خطرُ التشظِّي الماثل: نظرةٌ في منعطفين شاخصين -2-

 


 

د. النور حمد
28 December, 2009

 

elnourh@gmail.com        

            هذه "أيام تدير الرأس"، عبارة معبرة أطلقها الكاتب المقتدر، المثابر، الأستاذ كمال الجزولي، وهو يحكي عن مبلغ حيرته فيما يتعلق بأحوالنا الشاخصة الراهنة. والحق أنني أحس بكثير من دوار الرأس هذه الأيام. فالأمور منتثرة على مساحات شاسعة، والرابط الوحيد الذي يربط بينها هو نذر التشظي، وربما ذهاب ريح القطر بالكلية!! استمعت، وأنا بصدد كتابة هذه المقالة، إلى كلٍّ من الأستاذ الطيب مصطفي، والأستاذ ساطع محمد الحاج، في واحدة من حلقات برنامج الاتجاه المعاكس، الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية. وكانت محاولتي أن أستمع إلى تلك المقابلة بذهن مفتوح، بلا أحكام مسبقة، خاصة أنني أميل إلى البحث عن وجه الصواب في رأي كل ذي رأي، مهما بدا غريباً أو غير مألوف. غير أن تلك الحلقة خيبت ظني وخرجت كمثيلاتها، من حلقات "الاتجاه المعاكس"، إذ كانت، في معظمها، مجرد "رَدَحِي". وبمشاهدتي المتكررة لهذا البرنامج الصاخب، توصلت إلى قناعة راسخة بأن مقدمه لا يطمح أصلاً في أن تكون حلقاته أكثر من مجرد "شَكْلَة" على الهواء! كان من الممكن لتلك الحلقة أن تقدم إضاءات هامة لكثيرٍ مما تشعب في شأن انفصال جنوب السودان، أو بقائه متحداً مع الشمال. ولقد لمست الحلقة في بعض لحظاتها عمق الإشكاليات الماثلة، إلا أن كراهية الضيفين لبعضهما بعضاً، صرفتهما من أن يجعلا منها حلقة مثمرة.         

            لست ممن يرون في تفضيل انفصال الجنوب عن الشمال، أو الشمال عن الجنوب (حسب موقع الرائي) أمراً نكراً، ينبغي عدم التفوه به. فلربما أصبح الإنفصال، في لحظة ما، واقعاً لا محيص عنه. فالأمور تحكمها ظروف وسياقات ربما وضعتنا وجها لوجه أمام خيارٍ واحدٍ لا ثاني له. فإن ثبت عجزنا الفاضح عن أن نُبقي بلدنا موحداً ـ وهذه ما حدث بالفعل منذ الاستقلال ـ فمن الخير لنا نحن أهل الوسط والشمال أن نفكر في حفظ ما تبقى لنا منه، بدلاً عن البكاء على اللبن الذي أريق منذ وقتٍ بعيد. ولكن، هل الانفصال يمثل الخيار الأمثل عندي؟ والجواب لا! فالانفصال هو خيار من يئس يأساً تاماً بعد أن تمت محاصرته في ركن ضيق، وأوشك على الموت في ذلك الركن. وما من شك عندي أن أغلبية سكان الوسط والشمال تريد للبلاد أن تبقى موحدة، ويعرف أكثرية هذه الفئة قيمة ومعنى أن تبقى البلاد موحدة, ولكنهم يعرفون أيضاً أن خيوط اللعبة ليست كلها في أيديهم. فالجنوبيون يفكرون في مصالحهم ككيان له خصوصياته التي تميزه عن المركز، مما يجعل المركز يفكر بنفس القدر في مصالحه التي يبدو أنها مصالح غير متفقٍ عليها بين أهله. بعبارة أخرى. أهل الوسط والشمال ليسوا في خندق واحد، فكل قبيل منهم يلعب أوراقاً مغايرةً لأوراق القبيل الآخر، مما جعلهم شركاء متشاكسين، فاقدين لأي رؤية استراتيجية متجانسة. فلو أن أهل الوسط والشمال، وأهل الشرق والغرب بقوا، ومعهم الجنوبيون في خندقٍ واحدٍ ـ وهذه أمنية حالمة ـ ولعبوا جميعاً  بالخيوط التي في أيديهم، بحذقٍ، وبمهارةٍ، لربما تمكنوا من اجهاض خطط من يلعبون ببقية الخيوط، خاصة اولئك الذين يحركون مسرحنا من وراء الحدود. واقع الحال يقول: أن لا أحد منا يلعب بالخيوط المتشابكة لعباً حاذقاً. فنحن الآن أشبه ما نكون ببطَّةٍ جالسةٍ sitting duck، لا تفعل شيئاً سوى انتظار وقوع الكارثة على رأسها المتعطل؟!

