حوار مع السفير احمد عبد الحليم قبل رحيله
رئيس التحرير: طارق الجزولي
27 November, 2008
27 November, 2008
قبل يوم من سفره الأخير الى لندن "د أحمد عبد الحليم" سفير السودان بالقاهره يروى ذكرياته مع تولى المناصب السياسه من "مايو" الى "الانقاذ"
القاهرة/صباح موسى
قبل يوم من سفره الأخير الى لندن "د أحمد عبد الحليم" سفير السودان بالقاهره يروى ذكرياته مع تولى المناصب السياسه من "مايو" الى "الانقاذ"
لا يوجد تناقض بين عملى فى " مايو "و" الانقاذ " فكل منهما له ظروفه وزمانه
سجنت 7 اشهر بعد الانقلاب على " مايو" ولم اعرف لماذا سجنت ؟ ولماذا خرجت ؟
تطوعت "45" يوما فى جيش التحرير الشعبى 1956 بالاسكندرية ورأيت عمق الوطنية المصرية
القاهرة/صباح موسى
بعد لقاء جمع بعض الصحفيين المصريين بالسفير "أحمد عبد الحليم" بمكتبه بالسفاره السودانية بالقاهره, فهو كعادته من أن لأخر يدعونا ليطلعنا على أخر مستجدات الوضع فى السودان. فكرت فى أن أجرى مع السفير حوارا اخر مختلفا عن مسيرته السياسية وذكرياته معها, فالرجل يعتبر علامه من علامات التاريخ السودانى المهمه وأحد شهداء عصر هذا التاريخ. طلبت من السفير تحديد موعد لاجراء هذا الحوار وفى هذه المره كان ترحيبه شديدا بفكرة الحوار وحدد لى ميعادا صادف اليوم الذى كان قبل سفره الأخير الى لندن مباشرة, ذهبت فى الموعد المحدد واذا بالسفير مشغولا جدا ولكنه أصر على أن أنتظره وبعدها دخلت مكتبه ليقابلنى بابتسامته التى تعودناها منه جميعا وقال لى خلينا نفتكر أيامنا الجميله, وبدأنا الحوار وكان هذه المره مختلفا كان مرتاحا وسعيدا يتحدث بحب عن ذكرياته, انتهى الحوار وعند مغادرتى للمكتب أصر أن أجلس معه وكلما أرادت الانصراف ألح ثانية وأنا متعجبه من هذا الأمر فدائما هو مشغول ودائما الوقت لايكفى ولكن هذه المره هو مختلف يريد أن يتحدث عن كل شئ فى السودان فى القديم والحديث فى شكل (ونسه هادئه) وقاطعتنا مديرة مكتبه قائله بأن هناك ضيفا ينتظر منذ فتره, وفى هذه اللحظه قال لى (خلاص ياستى أفرجنا عنك) نظرت الى المكتب لأجد قطعه من الحجر موضوعة عليه سألت السفير هل هذا الحجر يحكى أثرا معينا ولا انت وضعته هكذا علشان لو قاطعتنا "ليلى" (مديرة مكتبه ) ترميها باالحجر ضحك ضحكة عاليه وقال لى لوكنت بعمل كده كانت دخلت الان ؟ وكان الحجر ليتيمم به السفير قبل الصلاه .وانتهى اللقاء بيننا بابتسامه هادئه قال لى بعدها لازم أشوف هذا الحوار بعد النشر, ودعنى "السفير" بحراره وكأنه الوداع الأخير وقال لى سأسافر لندن غدا ادعى لى, قلت له انشاء الله ترجع لنا بألف سلامه, ولكن لم يعد السفير ولم يكتب له أن يرى هذا العمل ونتمنى من الله أن يكتبه له فى ميزان حساناته, فطالما جلس معنا وشرح لنا تفاصيل كل شئ بصفة أبويه وليست رسمية فكان دائما يردد هذه ابنتى وهذا ابنى. رحم الله السفير وأسكنه فسيح جناته.
البروفسير احمد عبد الحليم السفير السودانى بالقاهرة ووزير الثقافة والاعلام الاسبق فى نظام " مايو " فى عهد الرئيس " النميرى " ويعتبر " عبد الحليم " مهندس تحسين العلاقات المصرية السودانية فى الفترة من 1998 والى الان ، حصل عبد الحليم على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من جامعة الاسكندرية عام 1958 ثم زمالة جمعية المكتبات البريطانية " A.L.A " مدرج فى سجل امناء المكتبات القانونيين فى لندن عام 1961 وبعدها على الدبلوما الاكاديمى العالى فى علوم المكتبات من جامعة لندن عام 1962 ثم حصل على دكتوراه الفلسفة فى التربية " تعليم الكبار " جامعة ادمبرة من عام 1968 ـ 1969 .
