حوار صحفي بين الشبكة السودانية الاميركية للاعلام والخبير الاقتصادي الدولي الدكتور اميل خوري

 


 

 

http://sudaneseusa.com/news.php?nid=801


في البداية نود ان نعرف من هو الدكتور اميل قسطندي خوري

في بداية الحديث، اود ان اتقدم من الشبكة الاعلامية السودانية الاميركية، ممثلة بمديرها العام السيد سمير ابراهيم الفاضل، بالشكر الجزيل على اجراء هذا الحوار، املا ان يكون على مستوى الفائدة التي يرجوها اخي القاريء العربي واختي القارئة العربية في الوطن العربي الكبير وفي بلاد المهجر. في الحقيقة انا من مواليد الاردن. بعد ان انهيت دراستي الثانوية العامة (الفرع العلمي) بمعدل 92 % انتقلت الى الولايات المتحدة الاميركية واقمت في بداية الامر في ولاية ميشيغان. وبحكم دراستي الجامعية تنقلت من مكان الى اخر عبر مدن وولايات مختلفة مثل ولاية فيرجينيا وتكساس، الى ان انتهى بي المطاف في ولاية كاليفورنيا حيث بقيت فيها لمدة طويلة تراوحت بين طلب العلم والعمل معا. بعد ذلك اضطررت الى العودة الى بلدي الاردن بسبب ظروف عائلية. بالنسبة لدراستي الجامعية العليا، فانا حاصل على دكتوراة في ادارة الأعمال. وبالنسبة لمجال عملي فقد عملت كمدرّب في المجال الاداري ومدرّس من خلال الانترنت، كما شغلت مناصب ادارية متوسّطة وعليا في العديد من الشركات والمؤسّسات العريقة. وانا حاليا متخصّص كمحلل وكاتب وخبير في الشؤون الادارية والاقتصادية والابحاث والتحقيقات العلمية. اما بالنسبة للحالة الاجتماعية فانا متزوّج ولي ابنة واحدة، والحمد والشكر لله عز وجل على كل شيء "لئن شكرتم لازيدنكم".


نود ان نسمع رأيك في قضية الساعة، فدعنا ندخل في الموضوع مباشرة. ما هو رايك في مسبّبات الانهيار المالي العالمي الحالي؟ هل هو انهيار اقتصادي بحت، ام ان له علاقة بالحروب والصراعات الدائرة في الشرق الاوسط وفي اجزاء اخرى من العالم؟