"منبر السلام" و"مثلث حمدي"

            كثيراً ما يشير الكُتَّاب إلى "منبر السلام العادل"، الذي يترأسه الأستاذ الطيب مصطفى وإلى "مثلث حمدي" الذي تسمى بإسم الشخص الذي اقترحه، وهو الأستاذ عبد الرحيم حمدي، بشيء من السخرية، وربما بشيء من الاستسخاف. وواضح أن بقاء الأستاذ الطيب مصطفى بما أسماه بـ "منبر السلام العادل"، خارج أسوار المؤتمر الوطني، ولو ظاهرياً، يبقى محل تساؤل. فهل ما يمثله منبر السلام العادل يمثل وقوفاً خارج أسوار المؤتمر الوطني حقاً، أم أن الأمر مجرد تقسيمٍ أدوار، فيه يلعب "منبر السلام العادل" دور الساحة التي يتم فيها التعبير خارج قيد نيفاشا، إضافة إلى تهيئة الرأي العام نفسياً لابتلاع لقمة الانفصال العسيرة البلع، تحسباً للإحتمال الأسوأ، وهو التشظي المتتابع الحلقات؟! الطيب مصطفى، كما هو معروف عنه، جزء لا يتجزأ من كيان الإنقاذ، فهو من رجالاتها البارزين، بل هو خال رئيس البلاد نفسه، كما يتردد دائماً. أما "مثلث" حمدي، الذي أفرد له تقرير مجموعة الأزمات الدولية  ICG فقرة كاملة، مما يدل، من وجهة نظري، أن الجهات الأجنبية تنظر إلى ذلك المثلث كاستراتيجية إنقاذية بديلة، في حالة تداعي الأمور إلى مربع خطوط الدفاع الأخيرة، فيقدم هو الآخر صورة البلاد عقب الإنفصال وانسلاخ الهوامش التي تختلف عن الوسط عرقياً، ودينياً وثقافياً. فهل يمثل كلاً من "منبر السلام العادل"، و"مثلث حمدي" ضلعين في استراتيجية مرسومة بعناية تحسباً لأسوأ الاحتمالات؟ ولنستصحب ونحن نسأل هذا السؤال، ما ورد في تقرير الـ ICG حول بدء حكومة الانقاذ في التركيز الشديد على تقوية البنى التحتية في الإقليم الشمالي. وأضيف أنا من جانبي اتجاه الحكومة لتغيير واقع مشروع الجزيرة، وجعل الجزيرة وما حولها مع نخبها المهمشة رديفاًً على سرج هذه المنظومة الجديدة، التي يبدو أن الإقليم الشمالي يضع نفسه في مقعد قيادتها. ولقد أحسست في آخر زيارة لي إلى الجزيرة، قبل ما يزيد على الشهر، حالة التململ الشديدة التي بدأت تعتري أهلها، وإشاراتهم بالأصبع للمنحى القبلي الذي انجرفت نحوه الإنقاذ. مما يجعل المرء يقول: يا متنفذي الشمال، تذكروا عبدالله ود تورشين وارتداده من مهديته الواسعة إلى حجر القبيلة الخرب!

نظرية المؤامرة: أليست هناك مؤامرات؟!