تقلد " عبد الحليم " العديد من المناصب داخل السودان وخارجها فكان احد المؤسسين للاتحاد الاشتراكى فى عهد الرئيس السابق " جعفر نميرى " ومدير معهد الخرطوم الدولى للغة العربية من 1980 ـ 1988 ومستشارا للرئيس السودانى فى التنمية الاجتماعية 1989 ومستشارا لمنظمة الامم المتحدة للطفولة " اليونسيف " عام 1989 ، والعديد من المناصب التى يصعب حصرها ، كما ان له العديد من المؤلفات من بينها الجزء الاول من مرشد الببليوغرافيا العربية الاسلامية " باللغة الانجليزية " والسياسة العربية للشباب والرياضة ، واقع الطفل العربى وشارك فى اعداد وصياغة ميثاق العمل الاجتماعى فى الدول العربية واستراتيجية العمل الاجتماعى فى الوطن العربى بالاضافة الى مؤلفات اخرى كثيرة ونال " عبد الحليم " مجموعة من الاوسمة منها الوسام الذهبى للسلم التعليمى ووسام الدستور والجمهورية من الطبقة الاولى والانجاز السياسى ووسام مأرب " اليمن الشمالى " ووسام الجمهورية الاول فى تونس ووسام الاسد الاول من السنغال .
التقينا بـ " عبد الحليم " البالغ من العمر " 72 " عاما بالسفارة السودانية بالقاهرة واسترجعنا معه ذكرياته ابان توليه وزارة الثقافة والاعلام من 1975 ـ 1976 فى عهد الرئيس السودانى الاسبق " جعفر نميرى " فالرجل لديه الكثير والكثير عن هذه الفترة فكان احد العناصر الاساسية فيها وهو من الذين شاركوا فى صنع تاريخ السودان ، تحدث معنا " السفير هذه المرة بروح عاليه فطالما قابلناه كثيرا ولكننا رجعنا معه الى حقبة تاريخية مهمة فى تاريخه وفى تاريخ السودان ، تذكر " عبد الحليم " معنا كل تفاصيل هذه المرحلة ، فكان لديه الكثير والمهم الذى ساعدنا كثيرا فى استكشاف تاريخ هذه الفترة .
وفيما يلى يروى السفير السودانى ذكرياته مع نظام مايو والاتحاد الاشتراكى:
مناصب كثيرة
فى البداية سعادة السفير كيف استقبلت خبر تكليفك بالوزارة ؟
** كنت استاذا بجامعة الخرطوم وقتها وطلبونى بالانتداب لانشاء وزارة الشباب والرياضة والشئون الاجتماعية والتى اضيف لها بعد ذلك الشئون الدينية والقصد كان تأسيس هذا العمل فى 9 أشهر فكانت الاحزاب وقتها محلولة ولم يكن هناك تنظيم سياسى وكثير منها اوكلت لوزارة الشباب وعملت وكيلا للوزارة مع د." منصور خالد " والذى كان وزيرا للشباب وقتها وايضا عملت مع " ابو القاسم هاشم " وكان التكليف نائب الوزير وقتها يعنى منصب " وزير دولة الآن ثم توليت نائب وزير الثقافة والاعلام لانشاء الجناح الثقافى وكنت مقررا للجنة التحضيرية للاتحاد الاشتراكى وكان يرأسها الرئيس " نميرى " بعدها عقد المؤتمر التأسيسى للاتحاد الاشتراكى فى الفتره من 2ـ 10 يناير 1972 واخترت عضوا فى المكتب السياسى للاتحاد وهذا المنصب أعلى من منصب وزير وكنت عضوا فى مجلس الشعب الاول والثانى وبعدها عينت وزيرا للثقافة والاعلام وكنت الامين العام للفكر الاشتراكى ثم مساعد العام الامين العام للفكر والمنهجية والاجهزة العليا .
