حميدتي ما بين مشروعه السياسي وتسجيله الصوتي (عن متلازمة دكتور جيكل ومستر هايد)!!
عبدالله مكاوي
7 September, 2023
7 September, 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
ما طُرح من مبادرة للدعم السريع علي حساب حميدتي في الوسائط الاجتماعية، والتي تحاول بشتي السبل غسل عار الدعم السريع من انتهاكاته، عبر إعادة تدويره كتنظيم سياسي، او اقلاه كقوات شرعية لها اهداف تتعلق ببناء دولة المواطنة، وقبل كل شئ من اجل تحسين صورة حميدتي كداعية لانهاء الحرب وداعم للحلول السياسية. إلا ان حميدتي بتسجيله الصوتي الاخير، والذي يبدو انه خُصص للرد علي خروج البرهان من البدروم، وتصريحاته في حق حميدتي ومليشياته. نسف كل تلك الصورة وذاك المشروع، وهو يُظهر حميدتي علي حقيقته، همباتي جاهل ومجرم محترف، لا يفقه شيئا لا في ادب الحديث ولا الالمام بما يتحدث فيه، فوق انه يستشهد بآيات قرآنية ليس في مكانها وبطريقة غير لائقة، وعبارات سوقية تشابه لغة اولاد الشوارع. وهو باختصار تسجيل يحاكي نزاع صبية اشرار سرقوا لعبة واختلفوا علي من ياخذها. وفي هذا اكبر دليل ليس علي عبثية الحرب الكارثية التي يتولي كبرها الجنرالان المزيفان، ولكن لنوعية القيادة التي تتصدر المشهد الآن! فهذه القيادات تتعدي مهزلتها افتقادها لمؤهلات القيادة (مهاريا ومعرفيا وسلوكيا)، لابتذال القيادة كقيمة ووظيفة. والسبب انها آلت لافراد هم في الاصل جهلاء ومجرمون وعملاء.
والحال كذلك، الوصول لمرحلة الحرب الدائرة الآن، والتي تضرب عصب الدولة الحي باستهداف وجودها، يبدو انها نهاية منطقية لكم الفوضي والاستهتار والفساد الهائل الذي وسم حكم الانقاذ. وهذا لا يمنع ان رد البصر كرتين الي الوراء، يظهر مكمن العُطب الذي اصاب الدولة السودانية مبكرا، ليوردها موارد الهلاك الراهنة. وهذا العُطب يتعلق تحديدا بواقعة دخول العسكر الي ساحة السياسة، واستيلاءهم علي السلطة. لانه بدخول العسكر علي السلطة، حصل تحول هو بمثابة (قطيعة اذا جاز التعبير)، اصبحت فيه القوة مصدر السلطة بدل الحقوق. والمقصود ان التحول كان شامل وجذري، ليس علي المستوي المادي (السلطة الحاكمة) ولكن علي مستوي التصور الشامل للوجود العيني والمعنوي (ثقافة استبدادية بكل تبعاتها السلبية كنتاج للحكم العسكري)، وعلي كافة المستويات والابعاد (الدولة واجتماعها وعلاقاتها). وبناء علي ذلك تصبح العلة هي الحكم العسكري منذ العام 1958م وليس دولة 56 المفتري عليها، والتي اتخذها الدعم السريع كقضية تشكل ذريعة لتبرير حربه الغير مبررة ، وكتعويض لافتقاره للقضايا والقيم والمبادئ.
وواحدة من الافرازات الحاسمة للبيئة الاستبدادية، انها فتحت السلطة علي قدرات وامتيازات لامحدودة، كما انها غير مساءلة، وما يستتبع ذلك من زيادة حدة التنافس عليها والانشغال بحفظها! والاخطر من ذلك، تغييبها للمعايير الموضوعية (كشروط المنافسة العادلة) المرتبطة بالبيئة المدنية (كتصور شامل) المصادرة سلفا. وبغياب المعايير الموضوعية من الفضاء العام، حلت محلها المعايير الذاتية والمصلحة الخاصة.