            كثيرا ما يلجأ البعض، حين يريدون أن يجردوا حجةً، أو وجهة نظرٍ، من الحِجِّية والوجاهة، إلى القول بأن صاحبها يميل إلى تبني نظرية المؤامرة. ونتيجة لهذا الترويج، والقمع الاستباقي ـ الذي أراه من جانبي جزءاً من المؤامرة نفسها ـ أخذ كثيرون يخافون من الاتهام بالايمان بنظرية المؤامرة. ولذلك نجدهم كلما أحسوا أنهم يقتربون من الخطوط الحمراء، التي ربما تضعهم في سلة الإيمان بنظرية المؤامرة المستهجنة على نطاق واسع، يبادرون بالقول: ((أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة، ولكن ....)). فهل حقا لا توجد مؤامرات؟! وهل خرجت استراتيجات الهيمنة طويلة المدى التي تضعها القوى الغربية، وما نتج منها من استعمار قديمٍ لشعوب الأرض، ومن استعمار حديث، واستتباعٍ اقتصادي، وثقافي عولمي، عن كونها مؤامرات؟! وهل كان احتلال العراق الأخير سوى مؤامرة، وحلقة رئيسة من حلقات مخطط الشرق الأوسط الكبير، الذي يهدف إلى جلوس إسرائيل بعقيدتها الصهيونية على عرشها المأمول، بحيث لا يبقي للآخرين في تلك "المملكة العرقية الربانية"، من دورٍ، سوى دورِ الخادمِ المطيعِ، المغلوبِ على أمره، المعتمد على فتات سيده؟! وهل يخرج ما يجري في السودان منذ ما قبل الإستقلال عن كونه ـ ولو جزئياً ـ حلقة من حلقات تلك الإستراتيجية العريضة طويلة المدى؟! لقد قادنا تشبثنا التاريخي بالقومية العربية، وبالمركزية الإسلامية الشرق أوسطية، إلى أن نقع ضمن بؤرة التفتيت وإعاقة النمو. وإلا، فلماذا لا تعاني يوغندا، أو كينيا، أو إثيوبيا، بنفس القدر الذي نعاني منه؟! فهي تشبهنا في التعدد العرقي، وفي الفقر. كل ما في الأمر، أنها لا تقع، بحكم تكوينها الثقافي، في دائرة الإستهداف الأولى للمشروع الصهيوني. كما أنها، بحكم قلة مقاومتها للغربنة، تبقى أكثر قابلية للإستتباع الثقافي، بأكثر من السودان الذي عرف الغرب خطورة تكوينه الثقافي على مشاريعه، منذ الثورة المهدية. أيضاً، لماذا وُوجهت إرتريا بالفصل السابع وبالعقوبات، قبل أيامٍ، دونما كثير مقدمات؟ أليس لأنها أصبحت غير متعاونة في ترتيب شؤون القرن الإفريقي؟! ولست هنا بصدد الدفاع عن إرتريا، فسياسها الخارجية لا تبعث على الإعجاب، وكل ما أردته من ضرب المثل بها، هو الإشارة إلى أن بعض الدول التي وضعها حظها العاثر في بؤر الحراك الحي للاستراتيجيات الكبرى، لا يُقبل منها سوى التعاون التام، أو الذهاب غير مأسوف عليها، أو الغرق في أتون الفوضى طويلة الأمد التي تحرق الحرث والنسل، وتغلق كل أبواب الأمل، وتدفع بالسكان المساكين لكي يهيموا على وجوههم في فجاج الأرض.

            ليس من الميسور إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وتغيير المسارات التي تشكلت منذ زمن طويل، وتغيير الصورة التي ارتسمت لنا في أذهان راسمي سياسات الهيمنة الغربية. ولا أريد من هذا أنت اقول إن السيف قد سبق العذل، وإنما أريد أن أقول أننا لو فهمنا حقيقة ما يُراد بنا، وتكاتفنا لحماية ما يجمع بيننا، وهو الوطن في الحد الأدنى، فإن بوسعنا أن نجهض المخططات الخارجية، وبيسرٍ شديد. فاليوم عرف الضعاف كيف يبددون طاقات القوي، كما في أفغانستان والعراق، وجنوب لبنان. ولكن في ظل هذا التشرذم الكبير الذي يلفنا، فنحن لن نكون، فيما يبدو، أكثر من مجرد لقمة سائغة لمن يريد أن يبتلعنا. ولا فرق، إن كان البالع قوة دولية، أو قوة إقليمية، تماهت مصالحها مع القوى الدولية. فحالنا في جملته يمثله خير تمثيل قول القائل: ((لقد هَزُلتْ حتى بدا من هُزَالِها، كُلاها، وسامها كلََُّ مُفْلِسِ)).