وكيف كان الحال فى وزارة الثقافة والاعلام وقت توليك مسئوليتها ؟
** عملت رئيسا لمجلس ادارة عدد من المؤسسات فى الوزارة مثل مجلس ادارة السينما ووكالة السودان للانباء وعملت على الاهتمام بالمكتبات وكذلك الاهتمام بفكرة المكتبة القومية وكونت علاقات جيدة بين الوزارة والمبدعين وقتها فهذه الفترة تميزت بانتاج متميز فقد ازدهر المسرح وزاد الاهتمام بالاذاعة والتليفزيون وكان من المبدعين وقتها عدد كبير ارتبط عطاؤهم بالحركة الوطنية منذ عهد مقاومة الاستعمار امثال " احمد المصطفى ، تاج السر الحسن ، والفيتورى ، ومحى الدين فارس, محمد المهدى, مجذوب الجماع "وهؤلاء اسهموا كثيرا فى حركة الشعر الحديث وكانوا يقفون على قمة الشعر السودانى والعربى وقتها وكانت هناك أسماء كبيرة فى كافة المجلات فى الشعر والمسرح وفى الفن التشكيلى كانت هناك المدرسة التقليديه والحديثة وأبرز فنانى هذه المرحلة "محمد سعيد العباسى, الشيخ البنا عبدالله عبد الرحمن" وهم يشكلون ثلاثة أجيال وكان تبدع مدرسة الخرطوم فى الفنون التشكيلية ومنهم "ابراهيم الصلحى, د أحمد شريف، عثمان وديع الله" وغيرهم كثيرون قد أثروا الحركة الفنية فى السودان.
ذكرت انك كنت رئيسا لجهاز السينما هل كان هناك انتاج سينمائى ملموس فى السودان فى هذه الفترة ؟
** كانت هناك بدايات لانتاج سينمائى والسينما لم تترسخ بعد فى السودان وحتى الان فهناك فقط افلام تسجيلية وقصيرة ولا يمكن ان نعتبر ان هناك حركة سينمائية مختلفة .
ما هو اهم قرار اخذته فى الوزارة ؟
** كان رفض هذه المدارس الابداعية المختلفة باتاحة الفرصة للمبدعين لنيل درجات عليا وفتح الباب على الخبرات العالمية ففى عام واحد وبالتعاون مع الاصلاح الادارى تم تدرج 170 مبعوث فى المجال الفنى من سيناريو واخراج وغيرها فأهم شئ هو تنمية العنصر البشرى وصون المواهب عبر الدرس والتجريب واصبح هذا اساسا جيدا لما بعد والى الان وكذلك طورنا حركة الابداع فى السودان وحدثت مواصلة الى ان ازدهر معهد الموسيقى والمسرح والذى خرج العديد واثقل قدرات ومواهب كثيرة .
سعادة السفير توليت المسئولية فى نظامين مختلفين مايو والانقاذ وهما مختلفان الا يوجد تناقض فى هذا ؟
** نعم كنت احد المسئولين الاساسين فى نظام " مايو " ولكن كما تلاحظين كل النظم الثورية فى فترة ميلادها الثورى فيها متغيرات بعضها وطنية وبعضها اقليمية واخرى دولية للتكيف مع المتغيرات مع الحرص على الثوابت فنجاح هذه الثورات ليس فى الجمهور ولكن فى الحفاظ على الثابت والتجاوب مع المتغير اما الانقاذ كانت قابضة فى الايام الاولى ثم شهدت بعد ذلك تعدديه للتجاوب مع المتغيرات الدولية وروح العصر فثورة " مايو " للرئيس " نميرى " كانت فى زمان وثورة " الانقاذ " للرئيس " البشير " فى زمان آخر ، ومن ثم لا اجد تناقض فكل ثورة لها ظروفها وزمنها .
كيف كان التعاون مع مصر فى تلك الفترة ؟
** انا اول من تحدث عن التكامل بين السودان ومصر مع د/ رفعت المحجوب فى عام 1973 فأنا نشأت فى احضان الحركة الوطنية وكان التيار الاساسى بها وحدويا قوميا وكان التفكير فى التوحيد مع مصر منتشر بهذه الروح نسبة للجوار واللغة والديانه ولكن دائما الكلام عن الاتفاقيات اكثر من الصورة العملية فى هذه العلاقة فكنا وقتها نفكر فى ان نمنح هذه العلاقة تحقيق المنافع المختلفة بامكانات بشرية وطبيعية وفنية فكان طبيعيا ان نسعى فى هذه الفترة لان يكون هناك اسهام فى تعزيز هذه العلاقة لتحقق هذه النفع اما فى وزارة الثقافة والاعلام وقتها كانت هناك تدريب للاطر السودانية البشرية والتى كان يذهب العدد الاكبر منها الى مصر وكذلك كان هناك وقتها تبادل برامجى بيننا وكان هناك ايضا تخطيط مشترك وزيارات متبادلة للفرق الفنية وازدهر هذا التعاون فى فترة السبعينات .