والحال ان حكم القوة المحكوم بالفشل (تراكم الاخطاء وغياب المراجعة والتقييم والمحاسبة)، لم يبرر استخدام ادوات العنف عوض عن السياسة في التعاطي مع الشان العام، ولكنه عظَّم من مكانة وامتيازات من يملك هذه الادوات، وهو المؤسسة العسكرية وعلي الاخص جنرالاتها. وترتب علي ذلك تضخم الجانب العسكري كهاجس للسلطة، بالتوازي مع ضمور الاهتمام بمتطلبات الدولة وحاجات الجمهور. ليزداد الحكم العسكري عنفا وسيطرة مع مرور الايام، كتعويض لفشله واحكام لسيطرته، لياتي حكم نميري اشرس من حكم عبود، وحكم البشير اعنف من حكم نميري، وحكم البرهان حميدتي، اوصل العنف لمرحلة الاقتتال الاهلي. وكل ذلك علي حساب مقومات وجود الدولة وحقوق المواطنين.
وما يهمنا في هذا السياق، ان حكم العسكر ومن خلال دنامياته الداخلية والضغوط الخارجية، يعمل باستمرار علي انتاج اسلوب عمل وقادة يشبهونه، سواء من ناحية استخدام كافة الاساليب لحسم صراعات واطماع ليس لها نهاية، وعلي الاخص الدسائس والغدر والخداع والكذب، وصولا لعرض ثروات البلاد علي الخارج، او من ناحية تغييب معايير الاختيار، او بالاصح الانحدار بها لادني مستوي بحيث تناسب الاساليب القذرة السالف ذكرها. لتصبح عاقبة ذلك صعود قيادت تافهة، وتزداد تفاهة مع مرور الايام، وذلك بذات معدل انتهاكاتها وفسادها و تخريبها للاوضاع الداخلية. والمفارقة ان الحكم العسكري وباغلاقه للفضاء السياسي، ينتج حركات مسلحة كنسخة منه، وقيادات لهذه الحركات من ذات طينة القيادات العسكرية! وكأن الوسيلة المستخدمة في صراع السلطة، تحدد نوعية القادة المتصارعين، والعكس صحيح اي طبيعة السلطة تحدد قادتها! وعليه بتحديد الادوات والوسائل تتحدد نوعية القادة وطبيعة السلطة التي يسعون لها.
اما الجانب الآخر من المسالة الشائكة، يتعلق بمن ينتسبون للمدنية كالاحزاب العقائدية، ووقوعها في حبائل اغراء حكم القوة، لتتورط في دعم الحكم العسكري من خلال اعطائه غطاء سياسي. وما زاد الطين بلة، ان الحكم العسكري وعبر تجفيف منابر الوعي والتمادي في نشر الدعاية والزيف، يستميل البسطاء، بوهم وجود مخلص قادر علي تغيير الواقع بضربة واحدة. لذلك وغصبا عن كل كوارث الجنرالات، وبما فيها تعذيب البسطاء وهضم حقوقهم، نجد الكثير منهم يحلم ويطالب بعسكري صارم ليحكم البلاد (وبعضهم يحن لنميري بطريقة مرضية)!
وهذه الطريقة الانقلابية البائسة المكرورة، المُكرِّسة لمناخ الاستبداد، هي المسؤولة عن انتاج قادة اقزام (دون قيم ومعايير ومؤهلات) من نوعية البشير وقوش والبرهان وحميدتي وجبريل ومناوي وغيرهم من (الهلافيت) الذين ابتلينا بهم. وكذلك شركاؤهم في الضلال ممن يسمي مساعدون ومستشارون، والذين يعملون جهدهم للتلاعب بالوقائع وتزيف الحقائق وتبرير الجرائم والتقليل من حجم الاخطاء، لحشد الدعم من المقاتلين المخدوعين والمناصرين السذج، عبر منح غطاء الشرعية لهؤلاء القادة المجرمين! ومؤكد ان اغلب (المساعدين والمستشارين) تحركهم مآرب ارتزاقية والآخرون مطامع سلطوية، يتم تمريرها عبر خداع وشراء رضا هؤلاء القادة الغافلين. (نشكي في الماضي من انتهازية وتلونات وهوان مبارك الفاضل، لنجد حالته تحولت لظاهرة او تيار جارف راهنا).
