حنتوب ما اجمل واحلي ذكراك وناقوسك يدق في عالم نسايننا … لن ننسي أياما مضت لن ننسي ذكراها … لن ننسي أياما مضت مرحا قضيناها

 


 

 

عندما يأت ذكر حنتوب يستيقظ الهدهد من سباته الذي طال ويبدأ في بعثرة الأسئلة يميناً وشمال من غير كلل أو ملل ولسان حاله يقول :
( يا هؤلاء الذين الذين طعنتم رئة البلاد واوقفتم الأوكسجين بل منعتم تدفق الدم في الأوردة والشرايين ظنا منكم أن حنتوب ستفارق الحياة ولكن هيهات فإن هذا الصرح التعليمي منقوش في قلوب الملايين يطوفون به أرجاء العالم الفسيح هذه الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وقد تخرج فيها الافذاذ علي يد علماء كانوا يواصلون الليل بالنهار لتصل الرسالة الي العناوين العطشي الي حب الوطن والسهر علي خدمته في كافة الظروف والاحوال وتقلد المسؤولية برباطة جأش واقدام لا يقبل الانهزام ولا التقهقر وفي ميادين التنافس الشريف رفعت شامة النيل والهدهد جالس علي هامتها كاسات التفوق في منصات بريطانيا وامريكا وكل العواصم التي تفسح الفرص وتوفر الكراسي لاهل البحث والاستزادة من المعارف والقيم والنبالة من أجل إسعاد البشرية كلها دون تردد أو شعور بالرهق أو الضجر فالقضية معها كل شيء يهون ولابد من صنعاء ولو طال السفر ...
سعدت برسالتك أخانا محمد المحسي ابن الأستاذ عبد الحليم صالح اسماعيل الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه كونه نال الشرف ودخل موسوعة الأساتذة بمدرستنا الأم الرؤوم وتنورت به شعبتي الرياضيات واللغة الانجليزية ...
وبهذه المناسبة الغالية ونحن في معرض الرجوع للجذور والماضي التليد وذكري ناقوس عمنا مصطفى ( جرس ) الذي كان لايحتاج الي ساعة ( رولكس أو جوفيال ) ليضبط سير الحصص والدخول والخروج و ( فسحة الافطار وفسحة الساعة ١٢ لشرب الماء واخذ قسط من الراحة ) ومن ثمن معاودة الانكباب علي الكتب والإصغاء لما تجود به قريحة أهل العلم وهم ينفحون الطلاب بعصارة جهدهم وغاية رغبتهم في أن تكون لنا أجيال نفخر بها علي مدي الشهور والدهور والايام والسنين ... عمنا مصطفى ( جرس ) كان أحد عجائب حنتوب يقرع الجرس في مواعيده المحددة بإشارة هاتفية تأتيه هكذا عفو الخاطر من اعماق نفسه الشفافة وكما قلنا فهو لا ينظر إلي ساعة حائطية أو ساعة ( جيب ) أو ساعة ( معصم ) ...
نحن معشر طلاب دفعة ١٩٦٤ وصلنا الداخليات عصر الجمعة ١٩٦٤/٦/٣٠ وفي المساء اخطرنا العم مصطفي عن طريق ناقوسه الشهير أن نتجه الي الفصول لنستلم الادوات المدرسية من كتب وكراسات وخلافه والشيء المذهل أنه في اليوم التالي يوم السبت الموافق الاول من يوليو ١٩٦٤ توجه المعلمون كل الي فصله وبدأوا عملية التدريس وكان المدرسة قد فتحت أبوابها قبل شهر وشهرين ( اين نحن الآن من تعطيل في فتح المدارس وتراكم الدفعات التي تنتظر امتحانات الشهادة السودانية ) ...
في الصف الأول ( نيوتن ) من وزع لنا الادوات المدرسية وعرفنا بنفسه أنه الأستاذ محمد عثمان محمد الامين وكان يرتدي شورت طويل وقميص وله لحية كثيفة ومن البداية لمسنا فيه الزهد والصلاح وجاءنا صبيحة السبت موعد ضربة البداية للعام الجديد معلما للرياضيات والعلوم وكان يتميز بخط غاية في الدقة والجمال ...