تطوعت فى مصر
ما هى اهم ذكريات سعادة السفير فى هذه الفترة ؟
** نحن من جيل امتزج العام عنده بالخاص ورجح العام على الخاص ودعينى اتذكر ايام كنت ادرس بجامعة الاسكندرية فأنا درست فى جامعة الاسكندرية سنه وثلاثة أخرى فى جامعة ابراهيم باشا عين شمس حاليا درست الاقتصاد والعلوم السياسية, كنت اريد ان اتطوع فى جيش التحرير الشعبى 1956 فكان به لواء للجامعة ولكنى لم الحقه وانضممت الى لواء اخر وهو " النصر " للاسكندرية وقطاع غرب الدلتا فبعد التدريب فى هذه اللواء عملت بالتوجيه به مدة " 45" يوما فهذه من اهم اللحظات التى اتذكرها والى الان لانها منحتنى العمق فى الشخصية المصرية فكانت بها درجات من الشجاعة العالية جدا وهذا جعلنى فى تماس وتفاعل مع ابناء الشعب المصرى العاديين وهذا اتاح لى الفرصة لكى ارى عمق الوطنية المصرية وكانت هذه تجربة عظيمة لى فمصر هى اساس للتفتح القومى العربى .
ما هى ذكرياتك مع حدوث الانقلاب على ثورة مايو ؟
** التغيير فى مايو لعبت فيه عناصر متعددة ومن الامور التى أثرت فى الانتفاضة كانت زيارة الرئيس " بوش "؛ الاب وكان وقتها نائبا للرئيس الامريكى للخرطوم واجتمع مع مجموعة من الناس فكانت امريكا صديقة لنا وعندما طبقنا الشريعة الاسلامية اصبحت أمريكا عدو لنا ، وقتها كان يقول الناس ان الذى هندس للانتفاضة كانت النقابات والاتحادات المهنية ونقول ان " بوش " هو الذى هندس للانتفاضة وتبقى الحقيقة بين هذا وذاك .
كنت احد العناصر المهمة فى " مايو " فكيف تم التعامل معك بعد الانقلاب ؟
** ثانى يوم من الانقلاب تم سجنى لمدة 7 أشهر .
هل كان هناك تعذيب بالسجن ؟
** السودان لا يعرف التعذيب فكنا نقرأ الجرائد ونشاهد التليفزيون ونرى المعارف والاصدقاء ودخلنا السجن والى ان خرجنا منه لم يسألنا أحد لماذا دخلنا ولماذا خرجنا .
وما هو تقيمك لما حدث بعد الانقلاب على مايو ؟
** من اكبر الاخطاء التى حدثت فى هذه الفترة هو حل جهاز الامن القومى فكان جهازا قادرا وهذا سبب ارباكا كبيرا فى الفتره التى تلتها فكان يمكنهم حل الرؤساء فيه فقط ويتركوا القواعد, واغرب المواقف وقتها كانت المظاهرة التى طالبت بحل جهاز الامن القومى وكان يقودها القنصل الاثيوبى لأنه كان يلاحق قادة الثورة الاريترية وكان فى صدام دائم مع اجهزة الامن واستطاعوا أن يوقعوا به .
وكيف كانت العلاقة مع مصر ودول الجوار والغرب فى فترة مايو؟
-التكامل مع مصر شهد ازدهاره مع مايو أما الولايات المتحدة والغرب أخذوا موقفا معاديا من مايو منذ اعلان نميرى تطبيق الشريعة الاسلامية خصوصا عند صدور القانون الجنائى فى سبتمبر 1983 والعلاقة مع دول الجوار كانت متميزه الى عام 72 وكانت هناك دول منها تدعم حركة التمرد. بعد 72 حدث استقرار داخل السودان واستمر العمل هكذا الى 83 الى بداية الحركة الشعبية
كانت هناك اتفاقية مع الجنوب فى عهد " مايو " وهى اتفاقية " اديس ابابا " 1972 وايضا هناك الان اتفاقية مع الجنوب فى نيفاشا ، ما الفرق بين هاتين الاتفاقيتن فى نظرك ؟
** لكل منها ظروفه فاتفاقية "72" استمر العمل بها الى عام 83 مع بداية الحركة الشعبية لتحرير السودان فكان هناك مطالبة بتقسيم الجنوب الى ثلاثة اقاليم وقتها قالوا ان تطبيق الشريعة هى سبب التقسيم وهذا الكلام غير صحيح فالشريعة جاءت بعد التقسيم واستغل هذا على انه هو السبب الرئيسى على الرغم من ان هناك اسباب موضوعية بعضها موروث من عهد الاستعمار وبعضها يرجع الى فشل النظم السياسية المتعاقبة على السودان فى ان تخلف نظاما سياسيا مستقرا مما ضعف متاعب السودان واذكى الحرب بين اهله التدخل الاجنبى ونذكر عندما اجتمعت وزيرة الخارجية السابقة " اولبرايت " ببعض عناصر المعارضة تحدثت ببجاحة واضحة عن استعداد امريكا ومشاركتها لكل من يسعى لاسقاط نظام الانقاذ ، فالارث الاستعمارى وعوامل القصور الذاتى للنظم السياسية والتدخل الاجنبى هم السبب فى زعزعة واستقرار السودان وكان امر الشريعة الاسلامية من العوامل المهمة والاساسية لاقامة هذا التحالف الاثم .
