حوار مع دكتور الترابي.. الزمن اتغير 2 -2 … بقلم: عادل الباز

 


 

عادل الباز
15 April, 2009

 

 بالأمس في حوارنا الذي بدأناه مع دكتور الترابي قلنا إن الطبقة الوسطى استطاعت في لحظة تحول تاريخي ما أن تتوحد لتطيح بالعسكر مرتين وصنعت بذلك حكومات انتقالية كالتي يدعو لها الترابي الآن. ولكن الزمان غير. فأين هي الطبقة الوسطى اليوم؟. ثم أين هي الأحزاب التي كانت تعبِّر عن هذه الطبقة وتخدم مصالحها؟ ما وضع القوى النقابية والطائفية والأحزاب العقائدية التي كانت تعمل سنداً وظهيراً للتغيير؟. الطبقة الوسطى التي عرفها السودانيون منذ ما قبل مؤتمر الخريجين وحتى ما قبل يونيو 1989م تضعضعت إذ لم تكن قد تلاشت تماماً اليوم. هذه الطبقة هي اليوم في أوهن حالاتها الاقتصادية والسياسية، أما مكانتها الاجتماعية فقد تدحرجت إلى درك سحيق. الموظفون والتجار والمعلمون والمحامون والأطباء سحقوا تحت وطأة الظروف الاقتصادية فلم يعودوا يشكلون أملاً للتغيير ولا حتى أملاً وحلماً للصبايا اللائي طالما هفت نفوسهن لنجوم هذه الطبقة في زمان بعيد فغنوا لها غناء بديعاً.     الآن انظروا من يقود السياسة في طول البلاد وعرضها. هم محترفو السياسة ومتفرغيها الذين غادروا هذه الطبقة تماماً ومنذ زمان بعيد فلاهمها همهم ولا أحياءها أحياهم ولا ملبسها ملبسهم ولا مشاغلها مشاغلهم. وهذا ينطبق على كل الأحزاب وليس الحزب الحاكم وحده. في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت السياسة بيدي المحامين والأطباء وجمهرة المثقفين. انظر أين هؤلاء الآن؟ انسحبوا تماماً من الساحة وتفرغوا لهمومهم وأعمالهم الخاصة لم يعد لهم دور في السياسة. لقد جرَّهم حبل السوق الحر جراً بعيداً عن المعادلة السياسية. وأضحت السياسة بالنسبة لهم ليس أكثر من طق حنك في منتديات لا يأبه لها أحد. النقابات التي مثَّلت ولتاريخ طويل أداة هذه الطبقة في التغيير واستطاعت عبر نضالاتها صنع ثورتين في ربع قرن, انتهى دورها منذ أن أنجزت مشروعها الأخير للتغيير وساهمت بفعالية في خراب النظام الديقراطي فيما بعد عام 1986م!!.     توقف دور النقابات في الحياة السياسية يعني أن الأداة التي كانت تُستخدم ضمن أدوات أخرى للتغيير أو لإنجاز مرحلة انتقالية قد عطّلت وفقدت فعاليتها التاريخية. انتفاء دور النقابات يعكس بوضوح شديد المحنة التي تعيشها الطبقة الوسطى فعلى اهترائها لم يعد لها عصا تهز بها أو تتوكأ عليها. يعني ذلك أن حلم أن تنجز هذه الطبقة مرة أخرى حقبة انتقالية كما شهدناها في ستينات وثمانينات القرن الماضي سيظل حلماً وشوقاً لماضٍ لن يعود وليس بمقدور الشيخ أن يحيي عظام التاريخ وهي رميم.     القوى الطائفية والأحزاب العقائدية اللتان كانتا دوماً ترفدان التغيير بالمباركة والسند السياسي تعيشان أوضاعاً معقدة. الطائفية تتآكل من الداخل والخارج وتعيش مرحلة شيخوخة وتفلتات لم تجدي معها محاولات الاصلاح وخاصة في الطائفتين الأساسيتين الختمية والأنصار. تضعضع أحوال هاتين الطائفتين ليس في مصلحة استقرار البلد فهما جزء من تماسك النسيج الديني والاجتماعي والسياسي لهذا الوطن. ما يهمنا هنا أن العناصر الأساسية المساندة  لمرحلة حكومة انتقالية في أوضاع غير مساعدة لدعم التغيير الذي كان يمكن أن تقوم به الطبقة الوسطى إن وجدت. ولكن بعدم وجود هذه الطبقة لن تستطيع الطائفية أن تنجز تحولاً لمرحلة انتقالية.     