وبالرجوع للتسجيل المهزلة الذي فضفض فيه حميدتي عن نفسه وكشف عن حقيقته، مجرد مرتزق مغامر، سمحت له العاب الكيزان القذرة بالوصول الي ما وصل اليه. إلا ان خلاصة الخطاب تعبر عن مدي حنق وغيرة حميدتي من بقاء البرهان علي سدة السلطة، التي تتيح له السفر ومقابلة رؤساء الدول، وهو ما فقده حميدتي، الراغب في الحلول محل البرهان، ولو عبر بحور من دماء جنوده قبل اعداءه، الذين يحاول استمالتهم بطريقة فجة. اما ما اثبته التسجيل بما لا يدع مجالا للشك، ان مليشيا الدعم السريع ليس في وارد الدخول في مفاوضات جادة لانهاء الحرب، وان ما تدعيه من رغبة في التفاوض، ما هو إلا دعاية تسويقية لكسب ود الخارج، في حين انها داخليا تستبطن الخدعة، والغدر عند تهيئة الظروف، لحسم الحرب عسكريا! وهذا غير ان الحرب هي اللغة الوحيدة التي تعرفها هذه المليشيات، اي كجزء من بنيتها وليس عارض تفرضه ظروف استثنائية! وتاليا هي قوات في حالة استنفار علي الدوام، ومن هنا خطورة وجودها علي الاستقرار. لذلك من السخرية المريرة بمكان، ان تتحدث هذه المليشيات بلسان الحكمة والبحث عن حلول للمشاكل! لانها ببساطة هي المشكلة، بل ام المشاكل (إلا اذا كان علاج السرطان هو السرطان، او هذا ما يعبر عن حال حميدتي)!
كما بين التسجيل من جانب آخر، عن مدي غرور حميدتي الاجوف (مركب جنون العظمة والضعة). وعن طبيعة العلاقة التي تربط بينه وخليله البرهان، والتي رغم استمرارها لما يزيد عن العقدين من السنين، ارتكبا خلالها من الجرائم ما يجعلهما في مصاف كبار الطغاة والسفاحين. إلا انها علاقة من الهشاشة والتربص بمكان، الشئ الذي احالها بكل سهولة الي احقاد متبادلة لا يمكن جسرها. وذلك ليس مصادفة بمعرفة اخلاقية ومطامع كل من الرجلين. فالبرهان دعم حميدتي بصورة غير مشروطة، من اجل ان يؤَمِن له السلطة كما عمل سلفه البشير. ولكن الفارق ان البرهان وبسبب جبنه وغبائه وطمعه الاعمي، حوَّل حميدتي من مجرد حامي للسلطة، الي طمعان فيها، بعد ان تضخمت مكاسبه العسكرية والاقتصادية لدرجة تكوين دولة موازية! والحال كذلك لو سمح لاحد ان يسجد لاحد، لوجب ذلك علي حميدتي في حق البرهان، كتعبير عن شكره له! ولكنها اخلاق اللؤم ونكران الجميل التي اتصف بها حميدتي. اما ما قدمه حميدتي للبرهان فوصوله لرئاسة مجلس السيادة والبقاء فيه، وحمايته من انقلاب الجيش عليه، ومساعدته في التآمر علي الثورة وحكومتها والفترة الانتقالية، واستمر ذلك حتي خلافات ما بعد الانقلاب.
اما التلميح لدولة 56 المغضوب عليها والفلول، كمبرر لهذه الحرب، وما رافقها من انتهاكات تليق بهمجية المليشيا، فهي مردود عليها. لانه اذا كانت دولة 56 فاشلة، فالدعم السريع احد افرازاتها بعد ان حطمها العسكر، وتاليا حل المشكلة يمر عبر حل مليشيات الدعم السريع. اما الفلول فهم الرحم الذي انجب هذه المليشيات. وعليه، اي معالجة لمشكلة الفلول تصبح هي ذات الوصفة التي تعالج معضلة الدعم السريع. والعلاج عموما يتعدي التفكيك للمحاسبة، اذا كانت هنالك امكانية لحلول جذرية، ولكن للاسف هذا غير متاح. اما اذا كانت القصة مركز وهامش اذا ما صحت تلميحاته المثيرة للفتن، فما ناله الدعم السريع من سلطة وثروة، لم يتحصل عليه احد في تاريخ هذه البلاد سوي الكيزان، وبالطبع عبر النهب والفساد والارهاب. اما بقية خطرفات وهراء التسجيل فلا قيمة له. بل لو كنت اؤمن بنظرية المؤامرة، لاعتبرت ذلك التسجيل الفضيحة، فخ منصوب لحرق شخصية حميدتي، كقدمة لاخراجه من المشهد! وهذا بالطبع اذا صح انه حي يرزق، وليست العاب اعلامية واكاذيب واشاعات سببت لنا الدوار!