شعبة الرياضيات كان يترأسها مستر ( ماكنزي ) وهو من اب هندي وام إنجليزية وكان معه بالشعبة الأستاذ لبيب المصري وسمعنا أنه أضاف نظرية جديدة في الهندسة وكان هنالك أيضا نابغة الرياضيات ابن المسلمية الأستاذ بخيت عثمان وكان الأستاذ بخيت في فترة من الفترات قد ابتعث الي امريكا وبما أنه سوداني قح مابرضي الحقارة لم تعجبه عنصرية اليانكي فزهد في بعثتهم وقفل راجعا الي أرض أجداده أرض النيلين معززا مكرما ...
اذكر من منسوبي شعبة الرياضيات الأستاذ عبد العزيز محي الدين الذي صار فيما بعد مديرا لشعبة امتحانات السودان وقد تميز بالحزم والعمل الجاد ...
وفي شعبة الرياضيات وغيرها وفد لحنتوب طلاب من الفرقة الثالثة بمعهد المعلمين العالي للتدريب وبعد التخرج جاء عدد منهم لحنتوب للعمل فيها وكان منهم علامة اللغة الإنجليزية الأستاذ السر محجوب الذي اختاره الصادق المهدي ليكون علي رأس الخطوط الجوية السودانية وكان قد نال دكتوراه في القوي العاملة من النرويج وعمل أيضا مترجما وسكرتيرا خاصا للكابتن احمد مطر مدير عام الخطوط الجوية السعودية ... وعمل مسؤولا عن صندوق دعم الولايات ثم وزيرا للعمل وختم حياته سفيرا في نيجيريا حيث وافته المنية هنالك ( نسأل الله سبحانه وتعالى له الرحمة والمغفرة والرضوان واعالي الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) ...
الأستاذ السر محجوب وهو من أبناء الجموعية بالرهد كان الأستاذ المقيم بداخليتنا ( أبو عنجة ) هذه الداخلية التي سمعنا بأن ثلاثة من أخطر العناصر السودانية أقاموا فيها وهم حسن الترابي ومحمد ابراهيم نقد وجعفر نميري كما أقام فيها الدكتور النابه اخصائي زراعة الكلي كمال ابوسن الذي كان يجري عمليات نقل الكلي لأهله بالسودان مجانا معترفا بفضلهم في أنهم ساهموا في تعليمه في كافة المراحل والإقامة بالداخليات حتي الحصول علي الدكتوراه من بريطانيا .
في شعبة اللغة الانجليزية كان الأستاذ القامة الشامخ الضليع حمدالنيل الفاضل وقد تشرفنا به معلما لنا ونحن في الصف الأول ( نيوتن ) وفي الصف الرابع ( فارادي ) في العام ١٩٦٨ حظينا به مرة أخري أستاذا لمادة الأدب الإنجليزي وكم صال بنا وجال مع كتاب ( The Gun ) وحقيقة هذا ليس بكتاب بل ( Volume ) وحفظنا كثيرا من مقاطعه مثل ( The gun went on fighting against the French ) وتمتعنا بكتاب ( The Importance of being Earnest ) مع هذا الكاتب المجنون ( اوسكار وايلد ) وجنونه يتمثل في هذا التعبير كمثال علي استهتاره وخروجه عن المألوف ( Families are a tedious pack of people who haven't got the remotest Idea of how to live and when to die ) . ( منتهي الهلوسة ) .
أما هذا النرويجي (ابسن) فقد تفوق علي الإنجليز في لغتهم ومسرحهم وكانت له عدة قصص بين دفتي كتاب واحد اختاروا لنا منها قصة ( The Pillars of the community ) . ونلتقط لكم منها تعبير يقرأ ( Old Friendship Doesn't Rust ) .
للاسف حصة الادب الإنجليزي اليوم تحولت إلي لغة عربية والترجمة علي الشريط والطالب يريد ذلك لأنه لايريد أن يتعب أو أن يفهم بل يريد النجاح بالمذكرات والدروس الخصوصية والمعسكرات وأستاذ فلان ملك الكيمياء وأستاذ علان الذي تضعه الاعلانات في مرتبة اعلي من شكسبير ... مع أن الكتب المقررة مبسطة غاية التبسيط لا تستعصي علي تلميذ الصف الأول الابتدائي .
