حول استقرار أسعار السلع الاولية

 


 

 

د. نازك حامد الهاشمي
يؤثر تذبذب أسعار السلع الأولية تأثيرا متباينا على البلدان المصدرة والمستوردة على حدٍ سواء. ففي حال حدوث زيادة أسعار السلع الأولية في البلدان المصدرة، يُرصد تحسن ملحوظ في معدلات تبادلها التجاري، بينما تشعر البلدان المستوردة بوطأة ارتفاع أسعار الاستيراد، خاصةً للسلع الاستراتيجية مثل الوقود والغذاء. ومعلوم أن هناك عدة عوامل تتسبب في إعادة تشكيل أسواق السلع الأولية العالمية وآثارها الكبيرة على اقتصادات البلدان النامية. ويمكن أن يكون لهذه التأثيرات الناجمة عن تغير المناخ والحروب والعوامل الاقتصادية والجيوسياسية الأخرى، تأثيرات فورية وطويلة الأجل، بحيث تؤثر وتتأثر بشكل مستمر بأسبابها الأساسية.
وتتنبأ بعض الدراسات بأن نمو الطلب العالمي الكلي على السلع الأولية سيشهد تراجعاً على الأرجح من جرّاءِ تباطؤ النمو السكاني، مع ترجيح ارتفاع الطلب على بعض السلع الأولية المرتبطة بالتكنولوجيا والطاقة على سبيل المثال. كما يعد نُضْج الاقتصادات النامية أيضا سبباً من أسباب تذبذب تصدير المواد الأولية حيث تستخدم محليا، أو يتم تصديرها في شكل سلع مصنعة تصنيعاً جزئيا أو كاملاً. وذلك لتحقيق نتائج جيدة على صعيد التنمية والاستدامة. ومعلوم إن التأرجح بين الانتعاش والكساد في أسواق السلع الأولية كان قد تتسبب في حدوث اختلال كبير في تقدم الاقتصادات النامية، خاصة الدول الأشد فقراً، حيث إن الاعتماد المفرط على تصدير مجموعة ضيقة ومحدودة من السلع الأولية يؤدي إلى تقويض الجهود المبذولة لتقييم رأس المال الطبيعي وتعزيز إنتاج الموارد المستدامة. ويفضي هذا الاعتماد إلى تفاقم الضعف في مواجهة تقلبات الأسعار في الأسواق العالمية، مما يجعل الاقتصادات أكثر عرضة للصدمات. فضلًا على ذلك، فهو يعيق التنويع الاقتصادي عن طريق تصدير مجموعة قليلة من السلع الأولية يتم الاعتماد عليها في إيرادات الدولة بعيدا عن تنمية القطاعات الأخرى. وعندما يأتي جزء كبير من إيرادات الاقتصاد من هذه الصادرات، تقل الحوافز والموارد المتاحة للاستثمار في الصناعات الأخرى وتنميتها. ويؤدي ذلك إلى اقتصاد يميل بشدة نحو قطاع واحد، مما يجعله أقل قدرة على التكيف والمرونة مع تغيرات السوق والصدمات الخارجية. ونتيجة لذلك، تتضاءل بشكل كبير إمكانات الابتكار، وخلق فرص العمل، والنمو المستدام في القطاعات الأخرى. وغالبا ما يخلق التأثير التراكمي لهذه القضايا حواجز كبيرة أمام تحقيق اقتصاد مرن ومتنوع، مما يعيق الاستقرار الاقتصادي والنمو على المدى الطويل.
إن تقلب أسعار السلع الأساسية وتأثيراتها المختلفة على البلدان المصدرة للسلع الأساسية يؤكد على ضرورة وضع سياسات قوية لإدارة وتصدير الموارد الأولية. ويسلط صناع السياسات الضوء على وجود أطر متفق عليها يمكن تصميمها بما يتناسب مع الظروف المحددة لكل بلد. وعندما تتقلب أسعار السلع الأساسية، عادة ما تنفذ الحكومات تدابير مثل الدعم المالي أو الحماية التجارية لحماية المستهلكين من التقلبات. وغالباً ما تتضمن هذه التدابير اتفاقيات لتنظيم الإمدادات، بهدف تحقيق الاستقرار في السوق المحلية. ومع ذلك، فإن هذه الأساليب التقليدية يمكن أن تكون مكلفة وغير فعالة في بعض الأحيان، مما يؤدي إلى ضغوط مالية دون التخفيف بشكل كامل من تأثير تحركات الأسعار. ولمواجهة مثل هذه التحديات، تتجه بعض البلدان إلى آليات أكثر تطوراً لإدارة المخاطر تعتمد على عوامل قائمة على السوق. وقد تشمل تلك الآليات استراتيجيات مثل التحوط، واستخدام العقود الآجلة للسلع الأساسية، وتنويع محافظ التصدير لتقليل الاعتماد على سلعة واحدة. ومن خلال اعتماد هذه الأساليب الموجهة نحو السوق، تستطيع البلدان إدارة تعرضها لتقلبات الأسعار بشكل أفضل، وضمان قدر أكبر من الاستقرار الاقتصادي والاستدامة على المدى الطويل.