اي باختصار ليس للدعم السريع قضية او مبدأ يقاتل من اجله، ولكنها طموحات مسخ شيطاني يملك مليشيا بربرية، يصور له جهله انه امبراطور قادم لحكم السودان والدول المجاورة، وحوله مستشارين وطامعين يسعون بشكل محموم لاعادة انتاج سلطة الانقاذ ولكن بنسخة اكثر وحشية وهمبتة.
واذا كان هنالك من يشبه حميدتي في اوهامه وجهله واجرامه وطمعه في السلطة من غير مؤهلات، ولو علي انقاض الدولة وهلاك شعبها، فهو البرهان (الطبل الاجوف). ولذلك ليس لحميدتي او البرهان ما يزايدان عليه، فكلاهما شريك في كل الجرائم والخراب ما قبل الحرب و ما بعدها.
وما نشاهده من تباري في القتل المجاني وإحداث الدمار واضاعة فرص الاتفاق لايقاف الحرب، وبما فيها الفرصة الاخيرة بعد خروج البرهان. واصرارهما علي ممارسة ذات الاساليب القديمة في المراوغة والكذب والعمالة للخارج والوقوع في احضان الفلول في الداخل، للبقاء في سدة السلطة او الاستيلاء عليها. ما هو إلا دليل علي المحنة التي تعيشها الدولة والمجتمع الخاضع لسلطة (امزجة/رغبات/مخاوف) الافراد، سواء باستخدام المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية اوالعصابات المليشياوية. كما انه يثبت الخاتمة البائسة والنتيجة الكارثية، لاستبدال قيم وثقافة الحرية بقيم وثقافة الاستبداد.
وللاسف واحدة من نتائج تكريس الاستبداد بكل تبعاته، هو الياس من قدرة الاطراف الداخلية علي معالجة الماساة السودانية، سواء كعسكريين او مدنيين. اي الاستبداد لم يورثنا الكوارث والفساد فحسب، وانما العجز والشلل التام لمواجهتها. والحال كذلك، لم يتبقَ لنا إلا المجتمع الدولي، ولكن لسوء الحظ هو نفسه يعاني الارهاق وقلة الاهتمام، وصعوبة التعامل مع اطراف الحرب، وهي بكل هذه اللامسؤولية.
واخيرا
حميدتي ما تستخدمه من لغة (راندوك) وطرح (شفوت) ليس له علاقة بالسياسة او رجال الدولة، وتاليا ما يعد به ليس دولة ديمقراطية وانما دولة مليشيات! كما ان ما تمارسه قواتك الهمجية علي ارض الواقع من دمار لمؤسسات وممتلكات الدولة، وانتهاكات لحقوق المواطنين، هو فعليا استبدال دولة 56 بمملكة سوبا المخربة، وتعريض المجتمع لمحنة حكم التعايشي ومجاعة سنة ستة! اي غراب شؤوم هذا الحميدتي!!
اما البرهان وبعد خروجه من الحصار (وهو للعجب يعتبره انتصار يفاخر به)! كان هنالك عشم بسيط ان يعيد الاعتبار لمحادثات جدة، بمنحها دفقة جدية تتلاءم مع ما يعانيه المجتمع من عذاب، بسبب الحرب الكارثية التي تطاول امدها! ولكن البرهان كعادته (في الغدر والكذب والطمع) رجع لذات خط انقلابه الذي يدعمه الفلول وتحالف الموز والمصريون. لنرجع لواقعة مراوحة ما قبل الحرب، فقط الفارق استبدال لغة المرواغة السياسية باللغة الحربية، باكلافها الباهظة علي المجتمع ومخاطرها علي البلاد.
ورغما عن كل شئ ليس هنالك وجه للمقارنة بين الجيش والجنجويد، فالجيش مؤسسة افسدها التسييس، ولكن الجنجويد تاسيس للنهب والجريمة والفساد. ودمتم في رعاية الله.
