرف عن أنَّ هذه الميليشيات ستحارب في جنوب السُّودان أم في النطاق المحلي في دارفور. إنَّ رجال الميليشيا من قبيلة سلامات في تشاد، الذين انتظموا في تنظيم "حكومة الوحدة الانتقاليَّة"، والذي تمَّ تأسيسه في نيسان (أبريل) 1979م من أجل إنهاء الحروب الأهليَّة في تشاد، سرعان ما بات لاحقاً أحد الفصائل المتحاربة، ثمَّ أمسوا يغيرون على قرى قبيل الفور في دارفور. درءاً للكارثة التي هي آتية لا ريب فيها، شرع نشطاء جبهة نهضة دارفور في البحث الميؤوس عن السِّلاح في تشاد في سبيل الدفاع عن الأنفس والعرض والأرض والممتلكات. من جانب آخر، أعلن وزير الزراعة وأحد العناصر من ذوي النفوذ في حزب الأمَّة الدكتور عمر نور الدايم في تشرين الأول (أكتوبر) 1987م أنَّ الحكومة سترد على العنف بالعنف، وسوف تقوم بتسليح "كل القبائل"، وهذا ما كان. بيد أنَّ الحكومة لم تسلِّح كل القبائل، بل قبائل بعينها، وهي تلك التي أسمَّت نفسها بالقبائل العربيَّة.
لقد بدا جليَّاً أنَّ العرب الدارفوريين صاروا بصورة أكثر وضوحاً متورِّطين في الحرب عبر الحدود، مما أخذ يشي بسوء المواقف المبدئيَّة، وسوء التقدير. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 1987م عبر الجيش التشادي الحدود للمرة الثانية، وهاجم معسكرات القوَّات الليبيَّة والتشاديَّة والميليشيات العربيَّة الموالية لها في كبكابيَّة والسريف وقاما، وقتل أكثر من 200 مقاتل، وعدداً غير معروف من المدنيين. حين حاول الفيلق الإسلامي ردَّ الهجوم، تمَّ إيقافه جنوب-غربي أبشي، وفقد 40 من رجاله. في تلك الأثناء أصبحت الحرب الأهليَّة في دارفور في أوجها، وفي شيء من التدخل الأجنبي شديد. انقسم ساسة دارفور في الخرطوم إلى طوائف مختلفة: العرب منهم أخذوا في عميهم يساندون سياسات رئيس الوزراء الصَّادق المهدي الخرقاء، التي تنحو نحو ليبيا، حتى في تجاوزات ميليشياتهم الفظيعة في أشدَّ ما تكون الفظاعة، ثمَّ كان وزير الدولة بوازرة الدفاع العميد (معاش) فضل الله برمة ناصر المسؤول الرئيس في تجاوزات المراحيل، وتورُّط الحكومة في تجنيد عناصر التجمُّع العربي في دارفور.
أما أعضاء الحكومة غير العرب – وزير الري محمود بشير جماع من قبيل الزغاوة، وعلي حسن تاج الدين من المساليت – فقد باتوا منقسمين. إذ ارتأوا أنَّ في تجاهل ضبط الوضع في دارفور سوف تخرج الحال الأمنيَّة من أيديهم، وأنَّ ولاءهم لرئيس الوزراء الصَّادق المهدي وحزب الأمَّة أمسى يمر باختبار عسير في أشد ما يكون العسر. أما البرلمانيُّون الذين ارتبطوا بجبهة نهضة دارفور فقد هدَّدوا بتقديم استقالاتهم إذا لم يتحسَّن الوضع الأمني في دارفور، وأنَّ كثراً من مجنَّدي الفور في الجيش السُّوداني، الذين كانوا يقاتلون في الجنوب، شرعوا يهجرون القوَّات المسلَّحة مليَّاً، ثمَّ أنَّ كثراً منهم أخذوا يلتحقون بالجيش الشعبي لتحرير السُّودان. في تلك الأثناء سافر العميد (معاش) فضل الله برمة ناصر ورئيس هيئة الأركان في الجيش السُّوداني الفريق فوزي أحمد الفاضل إلى لندن متوسِّلين إلى السيِّد أحمد إبراهيم دريج بصفته من قبيل الفور بالعودة إلى السُّودان ومساندة الحكومة، حتى لا تتلاشى القوَّة الضاربة من قبيل الفور في القوَّات المسلحة السُّودانيَّة من خلال الهجران المتزايد. في تلك الأوقات نشط الحزب الاتحادي الديمقراطي بالتحرُّش بحليفه حزب الأمَّة في الحكومة الائتلافيَّة. فها هو وزير الداخليَّة سيد أحمد حسين، ووزير الخارجيَّة الشريف زين العابدين الهندي في الحزب الاتحادي الديمقراطي، لا يدخران جهداً إلا وقاما بانتقاد سياسات الصَّادق المهدي الشوهاء في ابتياع السُّودان لليبيين، وكأنَّه كان في الأمر غموضاً يتعيَّن استجلاؤه.