في الواقع هناك اسباب عديدة للانهيار الاقتصادي الناجم عن الازمة المالية العالمية الحالية التي عصفت بالعالم كله. اهم هذه الاسباب، في رأيي المتواضع، عولمة الاقتصاد وحرية التجارة وانفتاح الاسواق بعضها على بعض، الامر الذي مهد الطريق امام بعض الدول الناشئة الى الصعود الاقتصادي، وبالتالي فرض تـأثيرها على موجات التدفق التجاري والصناعات والصادرات على المستوى الاجمالي للاقتصاد العالمي، مما ادى الى اختلال بعض التوازنات الاقتصادية الهامة والمؤثرة في بيئة الاعمال الكلية وحلقات النشاط الاقتصادي العام. والمثال الكلاسيكي على بروز هذا الوضع صعود الصين الصناعي والتجاري والهند على صعيد التوافر الغزير للعمالة والتقدم التكنولوجي الهائل. اضف الى ذلك الانفتاح الكبير الذي حصل في الاسواق المالية (اسهم وسندات وصكوك وعملات) بحيث افتقر العديد من تداولات ومعاملات هذه الاسواق الى اجراءات رقابية وتنظيمية وتشريعية صارمة قادرة على ضبط ايقاعها وتقلباتها اللولبية، الامر الذي اوصل اسواق البورصة ومراكز المال الى حالة الانهيار او التشرذم الدياسبوري التي الت اليها. وقد ساهم في تردي هذا الوضع اكثر فاكثر توافر الية استخدام الانترنت -- هذه التكنولوجيا العجيبة التي استطاعت ان توفر لبعض الطامعين في الثراء العاجل الخميرة او الارضية المناسبة للقيام بعمليات عديدة من النصب والاحتيال وممارسة القرصنه الالكترونية من خلف كواليس الاثير على اعداد كبيرة من المستثمرين المتطلعين الى كسب الربح السهل والسريع، الذين وللاسف الشديد وضعوا جلّ ثقتهم المالية (ان جاز التعبير) بشكل شبه مطلق في بعض المتعاملين او المتداولين في عالم المال وسماسرة اسواق البورصة، دون ان يحمّلوا انفسهم عناء السؤال عن حقيقة هؤلاء الاشخاص او عن مصدر الارباح التي يجنوها او الالية التي تتم من خلالها عمليات جني الارباح وتعظيم الاموال، مما ادى بالنتيجة الى خسارة مدخراتهم وضياع استثماراتهم في اسواق تداولات الاوراق المالية. وانا اود من خلال هذه البانوراما الحوارية ان اسدي نصيحة الى المستثمرين في اسواق التعاملات المالية بان يبتعدوا عما يسمى احيانا "نهج القطيع" (مصطلح اقتصادي يعني تدني مستوى وعي الناس بامور او حيثيات الاستثمار في عالم الاسهم الشاسع) بحيث يتعين عليهم ان يكونوا على اقصى درجات الحرص والتيقظ في مغامراتهم الاستثمارية وتطلعاتهم الى تحقيق مكاسب مادية. والطامة الكبرى في نظري ان مثل هذه الممارسات الغريبة لم تقتصر على عامة الناس فحسب، بل طالت بعض عمليات الاحتيال (كصناديق المال والمشاريع الاستثمارية الوهمية التي تدار بمليارات الدولارات) العديد من المؤسسات المالية العالمية والبنوك الكبرى، الامر الذي ادى الى استنفاذ سيولتها