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
ما طُرح من مبادرة للدعم السريع علي حساب حميدتي في الوسائط الاجتماعية، والتي تحاول بشتي السبل غسل عار الدعم السريع من انتهاكاته، عبر إعادة تدويره كتنظيم سياسي، او اقلاه كقوات شرعية لها اهداف تتعلق ببناء دولة المواطنة، وقبل كل شئ من اجل تحسين صورة حميدتي كداعية لانهاء الحرب وداعم للحلول السياسية. إلا ان حميدتي بتسجيله الصوتي الاخير، والذي يبدو انه خُصص للرد علي خروج البرهان من البدروم، وتصريحاته في حق حميدتي ومليشياته. نسف كل تلك الصورة وذاك المشروع، وهو يُظهر حميدتي علي حقيقته، همباتي جاهل ومجرم محترف، لا يفقه شيئا لا في ادب الحديث ولا الالمام بما يتحدث فيه، فوق انه يستشهد بآيات قرآنية ليس في مكانها وبطريقة غير لائقة، وعبارات سوقية تشابه لغة اولاد الشوارع. وهو باختصار تسجيل يحاكي نزاع صبية اشرار سرقوا لعبة واختلفوا علي من ياخذها. وفي هذا اكبر دليل ليس علي عبثية الحرب الكارثية التي يتولي كبرها الجنرالان المزيفان، ولكن لنوعية القيادة التي تتصدر المشهد الآن! فهذه القيادات تتعدي مهزلتها افتقادها لمؤهلات القيادة (مهاريا ومعرفيا وسلوكيا)، لابتذال القيادة كقيمة ووظيفة. والسبب انها آلت لافراد هم في الاصل جهلاء ومجرمون وعملاء.
والحال كذلك، الوصول لمرحلة الحرب الدائرة الآن، والتي تضرب عصب الدولة الحي باستهداف وجودها، يبدو انها نهاية منطقية لكم الفوضي والاستهتار والفساد الهائل الذي وسم حكم الانقاذ. وهذا لا يمنع ان رد البصر كرتين الي الوراء، يظهر مكمن العُطب الذي اصاب الدولة السودانية مبكرا، ليوردها موارد الهلاك الراهنة. وهذا العُطب يتعلق تحديدا بواقعة دخول العسكر الي ساحة السياسة، واستيلاءهم علي السلطة. لانه بدخول العسكر علي السلطة، حصل تحول هو بمثابة (قطيعة اذا جاز التعبير)، اصبحت فيه القوة مصدر السلطة بدل الحقوق. والمقصود ان التحول كان شامل وجذري، ليس علي المستوي المادي (السلطة الحاكمة) ولكن علي مستوي التصور الشامل للوجود العيني والمعنوي (ثقافة استبدادية بكل تبعاتها السلبية كنتاج للحكم العسكري)، وعلي كافة المستويات والابعاد (الدولة واجتماعها وعلاقاتها). وبناء علي ذلك تصبح العلة هي الحكم العسكري منذ العام 1958م وليس دولة 56 المفتري عليها، والتي اتخذها الدعم السريع كقضية تشكل ذريعة لتبرير حربه الغير مبررة ، وكتعويض لافتقاره للقضايا والقيم والمبادئ.
وواحدة من الافرازات الحاسمة للبيئة الاستبدادية، انها فتحت السلطة علي قدرات وامتيازات لامحدودة، كما انها غير مساءلة، وما يستتبع ذلك من زيادة حدة التنافس عليها والانشغال بحفظها! والاخطر من ذلك، تغييبها للمعايير الموضوعية (كشروط المنافسة العادلة) المرتبطة بالبيئة المدنية (كتصور شامل) المصادرة سلفا. وبغياب المعايير الموضوعية من الفضاء العام، حلت محلها المعايير الذاتية والمصلحة الخاصة.