الأحزاب العقائدية التي تمثلت تاريخياً في الحزب الشيوعي والاخوان المسلمين بتسمياتهم المختلفة لم يعودوا هنا أو بالأحرى انتهت فعاليتهما التاريخية. دون الدخول في تفصيلات فالحزب الشيوعي تكلَّس، فمؤتمره الذي عقده بعد أربعين عاماً عاد بذات الأفكار والوجوه، فأنى لحزب عجز عن صنع تغيير داخله  بعد أربعين عاماً أن يصنع تغيراً في أي مكان آخر.!!الاخوان المسلمون في صيرورة تحولاتهم المستمرة انتهوا لتنظيم (المؤتمر الوطني)  وهو أشبه ما يكون بتحالف فضفاض بين الحركة الإسلامية ومجموعة من رجال الأعمال والتكنقراط الباحثين عن دور ووظائف وبين رجالات القبائل. هذا التحالف وفر غطاءاً جماهيرياً واسعاً لم يكن الاخوان المسلمون يحلمون به في تاريخهم. هذا التحالف المسنود بالسلطة والمال والأمن والجيش ليس معقولاً أن يُطلب منه تفكيك بنيانه ليدخل في دهاليز حكومة انتقالية مجهولة الملامح ثم ما الذى يدفعه لذلك أصلا؟. أين هي القوى الضاغطة التى تدفع باتجاه انجاز هذا التحول؟ ما هي الحوافز الذي يطرحها الشيخ لقبول مثل هذا الانتقال؟ بالعكس تماماً يعدهم الشيخ بالويل والثبور وعظائم الأمور وبالحساب العسير وجرجرتهم للمحاكم!!!. فكرة أن يسلِّم السلطان نفسه للمشنقة بلا داعي فكرة عدمية. لقد كانت فكرة (سلم تسلم) بتاعت مولانا الميرغني أكثر معقولية من طرح شيخ حسن (سلم وما بتسلم).     طرح الشيخ لهذه الفكرة غريب فهو يعلم أن القوى السياسية الرئيسة في الحكومة سترفضها وخاصة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وهذا كفيل بدفنها قبل ميلادها. فلماذا أقدم على طرحها؟. التوقيت الذي طرحت فيه الفكرة أكثر غرابة حيث جاءت بعد إعلان ميقات الانتخابات وعقب اجتماع دكتور الترابي مع المبعوث الأمريكي غرايشن وبعد تسريب خبر عن مؤتمر دولي في كينيا لحل مشكلة دارفور وفي نهايات المسعى المصري لإقامة مؤتمر دولي لحل مشاكل السودان وبعد تسرب أنباء عن اتصالات بين الشعبي والحكومة المصرية. يبدو لي أن الدكتور الترابي يستبق  مشاريع معدة ويجري الحوار حولها في صمت أو هو ببيانه هذا يحاول أن يضع أجندة الحوار لأي مؤتمر دولي سواء في كينيا أو في شرم الشيخ. منذ ما بعد ثورة أكتوبر ظل الشيخ هو أحد اللاعبين الأساسيين الذين يضعون أجندة البلاد. في ثورة أكتوبر كان الترابي أحد أبرز لاعبيها وفي نهايات الستينات اعتلت أجندة الترابي (الدستور الإسلامي) الأجندة السياسية. في حقبة النميري أصبحت الشريعة هي الأجندة الرئيسة منذ بداية الثمانينات وفي نهايتها كانت البلاد تخضع بالكامل لأجندة وأولوياته في الحكم في أعقاب انقلاب 1989م. باختصار الترابي لا يرغب في التنازل عن وضع الأجندة حاكماً ومعارضاً وتندرج الدعوة الأخيرة  لحكومة انتقالية في هذا السياق!!       ليس من المتوقع أن تستجيب حكومة الوحدة الوطنية لدعوة الترابي فتحل نفسها وتسلم سلطتها لمستقلين وينتظر الجميع ماذا سيفعل بهم هؤلاء المستقلون المجهولون لا أظن أن الشيخ نفسه يتوقع ذلك. عهدي دائماً بالشيخ انه يؤشر يمين حين يريد الانعطاف شمالاً.!! بإمكاني أن أقصَّ عليكم قصصاً في ذلك ليس الآن. لا أعرف في أي اتجاه سينعطف الشيخ بالأجندة هذه المرة ولكن لديّ إحساس بأن هذا هو الانعطاف الكبير والأجندة الأخيرة في حياة الشيخ السياسية العامرة. والله يفعل ما يشاء.  

 

آراء