عندما وصلنا حنتوب في العام ١٩٦٤ كان يدير المدرسة الأستاذ ونجت برسوم لأن الناظر لم يصل بعد وبعده أدار المدرسة الأستاذ أحمد حسن فضل السيد الي أن وصل المدير العملاق عبد الباقي محمد عبد الباقي ونحن في السنة الثانية وقد اضربت المدرسة في عهده مرتين الأولي بسبب طالب ادعي أن أحد الأساتذة دفع بوالده جانبا وهو بهم بدخول ( الرفاص ) حتي تستطيع زوجته الصعود الي الرفاص اولا مما أوقع الاب في الماء ونتيجة لهذا الحدث توقفنا عن الدراسة لأكثر من شهرين ويوم رجعنا وجدنا جدول الامتحان مسلط علي رقابنا كالصارم الهندي ومن يرسب فما عليه إلا أن يحزم امتعته وييمم شطر أهله ( مفصول ) غير مأسوف عليه وعلي شبابه الغض ) وفيما بعد اتضح أن قصة الطالب كانت ملفقة وان الأستاذ حاول أن يساعد الأب وربما تعثر الاب وحدث ما حدث ... المهم ضاعت منا ستون يوما ومثلها يوم اضربنا للمرة الثانية في رمضان عندما كانت السفرة خالية من التين والزبيب فاوسعنا الترابيز ضربا بالملاعق الغليظة الشبيهة بالكواريك حتي سمعت مدينة ودمدني هذه الثورة الملاعقية الضخمة والتي أعقبها تكسير لمحتويات السفرة ورمي الطعام أرضا في فوضي وجنون لا يليق بأهل العلم وايضا تم طردنا الي اهلنا وعدنا بعد شهرين لنجد جدول الامتحان ينظر إلينا في شماتة وخبث ومن رسب فله الويل والثبور وعظايم الأمور والفصل النهائي من المدرسة .
استطيع ان اقول ان السنة الثانية بالنسبة لدفعتنا مرت كما يمر النسيم ولم ندرس أي شيء ذي بال فقد كانت السنة اقصر من ضل الضحي بسبب الاضرابين الشهيرين في عهد العملاق عبدالباقي محمد عبدالباقي وقد عرفناه إداريا حاذقا قويا لايجامل في ما يختص بالقانون والأمن والنظام وعندما تم نقله من المدرسة دخل كل الفصول مودعا أبناءه الطلاب وقد أحسنوا وداعه بالتصفيق الحاد والاشادة بحزمه وأنه لا تأخذه لومة لائم في تطبيق اللوائح والنظم من أجل أن تسود المسؤولية ويختفي التسيب وتتواري الفوضي وكل ذلك من أجل المجتمع والوطن والإنسانية جمعاء .
توجد لنا بحنتوب ذكريات اثيرة الي النفس وفي هذا الصرح تعلمنا الديمقراطية التي يتمشدق بها البعض في هذا الزمن الذي أصبحت الحروب هي عملته المتداولة وتعلمنا الزمالة الحقة والوطنية واحترام الآخر والحفاظ علي البيئة والمساهمة في مشاريع الخير ولو بالنذر اليسير والمضي قدما في الاستزادة من العلم والتحصيل والبعد عن الغرور وحمل الوطن في حدقات العيون في كافة فجاج الأرض والاعتزاز به والافتخار والعودة من المهاجر بما يضيف للوطن الحبيب ويجعله منارة يري ضؤها الآخرون من بعيد ...
كنا نحتفظ بالصور والمذكرات لحنتوب الجميلة وللاسف وباندلاع الحرب اللعينة العبثية المنسية تركنا دورنا وأهلنا وصورنا وذكرياتنا وراءنا وقد رأينا ماذا فعل الجنجويد بالاوراق والشهادات والأمتعة وقد مزقوا كل شيء ودمروا كل شيء تشفيا وانتقاما ... وكل مانرجوه الآن إن شاء الله سبحانه وتعالى العودة الي بلدنا الحبيب سالمين غانمين سعيدين فرحين مسرورين مستبشرين وصلي الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين .
ودمتم في رعاية الله وحفظه .

اخوكم حمدالنيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي
معلم مخضرم . خريج حنتوب سنة ١٩٦٨ .

ghamedalneil@gmail.com

 

آراء