والحال ان حكم القوة المحكوم بالفشل (تراكم الاخطاء وغياب المراجعة والتقييم والمحاسبة)، لم يبرر استخدام ادوات العنف عوض عن السياسة في التعاطي مع الشان العام، ولكنه عظَّم من مكانة وامتيازات من يملك هذه الادوات، وهو المؤسسة العسكرية وعلي الاخص جنرالاتها. وترتب علي ذلك تضخم الجانب العسكري كهاجس للسلطة، بالتوازي مع ضمور الاهتمام بمتطلبات الدولة وحاجات الجمهور. ليزداد الحكم العسكري عنفا وسيطرة مع مرور الايام، كتعويض لفشله واحكام لسيطرته، لياتي حكم نميري اشرس من حكم عبود، وحكم البشير اعنف من حكم نميري، وحكم البرهان حميدتي، اوصل العنف لمرحلة الاقتتال الاهلي. وكل ذلك علي حساب مقومات وجود الدولة وحقوق المواطنين.
وما يهمنا في هذا السياق، ان حكم العسكر ومن خلال دنامياته الداخلية والضغوط الخارجية، يعمل باستمرار علي انتاج اسلوب عمل وقادة يشبهونه، سواء من ناحية استخدام كافة الاساليب لحسم صراعات واطماع ليس لها نهاية، وعلي الاخص الدسائس والغدر والخداع والكذب، وصولا لعرض ثروات البلاد علي الخارج، او من ناحية تغييب معايير الاختيار، او بالاصح الانحدار بها لادني مستوي بحيث تناسب الاساليب القذرة السالف ذكرها. لتصبح عاقبة ذلك صعود قيادت تافهة، وتزداد تفاهة مع مرور الايام، وذلك بذات معدل انتهاكاتها وفسادها و تخريبها للاوضاع الداخلية. والمفارقة ان الحكم العسكري وباغلاقه للفضاء السياسي، ينتج حركات مسلحة كنسخة منه، وقيادات لهذه الحركات من ذات طينة القيادات العسكرية! وكأن الوسيلة المستخدمة في صراع السلطة، تحدد نوعية القادة المتصارعين، والعكس صحيح اي طبيعة السلطة تحدد قادتها! وعليه بتحديد الادوات والوسائل تتحدد نوعية القادة وطبيعة السلطة التي يسعون لها.
اما الجانب الآخر من المسالة الشائكة، يتعلق بمن ينتسبون للمدنية كالاحزاب العقائدية، ووقوعها في حبائل اغراء حكم القوة، لتتورط في دعم الحكم العسكري من خلال اعطائه غطاء سياسي. وما زاد الطين بلة، ان الحكم العسكري وعبر تجفيف منابر الوعي والتمادي في نشر الدعاية والزيف، يستميل البسطاء، بوهم وجود مخلص قادر علي تغيير الواقع بضربة واحدة. لذلك وغصبا عن كل كوارث الجنرالات، وبما فيها تعذيب البسطاء وهضم حقوقهم، نجد الكثير منهم يحلم ويطالب بعسكري صارم ليحكم البلاد (وبعضهم يحن لنميري بطريقة مرضية)!
وهذه الطريقة الانقلابية البائسة المكرورة، المُكرِّسة لمناخ الاستبداد، هي المسؤولة عن انتاج قادة اقزام (دون قيم ومعايير ومؤهلات) من نوعية البشير وقوش والبرهان وحميدتي وجبريل ومناوي وغيرهم من (الهلافيت) الذين ابتلينا بهم. وكذلك شركاؤهم في الضلال ممن يسمي مساعدون ومستشارون، والذين يعملون جهدهم للتلاعب بالوقائع وتزيف الحقائق وتبرير الجرائم والتقليل من حجم الاخطاء، لحشد الدعم من المقاتلين المخدوعين والمناصرين السذج، عبر منح غطاء الشرعية لهؤلاء القادة المجرمين! ومؤكد ان اغلب (المساعدين والمستشارين) تحركهم مآرب ارتزاقية والآخرون مطامع سلطوية، يتم تمريرها عبر خداع وشراء رضا هؤلاء القادة الغافلين. (نشكي في الماضي من انتهازية وتلونات وهوان مبارك الفاضل، لنجد حالته تحولت لظاهرة او تيار جارف راهنا).