القاهرة/صباح موسى
قبل يوم من سفره الأخير الى لندن "د أحمد عبد الحليم" سفير السودان بالقاهره يروى ذكرياته مع تولى المناصب السياسه من "مايو" الى "الانقاذ"
لا يوجد تناقض بين عملى فى " مايو "و" الانقاذ " فكل منهما له ظروفه وزمانه
سجنت 7 اشهر بعد الانقلاب على " مايو" ولم اعرف لماذا سجنت ؟ ولماذا خرجت ؟
تطوعت "45" يوما فى جيش التحرير الشعبى 1956 بالاسكندرية ورأيت عمق الوطنية المصرية
القاهرة/صباح موسى
بعد لقاء جمع بعض الصحفيين المصريين بالسفير "أحمد عبد الحليم" بمكتبه بالسفاره السودانية بالقاهره, فهو كعادته من أن لأخر يدعونا ليطلعنا على أخر مستجدات الوضع فى السودان. فكرت فى أن أجرى مع السفير حوارا اخر مختلفا عن مسيرته السياسية وذكرياته معها, فالرجل يعتبر علامه من علامات التاريخ السودانى المهمه وأحد شهداء عصر هذا التاريخ. طلبت من السفير تحديد موعد لاجراء هذا الحوار وفى هذه المره كان ترحيبه شديدا بفكرة الحوار وحدد لى ميعادا صادف اليوم الذى كان قبل سفره الأخير الى لندن مباشرة, ذهبت فى الموعد المحدد واذا بالسفير مشغولا جدا ولكنه أصر على أن أنتظره وبعدها دخلت مكتبه ليقابلنى بابتسامته التى تعودناها منه جميعا وقال لى خلينا نفتكر أيامنا الجميله, وبدأنا الحوار وكان هذه المره مختلفا كان مرتاحا وسعيدا يتحدث بحب عن ذكرياته, انتهى الحوار وعند مغادرتى للمكتب أصر أن أجلس معه وكلما أرادت الانصراف ألح ثانية وأنا متعجبه من هذا الأمر فدائما هو مشغول ودائما الوقت لايكفى ولكن هذه المره هو مختلف يريد أن يتحدث عن كل شئ فى السودان فى القديم والحديث فى شكل (ونسه هادئه) وقاطعتنا مديرة مكتبه قائله بأن هناك ضيفا ينتظر منذ فتره, وفى هذه اللحظه قال لى (خلاص ياستى أفرجنا عنك) نظرت الى المكتب لأجد قطعه من الحجر موضوعة عليه سألت السفير هل هذا الحجر يحكى أثرا معينا ولا انت وضعته هكذا علشان لو قاطعتنا "ليلى" (مديرة مكتبه ) ترميها باالحجر ضحك ضحكة عاليه وقال لى لوكنت بعمل كده كانت دخلت الان ؟ وكان الحجر ليتيمم به السفير قبل الصلاه .وانتهى اللقاء بيننا بابتسامه هادئه قال لى بعدها لازم أشوف هذا الحوار بعد النشر, ودعنى "السفير" بحراره وكأنه الوداع الأخير وقال لى سأسافر لندن غدا ادعى لى, قلت له انشاء الله ترجع لنا بألف سلامه, ولكن لم يعد السفير ولم يكتب له أن يرى هذا العمل ونتمنى من الله أن يكتبه له فى ميزان حساناته, فطالما جلس معنا وشرح لنا تفاصيل كل شئ بصفة أبويه وليست رسمية فكان دائما يردد هذه ابنتى وهذا ابنى. رحم الله السفير وأسكنه فسيح جناته.
البروفسير احمد عبد الحليم السفير السودانى بالقاهرة ووزير الثقافة والاعلام الاسبق فى نظام " مايو " فى عهد الرئيس " النميرى " ويعتبر " عبد الحليم " مهندس تحسين العلاقات المصرية السودانية فى الفترة من 1998 والى الان ، حصل عبد الحليم على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من جامعة الاسكندرية عام 1958 ثم زمالة جمعية المكتبات البريطانية " A.L.A " مدرج فى سجل امناء المكتبات القانونيين فى لندن عام 1961 وبعدها على الدبلوما الاكاديمى العالى فى علوم المكتبات من جامعة لندن عام 1962 ثم حصل على دكتوراه الفلسفة فى التربية " تعليم الكبار " جامعة ادمبرة من عام 1968 ـ 1969 .