            حكومتنا القائمة الآن حكومة فاقدة للبوصلة، ويعاني مسؤولوها عزلةً فكريةً، وأخلاقية. والشاهد على ذلك أننا نرى، حتى في هذا الظرف الحالك، الذي أصبحت فيه البلاد في كف عفريت، أن أعين أكثريتهم مصوبة على الأسلابِ والغنائم. فقد تراجع في أكثريتهم الهم العام، وتراجع ما ظنوه في أنفسهم، حين كانوا طلاباً في الجامعات، أو في الكليات العسكرية، إنشغالاً بالبلاد والعباد، وضاق أفق الرؤية لديهم، وفقدوا الإحساس بحقيقة ما يجري في محيطهم، بدرجة جعلتهم يفيئون إلى جحر القبيلة الخرب، ظانين به العصمة من الماء. يعاني كثيرٌ ممن يديرون شؤوننا وشجوننا، بالنيابة عنا، في هذه اللحظة الفارقة من إعتدادٍ بالذاتِ موبق، واستبدادٍ بالرأي لا يفضي سوى إلى الخراب. إن حال السودان اليوم، يبدو لمن قرأوا التاريخ، ووعوا عبره ودروسه، حالٌ جد شبيهٍ بحال دويلات ملوك الطوائف، في غروب الحقبة الإسلامية في الأندلس.

المخطط الغربي مَرِن

            يستبشر كثيرون حين يرون أن الإدارة الأمريكية تضغط أحيانا في اتجاه الوحدة. غير أن حرص الإدارة الأمريكية على وحدة السودان، واستقراره ونمائه ليس حرصاً أصيلا! الإدارة الأمريكية، بغض النظر عن من يجلس في البيت الأبيض، سواء كان جمهورياً، أو ديمقراطياً، إنما تهتدي بهدي استراتيجيات كلية. وقد أضحت الأجندة الصهيونية تلعب في هذه الإستراتيجيات دوراً محورياً. وبناء على ذلك، فإن تحجيم نمو السودان، وامساكه عن الإنطلاق، وإبقائه تحت السقف المرسوم له يمكن أن يتخذ أكثر من مسار. فهو يمكن أن يتخذ مسار التفتيت، كما يمكن أن يتخذ مسار دعم الوحدة المضطربة المعوقة للنمو وللاستقرار. كلا المسارين يمكن أن يسهما في ألا تتهيأ للسودان فرصاً للتحول إلى قوة، إقتصادية، قادرة على تأمين الغذاء، وعلى تأمين مورد الماء، أو إلى قوةٍ يمكن أن تسهم بشكل من الأشكال في تعطيل أو إرباك المشروع الصهيوني. والمشروع الصهيوني مشروع كوكبي، تمثل فيه السيطرة على الشرق الأوسط مجرد حلقة أولى. فإن تم تعويق انطلاق السودان بالتفتيت فبها، وإن تم بالابقاء على الوحدة المضطربة، التي لا تتيح له مجالاً للاستقرار وللنمو، فبها أيضاً. بعبارة أخرى، حبس السودان في خانة العجز، وقلة التأثير، يمكن أن يأخذ اياً من المسارين المشار إليهما! ولذلك ينبغي، حسب وجهة نظري، ألا نفسر ما يتبدى هنا وهناك، من ضغط يعلو حيناً وينخفض حينا آخر، في اتجاه تحقيق الوحدة، تفسيرًا واحداً منطلقاً من الظنِ في نبل مقاصد الإدارة الأمريكية. فالإدارة الأمريكية، على أي شكلٍ كانت، وفي أي وقتٍ كانت، ليست لها مقاصد نبيلة، فيما يخص الشعوب الفقيرة، وإنما لها مصالح يقف وراءها أفق ضيق، أساسه الحرص المفرط على الذات، وتكبير الكوم، على حساب الآخر. فالرأسمالية إنما تعتمد في كل الأحوال مقولة هوبس: ((الإنسان ذئب الإنسان)). وهي المقولة التي رأي فيها غارودي أصلاً لكل الشرور التي يعاني منها عالم اليوم، خاصة المستضعفين، وما أكثرهم!