وبالرجوع للتسجيل المهزلة الذي فضفض فيه حميدتي عن نفسه وكشف عن حقيقته، مجرد مرتزق مغامر، سمحت له العاب الكيزان القذرة بالوصول الي ما وصل اليه. إلا ان خلاصة الخطاب تعبر عن مدي حنق وغيرة حميدتي من بقاء البرهان علي سدة السلطة، التي تتيح له السفر ومقابلة رؤساء الدول، وهو ما فقده حميدتي، الراغب في الحلول محل البرهان، ولو عبر بحور من دماء جنوده قبل اعداءه، الذين يحاول استمالتهم بطريقة فجة. اما ما اثبته التسجيل بما لا يدع مجالا للشك، ان مليشيا الدعم السريع ليس في وارد الدخول في مفاوضات جادة لانهاء الحرب، وان ما تدعيه من رغبة في التفاوض، ما هو إلا دعاية تسويقية لكسب ود الخارج، في حين انها داخليا تستبطن الخدعة، والغدر عند تهيئة الظروف، لحسم الحرب عسكريا! وهذا غير ان الحرب هي اللغة الوحيدة التي تعرفها هذه المليشيات، اي كجزء من بنيتها وليس عارض تفرضه ظروف استثنائية! وتاليا هي قوات في حالة استنفار علي الدوام، ومن هنا خطورة وجودها علي الاستقرار. لذلك من السخرية المريرة بمكان، ان تتحدث هذه المليشيات بلسان الحكمة والبحث عن حلول للمشاكل! لانها ببساطة هي المشكلة، بل ام المشاكل (إلا اذا كان علاج السرطان هو السرطان، او هذا ما يعبر عن حال حميدتي)!
كما بين التسجيل من جانب آخر، عن مدي غرور حميدتي الاجوف (مركب جنون العظمة والضعة). وعن طبيعة العلاقة التي تربط بينه وخليله البرهان، والتي رغم استمرارها لما يزيد عن العقدين من السنين، ارتكبا خلالها من الجرائم ما يجعلهما في مصاف كبار الطغاة والسفاحين. إلا انها علاقة من الهشاشة والتربص بمكان، الشئ الذي احالها بكل سهولة الي احقاد متبادلة لا يمكن جسرها. وذلك ليس مصادفة بمعرفة اخلاقية ومطامع كل من الرجلين. فالبرهان دعم حميدتي بصورة غير مشروطة، من اجل ان يؤَمِن له السلطة كما عمل سلفه البشير. ولكن الفارق ان البرهان وبسبب جبنه وغبائه وطمعه الاعمي، حوَّل حميدتي من مجرد حامي للسلطة، الي طمعان فيها، بعد ان تضخمت مكاسبه العسكرية والاقتصادية لدرجة تكوين دولة موازية! والحال كذلك لو سمح لاحد ان يسجد لاحد، لوجب ذلك علي حميدتي في حق البرهان، كتعبير عن شكره له! ولكنها اخلاق اللؤم ونكران الجميل التي اتصف بها حميدتي. اما ما قدمه حميدتي للبرهان فوصوله لرئاسة مجلس السيادة والبقاء فيه، وحمايته من انقلاب الجيش عليه، ومساعدته في التآمر علي الثورة وحكومتها والفترة الانتقالية، واستمر ذلك حتي خلافات ما بعد الانقلاب.
اما التلميح لدولة 56 المغضوب عليها والفلول، كمبرر لهذه الحرب، وما رافقها من انتهاكات تليق بهمجية المليشيا، فهي مردود عليها. لانه اذا كانت دولة 56 فاشلة، فالدعم السريع احد افرازاتها بعد ان حطمها العسكر، وتاليا حل المشكلة يمر عبر حل مليشيات الدعم السريع. اما الفلول فهم الرحم الذي انجب هذه المليشيات. وعليه، اي معالجة لمشكلة الفلول تصبح هي ذات الوصفة التي تعالج معضلة الدعم السريع. والعلاج عموما يتعدي التفكيك للمحاسبة، اذا كانت هنالك امكانية لحلول جذرية، ولكن للاسف هذا غير متاح. اما اذا كانت القصة مركز وهامش اذا ما صحت تلميحاته المثيرة للفتن، فما ناله الدعم السريع من سلطة وثروة، لم يتحصل عليه احد في تاريخ هذه البلاد سوي الكيزان، وبالطبع عبر النهب والفساد والارهاب. اما بقية خطرفات وهراء التسجيل فلا قيمة له. بل لو كنت اؤمن بنظرية المؤامرة، لاعتبرت ذلك التسجيل الفضيحة، فخ منصوب لحرق شخصية حميدتي، كقدمة لاخراجه من المشهد! وهذا بالطبع اذا صح انه حي يرزق، وليست العاب اعلامية واكاذيب واشاعات سببت لنا الدوار!