بينما قد يلجا بعض واضعي السياسات إلى نهج الاحتفاظ بمخصص احتياطي من فترات ارتفاع الأسعار يستخدم فقط في إعادة ضبط نظم أسعار الصرف المرنة للعمل بفاعلية للتقليل من آثار انخفاض أسعار السلع. ويتطلب هذا بالطبع وضع أطر واضحة للسياسات النقدية. بينما تؤمن بعض الدول بأن تنويع النشاط الاقتصادي سيفضي لتخفيف آثار تقلب الأسعار، وذلك عبر توسيع القطاعات الأخرى لاقتصادها بفضل بناء رأس مال بشري، وصياغة سياسات تشجع على تشجيع الاستثمار والمنافسة، وتدعم بناء المؤسسات، وتتخلى عن الخطط الإسعافية للحد من الدعم المشوه الذي يعيق الاستدامة في التنمية.
وفي تقرير نشر حديثا للبنك الدُّوَليّ في يوم 25 أبريل 2024م حول" آفاق أسواق السلع الأولية" ذكر التقرير ان أسعار السلع الأولية العالمية تتجه إلى الاستقرار بعد أن كانت قد شهدت تراجعاً حاداً ساهم في خفض التضخم العام خلال السنة الماضية بشكل كبير. وذكر التقرير أنه "حيث شهدت أسعار السلع الأولية العالمية انخفاضاً بنحو 40% بين منتصف عام 2022 ومنتصف عام 2023، وكان ذلك هو السبب الأكبر وراء انخفاض التضخم العالمي بنحو 2% فيما بين عامي 2022 و2023"، وذلك بافتراض عدم تصاعد التوترات الجيوسياسية، التي تدعم الضغوط التصاعدية على أسعار السلع الأولية الرئيسة، وتزيد من مخاطر حدوث تحركات سريعة في الأسعار. كما تشير توقعات البنك الدُّوَليّ إلى انخفاض أسعار السلع الأولية عالمياً بواقع 3% في عام 2024، و4% في عام 2025. غير أن التقرير رجح أن الانخفاض بهذه الوتيرة لن يكون له أثر كبير على كبح جماح التضخم الذي سيظل في مستوى أعلى من خطط البنوك المركزية في كثير من البلدان. وعلى الرغْم من ذلك يرى كثير من الاقتصاديين أن الانخفاض في أسعار السلع الأولية يمثل أحد الأسباب الرئيسية لتراجع التضخم. كذلك، ووفقاً لما جاء في تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر في يونيو 2024م عن صندوق النقد الدولي (وهو تقرير فصلي يقدم تقديرات لنمو الاقتصاد العالمي والمخاطر أو الفرص المحيطة به) تم التأكيد على أن الارتفاعات الجديدة في أسعار السلع الأولية قد حدثت نتيجة للتقلبات الجيوسياسية، وعدم استقرار المعابر المائية، بما في ذلك الهجمات المستمرة في البحر الأحمر، التي يمكن لها أن تؤدي إلى انقطاع حركة إمدادات السلع.
كما يُعد الذهب مثالاً جيداً للسلع الأولية التي تتأثر بالأوضاع الجيوسياسية والسياسات العامة، الذي أصبح هو الخيار المناسب للمستثمرين والملاذ الأكثر أماناً لمدخراتهم، حيث أن الذهب يتمتع بوضع خاص بين جميع الأصول الأخرى. وبحسب التقرير المشار إليه أعلاه فمن المتوقع أن تسجل أسعار الذهب مستوى قياسياً في عام 2024م، وأن يزداد الطلب عليه من قبل البنوك المركزية قبل أن يتراجع قليلاً في عام 2025م. كذلك يشير التقرير السابق إلى أن تصاعد الصراع في الشرق الأوسط يمكن أن يؤدي أيضاً إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والأسمدة والمواد الغذائية. بينما يؤدي تسارع وتيرة الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء إلى تعزيز أسعار بعض المعادن مثل النحاس، ومن المتوقع أن ترتفع قيمته بواقع 5% في عام 2024 م. وأضاف التقرير أنه من المتوقع أن ترتفع أسعار الألومنيوم بنسبة 2% في عام 2024 و4% في عام 2025م؛ وهذا المعدن هو من السلع الأولية ذات أهمية كبيرة ومرتبط بشكل خاص بإنتاج البنية التحتية للطاقة المتجددة.