تقلد " عبد الحليم " العديد من المناصب داخل السودان وخارجها فكان احد المؤسسين للاتحاد الاشتراكى فى عهد الرئيس السابق " جعفر نميرى " ومدير معهد الخرطوم الدولى للغة العربية من 1980 ـ 1988 ومستشارا للرئيس السودانى فى التنمية الاجتماعية 1989 ومستشارا لمنظمة الامم المتحدة للطفولة " اليونسيف " عام 1989 ، والعديد من المناصب التى يصعب حصرها ، كما ان له العديد من المؤلفات من بينها الجزء الاول من مرشد الببليوغرافيا العربية الاسلامية " باللغة الانجليزية " والسياسة العربية للشباب والرياضة ، واقع الطفل العربى وشارك فى اعداد وصياغة ميثاق العمل الاجتماعى فى الدول العربية واستراتيجية العمل الاجتماعى فى الوطن العربى بالاضافة الى مؤلفات اخرى كثيرة ونال " عبد الحليم " مجموعة من الاوسمة منها الوسام الذهبى للسلم التعليمى ووسام الدستور والجمهورية من الطبقة الاولى والانجاز السياسى ووسام مأرب " اليمن الشمالى " ووسام الجمهورية الاول فى تونس ووسام الاسد الاول من السنغال .
التقينا بـ " عبد الحليم " البالغ من العمر " 72 " عاما بالسفارة السودانية بالقاهرة واسترجعنا معه ذكرياته ابان توليه وزارة الثقافة والاعلام من 1975 ـ 1976 فى عهد الرئيس السودانى الاسبق " جعفر نميرى " فالرجل لديه الكثير والكثير عن هذه الفترة فكان احد العناصر الاساسية فيها وهو من الذين شاركوا فى صنع تاريخ السودان ، تحدث معنا " السفير هذه المرة بروح عاليه فطالما قابلناه كثيرا ولكننا رجعنا معه الى حقبة تاريخية مهمة فى تاريخه وفى تاريخ السودان ، تذكر " عبد الحليم " معنا كل تفاصيل هذه المرحلة ، فكان لديه الكثير والمهم الذى ساعدنا كثيرا فى استكشاف تاريخ هذه الفترة .
وفيما يلى يروى السفير السودانى ذكرياته مع نظام مايو والاتحاد الاشتراكى:
مناصب كثيرة
فى البداية سعادة السفير كيف استقبلت خبر تكليفك بالوزارة ؟
** كنت استاذا بجامعة الخرطوم وقتها وطلبونى بالانتداب لانشاء وزارة الشباب والرياضة والشئون الاجتماعية والتى اضيف لها بعد ذلك الشئون الدينية والقصد كان تأسيس هذا العمل فى 9 أشهر فكانت الاحزاب وقتها محلولة ولم يكن هناك تنظيم سياسى وكثير منها اوكلت لوزارة الشباب وعملت وكيلا للوزارة مع د." منصور خالد " والذى كان وزيرا للشباب وقتها وايضا عملت مع " ابو القاسم هاشم " وكان التكليف نائب الوزير وقتها يعنى منصب " وزير دولة الآن ثم توليت نائب وزير الثقافة والاعلام لانشاء الجناح الثقافى وكنت مقررا للجنة التحضيرية للاتحاد الاشتراكى وكان يرأسها الرئيس " نميرى " بعدها عقد المؤتمر التأسيسى للاتحاد الاشتراكى فى الفتره من 2ـ 10 يناير 1972 واخترت عضوا فى المكتب السياسى للاتحاد وهذا المنصب أعلى من منصب وزير وكنت عضوا فى مجلس الشعب الاول والثانى وبعدها عينت وزيرا للثقافة والاعلام وكنت الامين العام للفكر الاشتراكى ثم مساعد العام الامين العام للفكر والمنهجية والاجهزة العليا .
وكيف كان الحال فى وزارة الثقافة والاعلام وقت توليك مسئوليتها ؟
** عملت رئيسا لمجلس ادارة عدد من المؤسسات فى الوزارة مثل مجلس ادارة السينما ووكالة السودان للانباء وعملت على الاهتمام بالمكتبات وكذلك الاهتمام بفكرة المكتبة القومية وكونت علاقات جيدة بين الوزارة والمبدعين وقتها فهذه الفترة تميزت بانتاج متميز فقد ازدهر المسرح وزاد الاهتمام بالاذاعة والتليفزيون وكان من المبدعين وقتها عدد كبير ارتبط عطاؤهم بالحركة الوطنية منذ عهد مقاومة الاستعمار امثال " احمد المصطفى ، تاج السر الحسن ، والفيتورى ، ومحى الدين فارس, محمد المهدى, مجذوب الجماع "وهؤلاء اسهموا كثيرا فى حركة الشعر الحديث وكانوا يقفون على قمة الشعر السودانى والعربى وقتها وكانت هناك أسماء كبيرة فى كافة المجلات فى الشعر والمسرح وفى الفن التشكيلى كانت هناك المدرسة التقليديه والحديثة وأبرز فنانى هذه المرحلة "محمد سعيد العباسى, الشيخ البنا عبدالله عبد الرحمن" وهم يشكلون ثلاثة أجيال وكان تبدع مدرسة الخرطوم فى الفنون التشكيلية ومنهم "ابراهيم الصلحى, د أحمد شريف، عثمان وديع الله" وغيرهم كثيرون قد أثروا الحركة الفنية فى السودان.