النقدية، وبالتالي أفقدها القدرة والتوازن على منح القروض للشركات والمستثمرين والافراد. وهذا بدوره ادى الى نشوء الازمة الائتمانية اثر تشديد معايير الاقراض (وهو ما يسمى في علم الاقتصاد بسياسة ترشيد الائتمان) والتي زاد من تفاقمها ازمة الرهون (القروض) العقارية التي طالت قطاعات اقتصادية حساسة وهامة كقطاع البناء والانشاءات واسواق الاسكانات الاميركية. وكنتيجة مباشرة لشح السيولة ونقص الائتمان وعدم قدرة المستهلكين والمستثمرين على الاقتراض من البنوك، تراجع الطلب الاستهلاكي على السلع والخدمات وانخفضت معدلات استثمارات الاعمال، مما ادى الى انكماش واعاقة النمو وازدياد وتيرة التباطؤ في الناتج القومي الاجمالي، وبالتالي تقويض الاداء العام للنشاط الاقتصادي. واذا بقيت الامور سائرة على هذا الحال، فانا اخشى اننا لا محالة سوف نصل الى مرحلة عقيمة سنضطر معها الى اللجوء الى خيار تصفير الفائدة كملاذ اخير باتجاه شحن رغبة المستهلكين والمستثمرين في الاقتراض وتشجيع الطلب وتحفيز الانفاق. اما بالنسبة للحروب والصراعات الدولية، فلا شك ان لها تأثير مباشر وكبير على تجميد النشاط العام للحلقات الاقتصادية، كنتيجة حتمية لارتفاع معدلات الانفاق الرأسمالي الحكومي على الحرب ولوازمها ومتطلباتها، الامر الذي يؤدي بالنتيجة الى تفاقم العجز المالي في الموازنة العامة، وهذا بدوره يؤثر سلبا على قيمة العملة ويعمل على انحسارها امام عملات دولية اخرى. اضف الى ذلك انه في حالات الحرب، عادة ما تقوم الدولة المنخرطة في الصراع بتوجيه طاقاتها وثرواتها ومواردها (سواء المالية او المادية او البشرية) الى التصنيع العسكري ومشتقاتة والخدمات الداعمة له (كالمستشفيات والنقل والعمالة)، الامر الذي سيكون بالطبع على حساب مجمل النشاطات الانتاجية والاستثمارية بكافة اشكالها وانواعها من صناعة وزراعة وتجارة وسياحة وبناء وانشاءات واسكانات وتكنولوجيا المعلومات وطاقة واتصالات وبنى تحتية وتصدير للسلع والخدمات ... الخ. ففي مثل هذه الظروف الاستثنائية عادة ما تجد هذه الدولة نفسها مضطرة الى التخلي عن الزبدة مقابل السلاح، كأمر محتوم ومنطق يفرض نفسه على ساحة الاحداث ووقائع الامور. ومن هنا، تبدأ صادرات الدولة  تتعثر وتشهد تراجعا مريرا مما يجعل ناتجها المحلي الاجمالي يتدنى، وقد يصل الى الصفر او حتى الى معدلات سلبية، الامر الذي يفقد اقتصادها أمانه ويربك مساره التقدمي. ولكي نفهم الصورة اكثر، خذ على سبيل المثال الخسائر المالية الاجمالية التي تكبدتها اقتصاديات دول العالم جراء الازمة الاقتصادية العالمية الراهنة. ففي الاشهر القليلة الماضية (منذ سبتمبر 2008 والى تاريخه) بلغ حجم الخسائر المالية 2.8 تريليون دولار (2800 بليون/مليار).