في نيسان (أبريل) 1986م اندلعت تظاهرات عنيفة في محطة السكة حديد في مدينة نيالا حين رفض المجنَّدون من أبناء الفور صعود القطار الذي كان سينقلهم إلى مدينة واو بجنوب السُّودان. كانت هناك ثمة منشورات موزعة تحمل تساؤلاً فحواه: "لماذا الذهاب إلى محاربة إخوتنا في الجنوب؟" وفي 13 أيلول (سبتمبر) كانت هناك ثمة احتجاجات أخرى في نيالا، حيث تمَّ تخريب بعض المكاتب الحكوميَّة، وقُتِل اثنين من المحتجين. في تلك الأثناء سافر الصَّادق المهدي إلى دارفور؛ أما الرئيس الليبي العقيد معمَّر القذافي، الذي انتوى السفر إلى دارفور، فقد أعرض عن ذلك بعد أن تمَّ إثناؤه عنه. بعد ثلاثة أسابيع فقط من الاحتجاجات كان حاكم إقليم دارفور عبد النبي علي أحمد في الخرطوم مفاوضاً السفير الليبي في السُّودان في سبيل تكامل إقليم دارفور مع منطقة الكفرة الليبيَّة. في نفس ذاك اليوم شرع ابن عم الصَّادق المهدي، أي مبارك الفاضل المهدي، الذي جمع بين حقيبتي وزارة الداخلية والمبعوث الخاص إلى ليبيا، ينكر أنَّ حكومة ابن عمه لم تستلم أيَّة مساعدة ليبيَّة من أجل الحرب في جنوب السُّودان، وأنَّه ليست هناك جيوشاً ليبيَّة في إقليم دارفور.
للمقال بقيَّة،،،
في شأن عودة الرِّق في السُّودان صرَّح وزير النقل والمواصلات في حكومة الصَّادق المهدي السيِّد ألدو أجو دينق أنَّ 400 طفلاً من أطفال قبيل الدينكا تمَّ اختطافهم في منطقة بحر الغزال بواسطة العرب، وتمَّ ابتياعهم في غرب السُّودان. علاوة على ذلك، ذكر وزير الزراعة في مجلس تنسيق جنوب السُّودان أنَّه أنقذ اثنين من أطفال قبيل التابوسا في غرب السُّودان اللذين تمَّ اختطافهما بواسطة القوَّات المسلَّحة السُّودانيَّة. ومع ذلك لم يعر رئيس الوزراء الصَّادق المهدي وحكومته أي اهتمام بأمر هذه التصريحات الخطيرة، ولم يشكِّل لجنة قانونيَّة في التحرِّي في أمر هذه الجرائم ضد الإنسانيَّة.
في تلك الأجواء نشط التجمُّع العربي في دارفور في تجنيد وتدريب أفراد الميليشيات العربيَّة، بغض الطرف عن أنَّ هذه الميليشيات ستحارب في جنوب السُّودان أم في النطاق المحلي في دارفور. إنَّ رجال الميليشيا من قبيلة سلامات في تشاد، الذين انتظموا في تنظيم "حكومة الوحدة الانتقاليَّة"، والذي تمَّ تأسيسه في نيسان (أبريل) 1979م من أجل إنهاء الحروب الأهليَّة في تشاد، سرعان ما بات لاحقاً أحد الفصائل المتحاربة، ثمَّ أمسوا يغيرون على قرى قبيل الفور في دارفور. درءاً للكارثة التي هي آتية لا ريب فيها، شرع نشطاء جبهة نهضة دارفور في البحث الميؤوس عن السِّلاح في تشاد في سبيل الدفاع عن الأنفس والعرض والأرض والممتلكات. من جانب آخر، أعلن وزير الزراعة وأحد العناصر من ذوي النفوذ في حزب الأمَّة الدكتور عمر نور الدايم في تشرين الأول (أكتوبر) 1987م أنَّ الحكومة سترد على العنف بالعنف، وسوف تقوم بتسليح "كل القبائل"، وهذا ما كان. بيد أنَّ الحكومة لم تسلِّح كل القبائل، بل قبائل بعينها، وهي تلك التي أسمَّت نفسها بالقبائل العربيَّة.