ذكرت انك كنت رئيسا لجهاز السينما هل كان هناك انتاج سينمائى ملموس فى السودان فى هذه الفترة ؟
** كانت هناك بدايات لانتاج سينمائى والسينما لم تترسخ بعد فى السودان وحتى الان فهناك فقط افلام تسجيلية وقصيرة ولا يمكن ان نعتبر ان هناك حركة سينمائية مختلفة .
ما هو اهم قرار اخذته فى الوزارة ؟
** كان رفض هذه المدارس الابداعية المختلفة باتاحة الفرصة للمبدعين لنيل درجات عليا وفتح الباب على الخبرات العالمية ففى عام واحد وبالتعاون مع الاصلاح الادارى تم تدرج 170 مبعوث فى المجال الفنى من سيناريو واخراج وغيرها فأهم شئ هو تنمية العنصر البشرى وصون المواهب عبر الدرس والتجريب واصبح هذا اساسا جيدا لما بعد والى الان وكذلك طورنا حركة الابداع فى السودان وحدثت مواصلة الى ان ازدهر معهد الموسيقى والمسرح والذى خرج العديد واثقل قدرات ومواهب كثيرة .
سعادة السفير توليت المسئولية فى نظامين مختلفين مايو والانقاذ وهما مختلفان الا يوجد تناقض فى هذا ؟
** نعم كنت احد المسئولين الاساسين فى نظام " مايو " ولكن كما تلاحظين كل النظم الثورية فى فترة ميلادها الثورى فيها متغيرات بعضها وطنية وبعضها اقليمية واخرى دولية للتكيف مع المتغيرات مع الحرص على الثوابت فنجاح هذه الثورات ليس فى الجمهور ولكن فى الحفاظ على الثابت والتجاوب مع المتغير اما الانقاذ كانت قابضة فى الايام الاولى ثم شهدت بعد ذلك تعدديه للتجاوب مع المتغيرات الدولية وروح العصر فثورة " مايو " للرئيس " نميرى " كانت فى زمان وثورة " الانقاذ " للرئيس " البشير " فى زمان آخر ، ومن ثم لا اجد تناقض فكل ثورة لها ظروفها وزمنها .
كيف كان التعاون مع مصر فى تلك الفترة ؟
** انا اول من تحدث عن التكامل بين السودان ومصر مع د/ رفعت المحجوب فى عام 1973 فأنا نشأت فى احضان الحركة الوطنية وكان التيار الاساسى بها وحدويا قوميا وكان التفكير فى التوحيد مع مصر منتشر بهذه الروح نسبة للجوار واللغة والديانه ولكن دائما الكلام عن الاتفاقيات اكثر من الصورة العملية فى هذه العلاقة فكنا وقتها نفكر فى ان نمنح هذه العلاقة تحقيق المنافع المختلفة بامكانات بشرية وطبيعية وفنية فكان طبيعيا ان نسعى فى هذه الفترة لان يكون هناك اسهام فى تعزيز هذه العلاقة لتحقق هذه النفع اما فى وزارة الثقافة والاعلام وقتها كانت هناك تدريب للاطر السودانية البشرية والتى كان يذهب العدد الاكبر منها الى مصر وكذلك كان هناك وقتها تبادل برامجى بيننا وكان هناك ايضا تخطيط مشترك وزيارات متبادلة للفرق الفنية وازدهر هذا التعاون فى فترة السبعينات .
تطوعت فى مصر
ما هى اهم ذكريات سعادة السفير فى هذه الفترة ؟
** نحن من جيل امتزج العام عنده بالخاص ورجح العام على الخاص ودعينى اتذكر ايام كنت ادرس بجامعة الاسكندرية فأنا درست فى جامعة الاسكندرية سنه وثلاثة أخرى فى جامعة ابراهيم باشا عين شمس حاليا درست الاقتصاد والعلوم السياسية, كنت اريد ان اتطوع فى جيش التحرير الشعبى 1956 فكان به لواء للجامعة ولكنى لم الحقه وانضممت الى لواء اخر وهو " النصر " للاسكندرية وقطاع غرب الدلتا فبعد التدريب فى هذه اللواء عملت بالتوجيه به مدة " 45" يوما فهذه من اهم اللحظات التى اتذكرها والى الان لانها منحتنى العمق فى الشخصية المصرية فكانت بها درجات من الشجاعة العالية جدا وهذا جعلنى فى تماس وتفاعل مع ابناء الشعب المصرى العاديين وهذا اتاح لى الفرصة لكى ارى عمق الوطنية المصرية وكانت هذه تجربة عظيمة لى فمصر هى اساس للتفتح القومى العربى .