دكتور خوري، هل يوجد امل في الخروج من هذه الضائقة؟

بالطبع. الامل دائما وابدا في الله سبحانه وتعالى موجود. واحب ان اقول لك ان "التفاؤل" امر مطلوب وبقوة، لاسيما في هذه الظروف القاتمة التي تخيّم على اطراف العالم بأسره وتجثم على انفاسه. ولكن لماذا انا متفائل؟ اولا لانني انسان مؤمن بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره المحتوم، وثانيا لان الاقتصاد الكلي قد تعرض عبر مراحل وحقبات تاريخية عديدة الى فترات عصيبة من الركود او الكساد الكلي (ملاحظة: الكساد هو تراجع حاد في النمو الاقتصادي اكثر شدة وعمقا من الركود) تلتها فترات اخرى من الرخاء الاقتصادي وانتعاش في النمو، نتيجة لتبني سياسات مالية ونقدية حصيفة تمكنت وبكفاءة عالية من تعديل وتوجيه دفة الاقتصاد في المسار السليم ودفعه باتجاه بر الامان. اما بالنسبة للازمة المالية العالمية الحالية، فالامر، في رأيي المتواضع، يتطلب جهودا حثيثة لتفعيل برامج اقتصادية تحفيزية على وجه السرعة وبدون ادنى ابطاء. فمن الخطط والاستراتيجيات المطلوب وضعها واقرارها لمكافحة الركود وانعاش الاقتصاد وتشجيع الطلب الكلي، ضخ سيولة نقدية في البنوك والمؤسسات المالية واسواق الاسهم (البورصة)، منح المزيد من القروض ورفع مستوى مرونة الائتمان وذلك من خلال تسهيل اجراءات الاقراض، تخفيض الاسعار على المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية الضرورية والمواد الاولية الاساسية ومستلزمات الحياة اليومية (كالمحروقات والغاز ووقود التدفئة على وجه التحديد) وخفض الضرائب (كضريبة مداخيل الافراد وضريبة ارباح الشركات على رأس المال). وكلنا نذكر، على سبيل المثال، الخفض الضريبي الذي  اقره الكونجرس الاميركي ابان ادارة الرئيس الاميركي السابق جيرالد فورد عام 1975 كم كان ناجحا في اخراج الاقتصاد من دائرة الركود انذاك. ويجب كذلك زيادة معدلات المبادلات التجارية بين الدول (وهذا في رأيي افضل بكثير من اتخاذ اجراءات حمائية كتخفيض كوتا الواردات او رفع مستوى الرسوم الجمركية على سلع استراتيجية هامة كالصلب والحديد والاسمنت والحبوب) وذلك من خلال منح تسهيلات وحوافز على الاستيراد والتصدير (كخفض الرسوم الجمركية على المواد الاولية والسلع الاساسية المستوردة مثلا)، منح اعفاءات او تخفيضات ضريبية على السلع والخدمات (كضريبة المبيعات وضريبة القيمة المضافة)، تخفيض اجور النقل والشحن (البحري والبري والمائي) ورسوم الموانيء والمرافق المساندة، وتخفيض كلف الانتاج التشغيلية المباشرة (كالعمالة والمواد الخام) والمصاريف الادارية والخدمية وغيرها من نفقات غير ضرورية. ويجب على الحكومة ايضا زيادة معدلات الانفاق الرأسمالي على اقامة مشاريع انتاجية مادية (كالصناعة والزراعة) وانشاء مشروعات تشغيلية صغيرة ومتوسطة (كالترميمات الانشائية وتصليحات الطرق والجسور) وتمويل نشاطات حرفية مختلفة لرفع مستوى التدريب المهني للمواطنين، وذلك من اجل توفير وظائف وفرص عمل من شأنها ان تعمل على تخفيف نسب البطالة المرتفعة والحد من انتشار الفقر. وفي هذا الصدد، لنتذكر معا، وعلى سبيل الطرح، البرامج الخاصة التي استحدثها الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر عام 1977 والتي تمثلت في انشاء اشغال عامة ميكروية (صغيرة) بحيث تمكنت هذه البرامج التحفيزية من توفير ما يقارب المليون وظيفة من وظائف الخدمة العامة. ويجب على الحكومة كذلك تقديم دعم نقدي للمواطنين على غرار الدفعات النقدية التي قدمتها الحكومة الاميركية لدافعي الضرائب عام 1974 لكسر جمود الركود الاقتصادي الذي ساد في تلك الفترة (1973 - 1975). فقد تمكنت تلك الدفعات المالية المباشرة (والتي ترواحت من 100 الى 200 دولار للفرد) من تحفيز الانفاق الاستهلاكي، وبالتالي دفع وتحريك عجلة الاقتصاد المتعثر انذاك. وفي اي حال من الاحوال، يجب ان لا يقتصر الحراك الانتاجي او الاستثماري الهادف لانعاش الاقتصاد على القطاع العام فحسب، بل يجب ان يكون للقطاع الخاص دور محوري ومشاركة حقيقية في التعامل مع مجمل المشاكل الاقتصادية العالقة من اجل تحقيق التنمية المنشودة ودعم مسيرة البناء والعطاء. وهذه دعوة للمستثمرين ورجال وسيدات الاعمال لانتهاز الفرص المواتية التي وفرتها الظروف السانحة للبدء في تفعيل خططهم الاستثمارية والشروع في تنفيذ مشاريعهم التوسعية.  


بعض المحللين ذهبوا الى المقارنة بين مرحلة الكساد الكبير الذي حدث عام 1929 وما يجري الان في العالم. هل يعتقد الدكتور خوري ان هذه المقارنة منطقية؟

لكي نفهم ما حدث عام 1929 وما يحدث الان، دعني استخدم اسلوبين في تحليل وقائع الحدثين: اسلوب المقاربة واسلوب المقارنة. بالنسبة للمقاربة، توجد هناك بعض اوجه التشابه بين الحدثين مثل الارتباك الشديد الذي حصل في الاسواق المالية والتراجع الحاد في الاستثمار الصناعي (الانتاجي)، الامر الذي ادى الى انخفاض حاد في الناتج الاجمالي الكلي الذي انعكس بوضوح في معدلات نمو سلبية ليس في الولايات المتحدة الاميريكية فحسب، بل ايضا في العديد من دول العالم. وعلى الجانب الاخر من الصورة، فالمقارنة تتجلى في بعض المفارقات بين الحدثين. فمرحلة الكساد العظيم اتسمت بعدة سلبيات منها مثلا اعادة تقييم العملات وفرض قيود صارمة على انتقال/هجرة رؤوس الاموال بين الدول. اما الركود الحالي فهو يتميز بعوامل مختلفة نوعا ما كالازمة الائتمانية التي نجمت عن تسهيلات كبيرة في منح قروض وبدون ضمانات كافية لسدادها ورفد قيمتها، وازمة الرهون (القروض) العقارية عالية المخاطر، وتراجع قيمة الدولار الاميركي (العملة اللوجستية لاحتياطيات البنوك العالمية) مقابل عملات رئيسية اخرى كالين واليورو والاسترليني والفرنك السويسري وغيرها من العملات (ملاحظة: قبل عام 1930 كان الجنيه الاسترليني هو العملة المعتمدة للاحتياطيات الدولية)، والارتفاع الصاروخي لاسعار التوأمين (النفط والذهب)، والخسائر المالية الفادحة التي منيت بها بنوك وشركات تأمين كبرى كبنك ليمان بروذرز وبير شتيرنز وجيه. بي. مورغان تشيس والمجموعة الاميركية الدولية للتأمين، وتسريح اعداد هائلة من الموظفين مما ادى الى فقدان الاف الوظائف والاعمال. كل هذه الوقائع بمجملها ساهمت بشكل بارز في ايصال الاقتصاد العالمي الى ما اسميه انا "سكته قلبية اقتصادية". وعلى اية حال، فانا شخصيا لا اظن أننا قد دخلنا بالفعل في مرحلة يمكن لنا ان نصفها بالكساد الكبير على غرار الكساد العظيم (1929- 1933) الذي دام ما يقارب الخمس سنوات. بل على العكس، فانا اعتقد ان العالم في وقتنا هذا يمر في مرحلة تصويبية لمنحنى النظام المالي العالمي شاءت له الظروف (ولسوء حظر البشر) ان يكون مغلفا بهذا الركود الذي يخيم على العالم بأسره. وعلى العموم، فانا أميل الى الاعتقاد وبشدة (وقد جل من لا يسهو) بنسبة 85% باننا سنبدأ في تلمس حركة او موجة تصاعدية في الاداء العام للنشاط الاقتصادي الاجمالي العالمي ما بين منتصف عام 2009 والربع الاخير من نفس العام، ان لم يكن مع بداية 2010 على اغلب الظن.


هل تعتقد دكتور اميل أن بامكان الادارة الاميركية الجديدة معالجة الازمة الاقتصادية العالمية في الاطار الاميركي والعالمي؟

