حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء (6/9)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
27 June, 2023
27 June, 2023
shurkiano@yahoo.co.uk
الجدير بالذكر أنَّ الليبيين كانوا يسلِّحون ميليشيا المراحيل، التي كانت حكومة الصَّادق مشغولة الشغل الأعظم في إعدادها لمحاربة – ظاهريَّاً على أقل تقدير – الجيش الشعبي لتحرير السُّودان في بحر الغزال، ولكن في واقع الأمر أنَّ ما استطاعوا إعداده من قوَّة ورباط الخيل كان لمهاجمة المدنيين الدينكا، يقتلون أكثرهم، ويسترقون الأحياء من نسائهم وأطفالهم. وفي يوم 20 شباط (فبراير) 1987م عيَّن رئيس الوزراء الصَّادق المهدي مؤسِّس وقائد مليشيا المراحيل بلا منازع العميد (معاش) فضل الله برمة ناصر وزيراً للدولة بوزارة الدفاع.
برغم من الوجود المتنامي لليبيين في نشاطات الميليشيات في دارفور من أجل استهداف الجنوب، غير أنَّ الهدف الأساس لحكومة طرابلس كان النظام في تشاد. في تلك الأثناء حشد العقيد الليبي معمَّر القذافي قوَّة تراوح تعدادها ما بين 13,000-20,000 رجلاً لغزو تشاد، فضلاً عن 2.000 رجلاً آخر في دارفور، وذلك في سبيل فتح جبهة ثانية بمجرَّد تقدُّم الجبهة الأولى في الهجوم. في الجانب الآخر، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكيَّة أسلحة جديدة قيمتها 15 مليون دولار أمريكي لحكومة حسين هبري في إنجمينا للتصدِّي للعدوان الليبي. من هنا ارتبك الصَّادق وارتعد خوفاً من أن ينغمس في المواجهة الدوليَّة المستعرة مع الكبار، والتفت يمنة ويسرة، ثمَّ فكَّر وقدَّر، وهداه تفكيره وتقديره إلى أن يرسل عضو مجلس السيادة علي حسن تاج الدين، ابن سلطان المساليت في الجنينة، إلى طرابلس ليتوسَّل إلى القذافي بأن يبطئ الخطى في عمليَّة "ليبنة" دارفور – أي جعلها ليبيَّة. وحين أدرك الصَّادق أنَّه ليس بمقدوره تهدئة القائد الليبي معمَّر القذافي، وأنَّ الرحلة لم تبلغ وجهتها المرجوة، طار هو نفسه إلى القاهرة، ووقع "ميثاق الإخوة" مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك، حيث حصل بذلك التوقيع على أسلحة جديدة تعادل قيمتها حينئذٍ 52 مليون دولار أمريكي لمجهود الحرب في جنوب السُّودان.
في سبيل تهدئة شعور القذافي المجروح، شرع الصَّادق ينكر وجود الجيوش الليبيَّة في إقليم دارفور. ذاك كذب بوَّاح، والأسوأ في الأمر أن يأتي ذاك الكذب من شخص كذوب يتدثَّر وشاحاً غير صدوق، وفي الآن نفسه يُسمَّى الصَّادق، والصَّادق على وزن الفاعل في اللغة كان ينبغي أن يكون فاعلاً للصدق، وليس للكذب. أفلم يقل الدكتور الراحل منصور خالد عن الصَّادق المهدي "ليته كان صادقاً، وليته كان مهديَّاً!" على أيَّة حال، لعلَّ من يلجأ إلى الكذب هو الشخص الذي لم يسعفه الحظ في امتلاك المنطق، أو الذي لا يعرف للسؤال جواباً، وكان الصَّادق من أولئك الذين هجرهم المنطق السليم.