وعلى مستوى الإقليمي توصف القارة الإفريقية بانها معرضة بشدة لتقلبات أسعار السلع الأولية، وإن اعتمادها الكبير على صادرات السلع الأولية دائما ما يعرض بلدانها لتقلب أسعار السلع الأولية. وعلى الرغم من الإمكانات الهائلة التي تتمتع بها أفريقيا، فإنها تمثل 3% فقط من التصنيع العالمي. وهذا مما من شأنه أن يجعل القارة معرضة بشدة لتقلبات أسعار السلع الأولية، وذلك لضعف مساهمتها في التجارة العالمية، وبسبب ضعف الاندماج في سلاسل القيمة العالمية (هو مفهوم يعني قيام الدول بالتخصص في مرحلة محددة من مراحل الإنتاج المختلفة، لذا يتم تصنيع المنتج في عدد من الدول كل منها بقوم بتصنيع جزء من المنتج النهائي) ووفق استراتيجية التنمية المستدامة للقارة الإفريقية، التي ترجح أن أفضل فرصة لأفريقيا تكمن في التجارة البينية الإقليمية. لذلك من المتوقع أن تزيد منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية الصادرات البينية الأفريقية بأكثر من 81% بحلول عام 2035م، وذلك وفقاً تقرير الأداء الاقتصادي الكلي وتوقعاته في أفريقيا للعام 2024م الصادر عن مجموعة بنك التنمية الإفريقي؛ وهو تقرير نصف سنوي يهدف لتغطية الأداء الاقتصادي الكلي وتوقعاته في أفريقيا لجميع البلدان الأفريقية، ويعمل على تقديم تحليل منتظم للتطور الأخير والتوقعات قصيرة إلى متوسطة الأجل لهذه الشواهد الاقتصادية الكُلْيَة الرئيسة على المستويات القارية والإقليمية والقطرية، كما يقدم و يقترح برامج للمساعدة في صنع السياسات والاستراتيجيات والقرارات الاستثمارية في القارة.
نختم بالقول بأن تقلب أسعار السلع الأولية له الكثير من الأثآر السالبة على مشروعات التنمية المستدامة في الدول النامية، حيث سيؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأسمدة، وسيفضي لتفاقم الفقر وعدم المساواة في المداخيل، بالإضافة إلى الاضطرابات الاجتماعية والسياسية المحتملة والناجمة عن التضخم. كذلك سيؤدي تقلب أسعار السلع الأولية إلى اضطراب الإمدادات مع ارتفاع أسعار الشحن وشح في المعروض من السلع الأولية. كما تفرض تغيرات المناخ مزيد من الصعوبات بسبب نقص التوريد والتخفيض المحتمل في التمويل المناخ. كما أن تقلب حركة الاقتصاد الكلي العالمي أصبحت غير مؤكدة مع استمرار الصدمات المتعددة التي تجعل صنع السياسات وقرارات الاستثمار غير مستقرة، ومحاطة بعدد من المخاطر المحلية والإقليمية السائدة. وأصبحت الآن هناك حاجة مستمرة إلى التشخيص المنتظم وإجراءات تستهدف معالجة الأثآر الناتجة عن تقلب السياسات وآثارها على الاقتصادات خاصة في الدول النامية التي يجب أن تراعي في سياساتها البديلة التحول نحو المصادر البديلة في الغذاء والطاقة وغيرها. كما يعتبر تنفيذ الإصلاحات الهيكلية في إدارة الموارد من الأولويات المهمة التي تساعد تلك البلدان على تجاوز الصدمات الاقتصادية الكِلْيَة عبر تنوع الاقتصاد مع تعزيز التحول الرقمي، وتشجيع أنشطة القطاع الخاص، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي.

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء