حينما كفرت بالأحزاب السياسية

 


 

 


لقد نشأت وترعرعت في وسط الحركة الإسلامية، وكانت تدفعني معاني نبيلة  تتوق لنهل مبادئ الاسلام التي تصون الحقوق الإنسانية وتحفز على مدنية المجتمع والذي في إطاره تنشط الحركات الفكرية والسياسية والثقافية. وأشد ما كان يجذبني هو المدارسات الفكرية والنهل المعرفي والثقافي، حيث كانت لنا في إطار ضيق (مدرسة ثقافية اجتهادية) حاولنا عبرها تجاوز العديد من الأفكار التقليدية والسلفية، وتقديم نماذج حديثة، بالإضافة إلى محاولة تجسيد وترسيم إطار نقدي ذاتي بناء، على مستوى الفكر والممارسة. ودارت الكثير من الحوارات والنقاشات، وقتها، حيث كان وما زال للفكر السلفي الذي يعبد النصوص، مكانه المتفرد بالحركة.
أول صدمة تلقيتها، حين تفأجات بالانقلاب العسكري في 1989م، وكنت أعتقد أن  لو صبروا لأتوا عبر صناديق الاقتراع. وحينها فشلت كل الأيدلوجيا التي تم تقديمها كمبررات زائفة لتبرير ما حدث. أحسست أنه، في كل يوم تزداد خيبات أملي، فحتى على مستوى الفكر والتنظير، يمكنني القول أن التنظير كان إطاره قانوني بحت يتعلق بالدولة فقط، وحتى عندما استلمت الحركة مقاليد الحكم في البلاد، جاءت الممارسات على نقيض الكثير من هذه الأطروحات النظرية نفسها التي فشلت في أن تجد سبيلها إلى الواقع.
لم تحاول الحركة الاسلامية، تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها بمجيئها الي الحكم عبر فوهة البندقية، ولم تقم بالدعوة لانتخابات مبكرة تتشارك فيها على قدم المساواة مع بقية الاحزاب، كما لم تدعو بقية الاحزاب لتشكيل حكومة وحدة انتقالية، حيث كان باستطاعة الاحزاب أن تتشارك إذا أتيحت لها الفرصة لذلك. ولكن، انفردت الحركة بالحكم، وانصرفت كل الهموم إلى شخصية ومصلحية بحتة، حتى أصبحت مواجهة الآن باتهامات تتعلق بالفساد والممارسات اللااخلاقية.
فشلت الحركة، في أن تقدم تنظير لتغيير اجتماعي في اتجاه المجتمع المدني والدولة المدنية، وذلك لأن، الحركة الثقافية كانت حركة ضعيفة، وليس من الغريب أن تفشل في تقديم نموذج للتغير الاجتماعي، لأن طبعية النشاط السري والاجهزة السرية المتوجسة دائماً من كل تحد لو عابر، أضفت طابعاً طائفياً يرفض كل شئ مقدماً. ونجح هؤلاء الذين عرفوا وقتها بأهل -العمل الخاص- نجاحاً باهراً في إضعاف كل الحركات الفكرية والثقافية والسياسية التي وجدت على الساحة السودانية، ونتج عن ذلك الضعف والفتور الذي أصاب كل الحركات السياسية والثقافية -دون استثناء- إلى يومنا هذا.
ونتيجة لكل هذه التراكمات، والانحرافات السافرة عن المسار، وجدت أنني لم أكفر وحدي بالحركة الاسلامية، فمعي الكثيرون الذين سبقوني إلى ذلك، حيث تأرجحنا بين صواب الفكرة وأخطاء التطبيق، وخاصة، كنا نسمع بالمؤسسية والشورى والحرية والديمقراطية وحكم الشعب، وألقينا إليها بالاً، إلا أن سقطت كل الاطروحات مع مجيء الانقلاب العسكري، ولم تعد هنالك حركة اسلامية بل أشخاص ينفردون بالقرار وفقما اتفق مع أهواءهم حيث انصرفوا إلى توطيد المصالح الضيقة كل المباديء والشعارات النبيلة.
كنت اعتقد أنه قد يكون هنالك تطبيق للشريعة الاسلامية، إذا تم اتفاق حوله وذلك بالإقناع وليس بالجبر، وما إذا تهيأت الأطر الصحيحة والضوابط الديمقراطية، لذلك، أما تطبيق الحركة الاسلامية (الكيان الخاص) للشريعة الاسلامية، فحدث ولا حرج عن ممارسات ناقصة ومشوهة، أفلحت في كسب عداء الكثيرون للاسلام وذلك بالمثال العملي الذي أفرز عن نقص في الفهم والوعي لأبسط المباديء الاسلامية. حيث تجسد الفهم السلفي والنصي الحرفي وحتى ذلك لم يتوفقوا فيه.
السودان الآن يواجه أزمة سياسية وأخلاقية وأقتصادية كبرى، وتتحمل الانقاذ والكيان الخاص مسئولية كل الأخطاء التي حدثت من انقسام للجنوب ومن اشتعال الحرب في دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان، وكل الأزمات الاقتصادية الخانقة وكل الظلامات التي حدثت للمواطنين السودانيين من قتل وتعذيب واغتصاب واعتقال الخ، والتي ما زالت تحدث كل يوم، وذلك لأنها حادت عن الطريق وأصبحت عبارة عن حركة يسيرها أشخاص وفق أهواءهم وأدوءاهم المريضة، ولا مخرج من هذه الأزمات إلا بإسقاط هذا النظام.
أصبحت، أكثر ايماناً ، الآن، بدولة مدنية ديمقراطية ليبرالية تعددية تحافظ على كل المجتمع بغض النظر عن الجنس واللغة والدين والمعتقد. وتصون كرامة المواطن وقناعاته في ممارسة معتقداته وأفكاره بالشكل الذي يؤمن بها، فهي تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين وتقوم على قاعدة ديمقراطية هي المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات. ولا تتأسس بخلط الدين لتوظيفه مع السياسة، ضمن مزيج لاتفريق فيه بينهما بل تصدمك خبائث وقبح الافعال التي تختبى خلف مزيج حرصت عليه لبلوغ اغراض خاصة لا علاقة لها لا بالدين والمدنية ولا غيرهما. كما أن الدولة المدنية لاتعادي الدين أو ترفضه حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية أوغيرها ، فذلك يتنافى مع مبدأ التعددية الذي تقوم عليه الدولة المدنية.
ولنا حديث أخر حول هذا الموضوع،
Muna Abuagla [abuaglaa@gmail.com]

 

آراء