أياً كان من أمر، ففي 7 آذار (مارس) 1987م، أمر رئيس الوزراء الصَّادق المهدي الجيوش الليبيَّة بمغادرة دارفور، وألا تقوم هذه الجيوش الليبيَّة بدعم الأطراف المختلفة المتحاربة في تشاد. أفلم يتذكَّر الصَّادق أنَّ دارفور ذاتها هي التي قال عنها قبلئذٍ أنَّه لا وجود للقوَّات الليبيَّة فيها! ومن هنا يبدو أنَّ حكومة الصَّادق المهدي كانت قد تلقت تحذيراً شديد اللهجة من الولايات المتحدة الأمريكيَّة بأن يبتعد عن التعامل مع حكومة العقيد الليبي معمَّر القذافي في طرابلس. وكان في هكذا لم يكن في الأمر ما يدعو لللاستغراب. ولعلَّ قد أحدث ذلك التحذير في نفس الصَّادق أمراً. وفي الآن نفسه سافر نائب رئيس مجلس السيادة السيِّد إدريس البنا إلى طرابلس، إلا أنَّه تلقى ثمة هزيمة هناك في شكل صفعة كلاميَّة: "كيف يتجرَّأ الصَّادق أن يأمر "القوَّات الليبيَّة" بمغادرة دارفور، حيث أنَّ نصفها هم، في واقع الأمر، مواطنون سودانيُّون، وأعضاء في الفيلق الإسلامي، والغالب الأعم منها تشاديُّون!" هكذا تساءل القذافي مندهشاً بكلمات تدفَّقت من فمه. هؤلاء الجنود كانوا عبارة عن "الألوية الدوليَّة" للثورة العربيَّة، وذلك باسم الفيلق الإسلامي الذي كان يتكوَّن من جنسيات إفريقيَّة متعدِّدة، فضلاً عن الدروز اللبنانيين. على أيَّة حال، تمَّ تذكير المبعوث الخاص للصَّادق، أي السيِّد إدريس البنا، أنَّ السُّودان – أو بالأحرى حزب الأمَّة حزب الصَّادق – قد دفع التسهيلات، ولا شك في أنَّ التسهيلات هنا تعني أنَّ الصَّادق يومذاك كان يسدِّد فواتير دعم العقيد القذافي لهم في الجبهة الوطنيَّة المعارضة لنظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري حتى المصالحة الوطنيَّة العام 1977م.
إزاء أطماح وأطماع العقيد الليبي معمَّر القذافي في تصدير الثورة العربيَّة، برز الأمين العام لمؤتمر الجماهيريَّة العربيَّة الليبيَّة، وهو الذي كان على رأس أمر ميثاق الوحدة بين ليبيا والسُّودان، معلناً بأنَّ حرب السُّودان في الجنوب سوف لا تنتهي أبداً إلا حين يصبح السُّودان دولة تقدُّميَّة، وتتَّحد مع ليبيا، ومضى يطلب من الخرطوم أن تستهجن الاتفاق الذي تمَّ توقيعه بينها وبين القاهرة، ثمَّ اعتنف في طرد البنا، وإرساله عائداً إلى الخرطوم خالي الوفاض. من أجل إضافة الجذرة إلى العصا تبرَّع القذافي بأربع طائرات مقاتلة من طراز ميج-23 إلى سلاح الطيران السُّوداني، ومن ثمَّ أعلن الصَّادق أن كل المشكلات مع القوَّات الليبيَّة في دارفور قد حُلَّت حاليَّاً، لأنَّ طرابلس قد قبلت خطة السَّلام السُّودانيَّة، مهما يكن ذلك من أمر.
للمقال بقيَّة،،،
الجدير بالذكر أنَّ الليبيين كانوا يسلِّحون ميليشيا المراحيل، التي كانت حكومة الصَّادق مشغولة الشغل الأعظم في إعدادها لمحاربة – ظاهريَّاً على أقل تقدير – الجيش الشعبي لتحرير السُّودان في بحر الغزال، ولكن في واقع الأمر أنَّ ما استطاعوا إعداده من قوَّة ورباط الخيل كان لمهاجمة المدنيين الدينكا، يقتلون أكثرهم، ويسترقون الأحياء من نسائهم وأطفالهم. وفي يوم 20 شباط (فبراير) 1987م عيَّن رئيس الوزراء الصَّادق المهدي مؤسِّس وقائد مليشيا المراحيل بلا منازع العميد (معاش) فضل الله برمة ناصر وزيراً للدولة بوزارة الدفاع.
برغم من الوجود المتنامي لليبيين في نشاطات الميليشيات في دارفور من أجل استهداف الجنوب، غير أنَّ الهدف الأساس لحكومة طرابلس كان النظام في تشاد. في تلك الأثناء حشد العقيد الليبي معمَّر القذافي قوَّة تراوح تعدادها ما بين 13,000-20,000 رجلاً لغزو تشاد، فضلاً عن 2.000 رجلاً آخر في دارفور، وذلك في سبيل فتح جبهة ثانية بمجرَّد تقدُّم الجبهة الأولى في الهجوم. في الجانب الآخر، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكيَّة أسلحة جديدة قيمتها 15 مليون دولار أمريكي لحكومة حسين هبري في إنجمينا للتصدِّي للعدوان الليبي. من هنا ارتبك الصَّادق وارتعد خوفاً من أن ينغمس في المواجهة الدوليَّة المستعرة مع الكبار، والتفت يمنة ويسرة، ثمَّ فكَّر وقدَّر، وهداه تفكيره وتقديره إلى أن يرسل عضو مجلس السيادة علي حسن تاج الدين، ابن سلطان المساليت في الجنينة، إلى طرابلس ليتوسَّل إلى القذافي بأن يبطئ الخطى في عمليَّة "ليبنة" دارفور – أي جعلها ليبيَّة. وحين أدرك الصَّادق أنَّه ليس بمقدوره تهدئة القائد الليبي معمَّر القذافي، وأنَّ الرحلة لم تبلغ وجهتها المرجوة، طار هو نفسه إلى القاهرة، ووقع "ميثاق الإخوة" مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك، حيث حصل بذلك التوقيع على أسلحة جديدة تعادل قيمتها حينئذٍ 52 مليون دولار أمريكي لمجهود الحرب في جنوب السُّودان.