خطة الانعاش او النهوض الاقتصادي (والتي تسمى احيانا بخطة انقاذ مالي) التي طرحها الرئيس الاميركي باراك اوباما وتم اقرارها من قبل الكونجرس الاميركي بما يناهز 787 بليون دولار هي خطة طموحة جدا ومحطة هامة على طريق تحقيق التعافي الاقتصادي المنشود، واعتقد انها ستكون مكللة بالنجاح باذن الله عز وجل. فمنح اموال بهذا الزخم للمصارف والمؤسسات المالية بهدف فتح باب الاقراض امام المستثمرين والافراد ودعم الشركات المتعثرة او المنهارة او التي شارفت على شفير الافلاس لمساعدتها على النهوض من جديد والعودة الى حظيرة الاسواق هو بالتأكيد خطوة صائبة على الطريق الصحيح. ما علينا الا أن نعقد الأمل على نجاح هذه الخطة في تحفيز الطلب الكلي وتحريك عجلة النمو الاقتصادي المتباطيء. ولكن لا يكفي ضخ الاموال في البنوك ومؤسسات الاقراض المالية لحل المشاكل المتعلقة بندرة القروض ونقص الائتمان التي تعانيها عن طريق رفع مستوى سيولتها النقدية لان هذا هو جزء يسير من الازمة المالية المتجذرة وما ترتب عليها من مشاكل اقتصادية كثيرة، بل لابد ايضا من زيادة معدلات الانفاق العام على اقامة مشاريع تنموية حيوية (كمشاريع تأسيس البنى التحتية والاستثمارات المتنوعة في مجالات مختلفة كالصناعة والزراعة والسياحة والطاقة البديلة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ومد الطرق والجسور وتوسيع شبكة التمدد السكاني وبناء المدارس والاماكن الترفيهية العامة وتحسين قطاع الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم) وذلك من اجل توليد فرص عمل جديدة ومكافحة الفقر والبطالة، الامر الذي من شأنه ان يؤدي بالنتيجة الى زيادة دخول الافراد والاسر وتحسين مستوى معيشتهم واوضاعهم المادية، وبالتالي زيادة معدلات الانفاق على السلع والخدمات. كذلك لا بد ايضا من تقديم دعم مالي واستشاري للمؤسسات العاملة في نطاق خدمة المجتمع المحلي (كمؤسسات الخدمات الاجتماعية والعيادات الطبية المجانية مثلا) التي تعنى بشؤون المواطنين وتعمل على تقديم كل ما من شأنه ان يوفر لهم مستوى مرضي ومقبول من العيش الكريم. في ضوء ما سبق ذكره، اعتقد ان هذا هو السبيل الامثل لتفعيل الحراك الاقتصادي ومواجهة الازمة المالية المستفحلة في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها العالم بأسره. اما بالنسبة لمعالجة الازمة الاقتصادية على النطاق الدولي، اعتقد ان ذلك ممكن في اطار تحرك فاعل وتعاون دولي مشترك قائم على تفهّم احتياجات الاخر، سواء المتعلق منها بالتجارة البينية او الصادرات والواردات او الاستثمارات المتبادلة ... الخ.


السودان باعتباره أكبر الاقطار العربية والافريقية من حيث الموارد المطمورة في باطن الارض. ماهي من وجهة نظر الدكتور اميل الحلقة المفقودة في عدم استثمار وتوظيف موارد السودان؟

ليس في الامر حلقة مفقودة على ما اعتقد. ولكن، لكي يتم اي نوع من الاستثمار على الاراضي السودانية، لا بد من ان تتحقق بعض الشروط الاساسية مثل توافر رأس المال الاستثماري، ورغبة المستثمرين في انشاء مشروعات استثمارية (انتاجية او زراعية او تجارية او عقارية او سياحية ... الخ) في السودان والتي عادة ما تصنع او تحسم القرارات باقامتها على حسابات الربح والخسارة، وتسهيل اجراءات وشروط الاستثمار من اجل جذب رؤوس اموال المستثمرين سواء من القطاع الخاص او من اصحاب الصناديق السيادية الاستثمارية او المالية (الكاش) واستقطاب الاستثمارات البينية العربية والاجنبية المباشرة للاقتصاد السوداني. ويجب ان لا ننسى ان احد العوامل اللوجستية التي غالبا ما يأخذها المستثمرون في الحسبان هو الاستقرار السياسي للدولة المراد الاستثمار فيها، ناهيك عن عوامل محورية اخرى كالظروف الاقتصادية وتوافر التكنولوجيا المتقدمة وتحقق الامن الاجتماعي والانفتاح التجاري على اقتصاديات العالم الاخرى والتواصل الثقافي والحضاري مع باقي الدول والسياسات الاستثمارية المرنة المتمثلة في توفير البنى التحتية الضرورية لانجاح الانشطة الاستثمارية والحد من البيروقراطية وتبسيط الاجراءات الرسمية وازالة العوائق التجارية وسن القوانين والتشريعات اللازمة التي من شأنها ان تعمل على تحفيز الاستثمار (كتخفيض الضرائب والاعفاءات الجمركية على المواد الاولية المستوردة التي تدخل في العمليات الانتاجية). وكما تعلم، يقال عن السودان انه "سلة غذاء العالم"، الامر الذي يمنحه ميزة نسبية رفيعة المستوى في مجال الزراعة. فمن هذا المنطلق، اعتقد ان اي توجهات او تطلعات استثمارية يراد بها ان تصب في هذا الاتجاه سوف تكون فاعلة وناجحة على اكثر من صعيد، سواء على مستوى البعد الانتاجي او من الناحية التجارية او حتى كنوع من الحلول الاسعافية التي يمكن لها ان تقوم بمعالجة وحل الكثير من القضايا المتعلقة بنقص الغذاء العالمي.