لقد بدا جليَّاً أنَّ العرب الدارفوريين صاروا بصورة أكثر وضوحاً متورِّطين في الحرب عبر الحدود، مما أخذ يشي بسوء المواقف المبدئيَّة، وسوء التقدير. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 1987م عبر الجيش التشادي الحدود للمرة الثانية، وهاجم معسكرات القوَّات الليبيَّة والتشاديَّة والميليشيات العربيَّة الموالية لها في كبكابيَّة والسريف وقاما، وقتل أكثر من 200 مقاتل، وعدداً غير معروف من المدنيين. حين حاول الفيلق الإسلامي ردَّ الهجوم، تمَّ إيقافه جنوب-غربي أبشي، وفقد 40 من رجاله. في تلك الأثناء أصبحت الحرب الأهليَّة في دارفور في أوجها، وفي شيء من التدخل الأجنبي شديد. انقسم ساسة دارفور في الخرطوم إلى طوائف مختلفة: العرب منهم أخذوا في عميهم يساندون سياسات رئيس الوزراء الصَّادق المهدي الخرقاء، التي تنحو نحو ليبيا، حتى في تجاوزات ميليشياتهم الفظيعة في أشدَّ ما تكون الفظاعة، ثمَّ كان وزير الدولة بوازرة الدفاع العميد (معاش) فضل الله برمة ناصر المسؤول الرئيس في تجاوزات المراحيل، وتورُّط الحكومة في تجنيد عناصر التجمُّع العربي في دارفور.
أما أعضاء الحكومة غير العرب – وزير الري محمود بشير جماع من قبيل الزغاوة، وعلي حسن تاج الدين من المساليت – فقد باتوا منقسمين. إذ ارتأوا أنَّ في تجاهل ضبط الوضع في دارفور سوف تخرج الحال الأمنيَّة من أيديهم، وأنَّ ولاءهم لرئيس الوزراء الصَّادق المهدي وحزب الأمَّة أمسى يمر باختبار عسير في أشد ما يكون العسر. أما البرلمانيُّون الذين ارتبطوا بجبهة نهضة دارفور فقد هدَّدوا بتقديم استقالاتهم إذا لم يتحسَّن الوضع الأمني في دارفور، وأنَّ كثراً من مجنَّدي الفور في الجيش السُّوداني، الذين كانوا يقاتلون في الجنوب، شرعوا يهجرون القوَّات المسلَّحة مليَّاً، ثمَّ أنَّ كثراً منهم أخذوا يلتحقون بالجيش الشعبي لتحرير السُّودان. في تلك الأثناء سافر العميد (معاش) فضل الله برمة ناصر ورئيس هيئة الأركان في الجيش السُّوداني الفريق فوزي أحمد الفاضل إلى لندن متوسِّلين إلى السيِّد أحمد إبراهيم دريج بصفته من قبيل الفور بالعودة إلى السُّودان ومساندة الحكومة، حتى لا تتلاشى القوَّة الضاربة من قبيل الفور في القوَّات المسلحة السُّودانيَّة من خلال الهجران المتزايد. في تلك الأوقات نشط الحزب الاتحادي الديمقراطي بالتحرُّش بحليفه حزب الأمَّة في الحكومة الائتلافيَّة. فها هو وزير الداخليَّة سيد أحمد حسين، ووزير الخارجيَّة الشريف زين العابدين الهندي في الحزب الاتحادي الديمقراطي، لا يدخران جهداً إلا وقاما بانتقاد سياسات الصَّادق المهدي الشوهاء في ابتياع السُّودان لليبيين، وكأنَّه كان في الأمر غموضاً يتعيَّن استجلاؤه.
في نيسان (أبريل) 1986م اندلعت تظاهرات عنيفة في محطة السكة حديد في مدينة نيالا حين رفض المجنَّدون من أبناء الفور صعود القطار الذي كان سينقلهم إلى مدينة واو بجنوب السُّودان. كانت هناك ثمة منشورات موزعة تحمل تساؤلاً فحواه: "لماذا الذهاب إلى محاربة إخوتنا في الجنوب؟" وفي 13 أيلول (سبتمبر) كانت هناك ثمة احتجاجات أخرى في نيالا، حيث تمَّ تخريب بعض المكاتب الحكوميَّة، وقُتِل اثنين من المحتجين. في تلك الأثناء سافر الصَّادق المهدي إلى دارفور؛ أما الرئيس الليبي العقيد معمَّر القذافي، الذي انتوى السفر إلى دارفور، فقد أعرض عن ذلك بعد أن تمَّ إثناؤه عنه. بعد ثلاثة أسابيع فقط من الاحتجاجات كان حاكم إقليم دارفور عبد النبي علي أحمد في الخرطوم مفاوضاً السفير الليبي في السُّودان في سبيل تكامل إقليم دارفور مع منطقة الكفرة الليبيَّة. في نفس ذاك اليوم شرع ابن عم الصَّادق المهدي، أي مبارك الفاضل المهدي، الذي جمع بين حقيبتي وزارة الداخلية والمبعوث الخاص إلى ليبيا، ينكر أنَّ حكومة ابن عمه لم تستلم أيَّة مساعدة ليبيَّة من أجل الحرب في جنوب السُّودان، وأنَّه ليست هناك جيوشاً ليبيَّة في إقليم دارفور.
للمقال بقيَّة،،،