ما هى ذكرياتك مع حدوث الانقلاب على ثورة مايو ؟
** التغيير فى مايو لعبت فيه عناصر متعددة ومن الامور التى أثرت فى الانتفاضة كانت زيارة الرئيس " بوش "؛ الاب وكان وقتها نائبا للرئيس الامريكى للخرطوم واجتمع مع مجموعة من الناس فكانت امريكا صديقة لنا وعندما طبقنا الشريعة الاسلامية اصبحت أمريكا عدو لنا ، وقتها كان يقول الناس ان الذى هندس للانتفاضة كانت النقابات والاتحادات المهنية ونقول ان " بوش " هو الذى هندس للانتفاضة وتبقى الحقيقة بين هذا وذاك .
كنت احد العناصر المهمة فى " مايو " فكيف تم التعامل معك بعد الانقلاب ؟
** ثانى يوم من الانقلاب تم سجنى لمدة 7 أشهر .
هل كان هناك تعذيب بالسجن ؟
** السودان لا يعرف التعذيب فكنا نقرأ الجرائد ونشاهد التليفزيون ونرى المعارف والاصدقاء ودخلنا السجن والى ان خرجنا منه لم يسألنا أحد لماذا دخلنا ولماذا خرجنا .
وما هو تقيمك لما حدث بعد الانقلاب على مايو ؟
** من اكبر الاخطاء التى حدثت فى هذه الفترة هو حل جهاز الامن القومى فكان جهازا قادرا وهذا سبب ارباكا كبيرا فى الفتره التى تلتها فكان يمكنهم حل الرؤساء فيه فقط ويتركوا القواعد, واغرب المواقف وقتها كانت المظاهرة التى طالبت بحل جهاز الامن القومى وكان يقودها القنصل الاثيوبى لأنه كان يلاحق قادة الثورة الاريترية وكان فى صدام دائم مع اجهزة الامن واستطاعوا أن يوقعوا به .
وكيف كانت العلاقة مع مصر ودول الجوار والغرب فى فترة مايو؟
-التكامل مع مصر شهد ازدهاره مع مايو أما الولايات المتحدة والغرب أخذوا موقفا معاديا من مايو منذ اعلان نميرى تطبيق الشريعة الاسلامية خصوصا عند صدور القانون الجنائى فى سبتمبر 1983 والعلاقة مع دول الجوار كانت متميزه الى عام 72 وكانت هناك دول منها تدعم حركة التمرد. بعد 72 حدث استقرار داخل السودان واستمر العمل هكذا الى 83 الى بداية الحركة الشعبية
كانت هناك اتفاقية مع الجنوب فى عهد " مايو " وهى اتفاقية " اديس ابابا " 1972 وايضا هناك الان اتفاقية مع الجنوب فى نيفاشا ، ما الفرق بين هاتين الاتفاقيتن فى نظرك ؟
** لكل منها ظروفه فاتفاقية "72" استمر العمل بها الى عام 83 مع بداية الحركة الشعبية لتحرير السودان فكان هناك مطالبة بتقسيم الجنوب الى ثلاثة اقاليم وقتها قالوا ان تطبيق الشريعة هى سبب التقسيم وهذا الكلام غير صحيح فالشريعة جاءت بعد التقسيم واستغل هذا على انه هو السبب الرئيسى على الرغم من ان هناك اسباب موضوعية بعضها موروث من عهد الاستعمار وبعضها يرجع الى فشل النظم السياسية المتعاقبة على السودان فى ان تخلف نظاما سياسيا مستقرا مما ضعف متاعب السودان واذكى الحرب بين اهله التدخل الاجنبى ونذكر عندما اجتمعت وزيرة الخارجية السابقة " اولبرايت " ببعض عناصر المعارضة تحدثت ببجاحة واضحة عن استعداد امريكا ومشاركتها لكل من يسعى لاسقاط نظام الانقاذ ، فالارث الاستعمارى وعوامل القصور الذاتى للنظم السياسية والتدخل الاجنبى هم السبب فى زعزعة واستقرار السودان وكان امر الشريعة الاسلامية من العوامل المهمة والاساسية لاقامة هذا التحالف الاثم .