خواء المزايدات

 


 

د. النور حمد
26 September, 2020

 


صحيفة التيار 26 سبتمبر 2020
الظرف الذي يمر به السودان الآن ظرف لا يحتمل المزايدات السياسية. فقد ورثت الفترة الانتقالية خزينة خاوية واقتصادًا منهارًا تدور عجلته بعيدًا عن عين الرقيب الحكومي. تنصلت حكومة الإنقاذ عن الصرف على جميع الخدمات الرئيسية كالصحة والتعليم وغيرها وحولت موارد البلاد الرئيسة لجيوب منتسبيها وشركائهم في الداخل والخارج. فأصبح نهب هذه الموارد يجري بصورة يومية ويجري تصديرها إلى الخارج، ولا تتلقى خزينة الدولة شيئا من عوائد صادرها. باختصار، ورثت حكومة الفترة الانتقالية دولةً منخورةً من الداخل، لا حول لها ولا قوة. ومع ذلك، لم تمض سوى ستة أشهر، حتى اجتاحت العالم جائحة كورونا التي أنهكت حتى اقتصادات الدول الصناعية الكبرى، وخلقت لها من الاشكالات ما لم يسبق أن توقعها أحد من الاقتصاديين، أو السياسيين. ولم تمر أكثر من ستة أشهر أخرى حتى اجتاحت السيول والفيضانات البلاد وأحدث دمارًا لا شبيه له فيما حوته الذاكرة الحية من كوارث الفيضانات التي حدثت في المئة سنة الأخيرة وتناقلت أخباره الأجيال. الشاهد، أن وضع البلاد الحالي غريب في استثنائيته. ويحتاج الخروج منه، مقاربات استثنائية وعقولا حرة نزيهة لا تزايد من أجل الكسب السياسي الرخيص، ولا تتاجر بمصير البلاد والعباد.
كل من يقول أن في وسع السودان الخروج من هذا المطب الخطير بقدرته الذاتية، فهو إما شخص مزايدٌ لا يبالي أو أنه غير مدرك لحجم الأزمة وخطرها. جارتنا إريتريا رفعت منذ ثلاثين عاما الشعارات اليساروية الانغلاق ية، فماذا أنجزت؟ لقد تحولت إريتريا إلى بلقع هجره أهله وتشتتوا في بقاع الأرض، ولقي زهرة شبابها حتفهم غرقا في البحر الأبيض المتوسط، أو تعذيبًا على أيدي محترفي الاتجار بالبشر. أما الذين يتحدثون عن الكرامة وعن استقلالية القرار السياسي ونحن نعبر حالة الخنق الاقتصادي الماحقة الراهنة، فشراذم من المتنطعين الذين لا يعرفون إكراهات السياسية وموازناتها، ولم يدبروا شواهد التاريخ كما ينبغي.
لقد سبق أن ذكرت في بعض مما كتبت أن الاعتداد الياباني والألماني بالذات لا مثيل له. ومع ذلك عرفت كلتاهما كيف تحنيان رأسيهما عند المنعطف الخطر. لقد دوخت اليابان أمريكا في المحيط الهادي ودمرت ميناءها الحربي وقطع اسطولها في بيرل هاربر. واحتلت ألمانيا النازية أوروبا القارية بأكملها واوشكت أن تجعل بريطانيا العظمى تركع بين يديها، لولا التدخل الأمريكي الكاسح. أيضا زحفت ألمانيا على الاتحاد السوفيتي وتوغلت في أراضيه حتى لينينغراد. وحين فاجأت أمريكا اليابان، ومن ورائها العالم بأجمعه، بإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي، لم تجد كلا ألمانيا واليابان أمامها ما تفعلانه سوى الركوع للجبروت الأمريكي، والأوروبي. حنت كل من ألمانيا واليابان رأسيهما ولعقتا جراحهما واتجهتا إلى بناء اقتصاديهما بعد أن جرى تجريدهما من الآلة العسكرية، فأصبحتا في بضع عقود ثاني وثالث أقوى اقتصادين في العالم. قبل كلتاهما الهزيمة في الحرب لكنها انتصرتا في الاقتصاد وتخطيتا في ذلك بريطانيا العظمي وفرنسا.
نحن لم نتعرض للمهانة التي تعرضت لها كل من ألمانيا واليابان. لدينا فرصة لانتشال بلادنا من حفرة الوأد بتبادل ما لدينا من عناصر القوة بما لدى خاطبي تعاونا مما نحن بحاجة إليه حاجة حياة أو موت في هذا المنعطف الحرج. كل ما يتعين علينا في هذه اللحظة الفارقة بين فرصة البقاء وانهيار الدولة بالكلية هو الخروج من الاعتداد الزائف بالذات، ومن نزعة التحدي الصدامية الرعوية ومن الانسياق وراء الشعارات. هذا ما سوف يحفظ بلادنا ويخرجنا من سياسات المزايدة إلى نطاق الفعل في الواقع الذي لم نمارسه منذ الاستقلال مهدرين طاقاتنا في المزايدات وفي تدبيج الخطاب السياسي المعلق في الهواء. لا مخرج من وضعنا الراهن الخانق إلا بعون أجنبي وهو ما يقتضينا في اللحظة الراهنة، شيئًا من المرونة وحني الرأس للعاصفة وابتلاع الشعارات الفارغة. وهذا في تقديري ما سوف يحدث.

 

آراء