في سبيل تهدئة شعور القذافي المجروح، شرع الصَّادق ينكر وجود الجيوش الليبيَّة في إقليم دارفور. ذاك كذب بوَّاح، والأسوأ في الأمر أن يأتي ذاك الكذب من شخص كذوب يتدثَّر وشاحاً غير صدوق، وفي الآن نفسه يُسمَّى الصَّادق، والصَّادق على وزن الفاعل في اللغة كان ينبغي أن يكون فاعلاً للصدق، وليس للكذب. أفلم يقل الدكتور الراحل منصور خالد عن الصَّادق المهدي "ليته كان صادقاً، وليته كان مهديَّاً!" على أيَّة حال، لعلَّ من يلجأ إلى الكذب هو الشخص الذي لم يسعفه الحظ في امتلاك المنطق، أو الذي لا يعرف للسؤال جواباً، وكان الصَّادق من أولئك الذين هجرهم المنطق السليم.
أياً كان من أمر، ففي 7 آذار (مارس) 1987م، أمر رئيس الوزراء الصَّادق المهدي الجيوش الليبيَّة بمغادرة دارفور، وألا تقوم هذه الجيوش الليبيَّة بدعم الأطراف المختلفة المتحاربة في تشاد. أفلم يتذكَّر الصَّادق أنَّ دارفور ذاتها هي التي قال عنها قبلئذٍ أنَّه لا وجود للقوَّات الليبيَّة فيها! ومن هنا يبدو أنَّ حكومة الصَّادق المهدي كانت قد تلقت تحذيراً شديد اللهجة من الولايات المتحدة الأمريكيَّة بأن يبتعد عن التعامل مع حكومة العقيد الليبي معمَّر القذافي في طرابلس. وكان في هكذا لم يكن في الأمر ما يدعو لللاستغراب. ولعلَّ قد أحدث ذلك التحذير في نفس الصَّادق أمراً. وفي الآن نفسه سافر نائب رئيس مجلس السيادة السيِّد إدريس البنا إلى طرابلس، إلا أنَّه تلقى ثمة هزيمة هناك في شكل صفعة كلاميَّة: "كيف يتجرَّأ الصَّادق أن يأمر "القوَّات الليبيَّة" بمغادرة دارفور، حيث أنَّ نصفها هم، في واقع الأمر، مواطنون سودانيُّون، وأعضاء في الفيلق الإسلامي، والغالب الأعم منها تشاديُّون!" هكذا تساءل القذافي مندهشاً بكلمات تدفَّقت من فمه. هؤلاء الجنود كانوا عبارة عن "الألوية الدوليَّة" للثورة العربيَّة، وذلك باسم الفيلق الإسلامي الذي كان يتكوَّن من جنسيات إفريقيَّة متعدِّدة، فضلاً عن الدروز اللبنانيين. على أيَّة حال، تمَّ تذكير المبعوث الخاص للصَّادق، أي السيِّد إدريس البنا، أنَّ السُّودان – أو بالأحرى حزب الأمَّة حزب الصَّادق – قد دفع التسهيلات، ولا شك في أنَّ التسهيلات هنا تعني أنَّ الصَّادق يومذاك كان يسدِّد فواتير دعم العقيد القذافي لهم في الجبهة الوطنيَّة المعارضة لنظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري حتى المصالحة الوطنيَّة العام 1977م.
إزاء أطماح وأطماع العقيد الليبي معمَّر القذافي في تصدير الثورة العربيَّة، برز الأمين العام لمؤتمر الجماهيريَّة العربيَّة الليبيَّة، وهو الذي كان على رأس أمر ميثاق الوحدة بين ليبيا والسُّودان، معلناً بأنَّ حرب السُّودان في الجنوب سوف لا تنتهي أبداً إلا حين يصبح السُّودان دولة تقدُّميَّة، وتتَّحد مع ليبيا، ومضى يطلب من الخرطوم أن تستهجن الاتفاق الذي تمَّ توقيعه بينها وبين القاهرة، ثمَّ اعتنف في طرد البنا، وإرساله عائداً إلى الخرطوم خالي الوفاض. من أجل إضافة الجذرة إلى العصا تبرَّع القذافي بأربع طائرات مقاتلة من طراز ميج-23 إلى سلاح الطيران السُّوداني، ومن ثمَّ أعلن الصَّادق أن كل المشكلات مع القوَّات الليبيَّة في دارفور قد حُلَّت حاليَّاً، لأنَّ طرابلس قد قبلت خطة السَّلام السُّودانيَّة، مهما يكن ذلك من أمر.
للمقال بقيَّة،،،