هل تعتقد دكتور خوري أن الاعتماد على البترول كمورد رئيسي لدول الخليج وبعض الاقطار العربية قد اعاق النمو والتقدم الاقتصادي وقلل من فرص ايجاد موارد بديلة يمكن الاعتماد عليها في حال حدوث اية مشاكل تتعلق بانتاج البترول؟

لا شك ان الاعتماد وبدرجة كبيرة على انتاج النفط ومشتقاته في تحقيق تنمية مستدامة ونمو اقتصادي شامل للدول التي ذكرتها وارد كحقيقة فعلية. ولكن يجب ان لا يغيب عن بالنا انه، من الناحية الاقتصادية او على الصعيد الانتاجي او من الزاوية التصديرية مثلا، عادة ما تقوم الدول عامة بتوجيه وتوزيع مواردها على الصناعات اللوجستية  الهامة والحساسة التي تضمن ان تحقق لها اعلى سقف او مستوى من الايرادات والارباح ونمو في الفائض التجاري (الفرق الايجابي بين الصادرات والواردات). اضف الى ذلك ان معظم الاستثمارات الصناعية الثقيلة لدول الخليج وبعض الاقطار العربية المنتجة والمصدرة للبترول او الغاز هي استثمارات افقية (الاستثمارات الانتاجية التي تعنى باستخراج النفط ومشتقاته)، الامر الذي يجعل هذه الدول تتجه بحكم واقعها الجيو- صناعي والاستراتيجي الى استغلال مواردها وقنونتها باكبر قدر من الكفاءة المتاحة في انتاج النفط او الغاز على حساب منتجات اخرى قد تشكل لها ميزة نسبية اقل. وعلى الصعيد الصناعي غير النفطي، توجهت معظم الدول الخليجية بالفعل نحو الاستثمار الصناعي (التصنيع الانتاجي) خارج دائرة الاستثمار المتمركز حصريا في قطاع النفط والغاز. ففي دولة الكويت مثلا، هناك العديد من الصناعات الصغيرة والمتوسطة والصناعات الاستهلاكية (كالمواد الغذائية والاسماك) والصناعات التحويلية (كالبتروكيماويات ومواد التنظيف المنزلي والورق والتغليف والعطور). خذ كذلك المملكة العربية السعودية، فقد تبنت المملكة سياسات اقتصادية حصيفة تهدف بمجملها الى عدم الاعتماد الكلي على ثرواتها النفطية وذلك من خلال العمل الدؤوب على توسيع شبكة قطاعاتها الانتاجية وسلة صادراتها الوطنية، املا في تنويع مصادر دخلها القومي. فانطلاقا من هذا التوجه الاستراتيجي الهام، قامت المملكة بدعم كافة القطاعات الصناعية والاستثمارات الانتاجية (كتقديم قروض بدون فوائد للمشروعات الصناعية وفرض الحماية الجمركية للمنتجات الوطنية وإعفاء العديد من المعدات والمواد الاولية الخام من الرسوم الجمركية) في مجالات تصنيعية كثيرة ومتعددة كالصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية والصناعات الكيميائية والبلاستيكية وصناعة الاغشية وأجهزة التحلية التي تستخدم في عمليات تنقية المياه وتحليتها.


دكتور اميل خوري، نود ان نشكركم جزيل الشكر على هذا الحوار القيّم، راجين لسعادتكم دوام التقدم والنجاح في حياتكم الشخصية والمهنية، ولكم كل التقدير والاحترام.

 

آراء