            ترى فلسفة الحكم الغربية شيئاً واحداً فقط، هو خدمة المصلحة الذاتية، وبأي سبيل كان. ولكن هل يعتنق حكامنا الذين نراهم تنتفخ أوداجهم حين يصبون جام لعناتهم على الغرب، فلسفةً غير هذه؟! فهم كما تقول الشواهد، يتحدثون مجرد حديث انشائي تعبوي وعظي عن قيم العدالة الإسلامية، في حين يطبقون فلسفة الحكم الغربية بحذافيرها. بل إن الغربيين لم يملكوا، رغم كراهيتهم لأهل الأنقاذ، إلا أن يصفقوا لهم، وهم يرونهم يخصخصون، ويفصلون العاملين عن العمل، ويرفعون الدعم عن كل الخدمات الضرورية. يضاف إلى ذلك أن حكامنا حين يقومون بتطبيق فلسفة الحكم الغربية علينا بحذافيرها، لا يفعلون ذلك في إطار يتسم بالشفافية، وبالديمقراطية، كما في الغرب. وإنما في إطارٍ يتسم بالفساد، وبقلة الشفافية وبانعدام الديمقراطية! وهذا ما سوف أتعرض له في الحلقة الثالثة والأخيرة التي سوف أناقش فيها المنعطف الثاني، أي منعطف الموقف من الرأسمالية المعولمة العابرة للقوميات، كما يسميها سمير أمين.

            خلاصة القول حول المنعطف الأول، وهو منعطف نذر التشظي، هي ألا ننظر إلى دعوة "منبر السلام العادل" إلى فصل الجنوب، ودعوة عبد الرحيم حمدي للتركيز على مثلثه الذي اقترحه، بنفس نبرة الاستخفاف والاستسخاف اللتين ظللنا ننظر بهما إليهما. فمن يدري؟ فلربما وجدنا أنفسنا نحن أهل الشمال والوسط، مواطنين في مثلث حمدي، هذا (لا إيدنا لا كراعنا)!!

            الوحدة مع الجنوب لا تعني بالضرورة طريقنا إلى الاستقرار والعزة والمنعة! والانفصال عنه، والتوافي إلى مثلث حمدي، لا يعني من الناحية الأخرى طوق نجاتنا الناجع! بل إن مثلث حمدي، حسب ما يتردد ويتم تداوله من خلف الكواليس،  ربما أرجعنا إلى الهيمنة المصرية، التي ما صدقنا أننا خرجنا منها. الأمر في عمومه ملتبس، وأجواؤه غائمة، بل ومعتمة. والأمر شديد التركيب ويدير الرؤوس حقاً، ولا تنفع معه معالجات الخطاب السياسي اليومي. لابد من رؤية كل خياراتنا فيه بجديةٍٍ، بما في ذلك مثلث حمدي، أو "سفينة نوح" الشمال والوسط الأخيرة!! يجب النظر في كل خيارٍ متاحٍ وفق الأطر الحقيقية المحيطة به، لا وفق أطر الطفولة السياسية، والتفكير بالعواطف النواضب والأماني الخلب. نحن نواجه تحدياً حقيقياً، يمكن أن تذهب معه ريح كل شيء، كنا نظن به الثبات! الأمر ملتبس جداً، والأفق غائم، ونحن قوم بلا مراكز أبحاث يعتد بها، ويدير أمورنا عبر طيفنا السياسي سياسيون لا يتعدى مدى رؤيتهم أرنبات أنوفهم. يضاف إلى ذلك، إن جماعة الإنقاذ، كما أشرت في مقالتي السابقة، تخطط للسودان وتتصرف فيه كمن يتصرف في ضيعة تخصه. ولو سارت الأمور على هذا النحو، فنحن مقبلون على ظلمات بعضها فوق بعض! المشكلة أكبر من مجرد اتفاقية سلام، وأكثر من مجرد بنودٍ في اتفاقية. بل إن الإتفاقيات والبنود مما لم يقم أصلاً على رؤية استراتيجية كلية تستصحب علماً دقيقاَ بما يعتور القطر والإقليم، كما تستصحب فهما لتحديات المنعرج الكوكبي الكبير الذي نقف عليه، تصبح من الناحية العملية مجرد شركٍ لتضييع الوقت، وللإلهاء، وتبديد الطاقة. فأين سياسيونا شماليون وجنوبيون بكل أطيافهم السياسية من فهم المنعرج الكوكبي الراهن الذي توشك فيه الرأسمالية المعولمة عابرة القوميات من الإمساك بعنق كل شيء؟! (يتواصل)

 

آراء