اي باختصار ليس للدعم السريع قضية او مبدأ يقاتل من اجله، ولكنها طموحات مسخ شيطاني يملك مليشيا بربرية، يصور له جهله انه امبراطور قادم لحكم السودان والدول المجاورة، وحوله مستشارين وطامعين يسعون بشكل محموم لاعادة انتاج سلطة الانقاذ ولكن بنسخة اكثر وحشية وهمبتة.
واذا كان هنالك من يشبه حميدتي في اوهامه وجهله واجرامه وطمعه في السلطة من غير مؤهلات، ولو علي انقاض الدولة وهلاك شعبها، فهو البرهان (الطبل الاجوف). ولذلك ليس لحميدتي او البرهان ما يزايدان عليه، فكلاهما شريك في كل الجرائم والخراب ما قبل الحرب و ما بعدها.
وما نشاهده من تباري في القتل المجاني وإحداث الدمار واضاعة فرص الاتفاق لايقاف الحرب، وبما فيها الفرصة الاخيرة بعد خروج البرهان. واصرارهما علي ممارسة ذات الاساليب القديمة في المراوغة والكذب والعمالة للخارج والوقوع في احضان الفلول في الداخل، للبقاء في سدة السلطة او الاستيلاء عليها. ما هو إلا دليل علي المحنة التي تعيشها الدولة والمجتمع الخاضع لسلطة (امزجة/رغبات/مخاوف) الافراد، سواء باستخدام المؤسسة العسكرية والاجهزة الامنية اوالعصابات المليشياوية. كما انه يثبت الخاتمة البائسة والنتيجة الكارثية، لاستبدال قيم وثقافة الحرية بقيم وثقافة الاستبداد.
وللاسف واحدة من نتائج تكريس الاستبداد بكل تبعاته، هو الياس من قدرة الاطراف الداخلية علي معالجة الماساة السودانية، سواء كعسكريين او مدنيين. اي الاستبداد لم يورثنا الكوارث والفساد فحسب، وانما العجز والشلل التام لمواجهتها. والحال كذلك، لم يتبقَ لنا إلا المجتمع الدولي، ولكن لسوء الحظ هو نفسه يعاني الارهاق وقلة الاهتمام، وصعوبة التعامل مع اطراف الحرب، وهي بكل هذه اللامسؤولية.
واخيرا
حميدتي ما تستخدمه من لغة (راندوك) وطرح (شفوت) ليس له علاقة بالسياسة او رجال الدولة، وتاليا ما يعد به ليس دولة ديمقراطية وانما دولة مليشيات! كما ان ما تمارسه قواتك الهمجية علي ارض الواقع من دمار لمؤسسات وممتلكات الدولة، وانتهاكات لحقوق المواطنين، هو فعليا استبدال دولة 56 بمملكة سوبا المخربة، وتعريض المجتمع لمحنة حكم التعايشي ومجاعة سنة ستة! اي غراب شؤوم هذا الحميدتي!!
اما البرهان وبعد خروجه من الحصار (وهو للعجب يعتبره انتصار يفاخر به)! كان هنالك عشم بسيط ان يعيد الاعتبار لمحادثات جدة، بمنحها دفقة جدية تتلاءم مع ما يعانيه المجتمع من عذاب، بسبب الحرب الكارثية التي تطاول امدها! ولكن البرهان كعادته (في الغدر والكذب والطمع) رجع لذات خط انقلابه الذي يدعمه الفلول وتحالف الموز والمصريون. لنرجع لواقعة مراوحة ما قبل الحرب، فقط الفارق استبدال لغة المرواغة السياسية باللغة الحربية، باكلافها الباهظة علي المجتمع ومخاطرها علي البلاد.
ورغما عن كل شئ ليس هنالك وجه للمقارنة بين الجيش والجنجويد، فالجيش مؤسسة افسدها التسييس، ولكن الجنجويد تاسيس للنهب والجريمة والفساد. ودمتم في رعاية الله.