خواطر حول الدولة المدنية (2)
منى بكري أبوعاقلة
3 February, 2012
3 February, 2012
حرية التعبير عن الرأي
استرسالاً لما بدأناه من تواصل خواطرنا حول الدولة المدنية، ولتقريب الشقة بين النظرية والتطبيق، نود أن نقدم نماذج عملية من دولة المدينة المنورة، ونقرأها مع أنموذج المشروع الحضاري الاسلامي (السودان)، لنرى ما عليه الخلاف والاختلاف في التطبيق والممارسة بين دولة المدينة ودولة المشروع الحضاري السوداني في شأن حرية الرأي والتعبير.
تأسست دولة المشروع الحضاري الاسلامي على أساس أن الحرية هبة من الله أساسها أن الناس خلقوا أحراراً لا يجوز قهرهم واستعبادهم ، وأن الوحدة تتحقق بالتمازج القومي الذي يحترم التنوع والتعدد باعتبارهما مصدر قوة وفاعلية (كما جاء في الاستراتيجية القومية الشاملة 1992-2002)، وبدلاً عن تحقيق ما جاءوا به، اتجهوا لتوظيف الدين لخدمة أهواء وأدواء أفراد وافلحوا في توطيد حكمهم بتكميم الأفواه وبقمع حرية الرأي والتعبير، وبدلاً من صياغة ثقافة المجتمع على أسس ترعى التنوع والتعدد وتعتمد الأخلاق والحكمة وتستند إلى الوعي والصدق نجدهم قد صاغوا المجتمع على القمع والارهاب الفكري والسياسي، إلى أن تحول المشروع الحضاري إلى مشروع سلطة يديره ما يُعرف بالكيان الخاص، حيث عملوا على قطع دابر كل من يخالفهم الرأي!!!.
في حين يَعُد الإسلام حرية الرأي والتعبير حق وواجب، كما يقر القرآن بتعددية الآراء وتنوعها وأن وجود التنوع والاختلاف من المقومات الأساسية في المجتمع الإنساني، حيث يقول تعالى: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)) سورة هود آية (118). فالإختلاف قاعدة ربانية بين البشر وإن كانوا أمة واحدة. وهذا يستوجب حرية التعبير عن الرأي كقاعدة أصولية دينية ودنيوية، وهذا ما نفهمه من ختام الآية السابقة " وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ". فثمة إقرار هنا للاختلاف بين مجتمع وآخر على مستوى التكوين الديني والاجتماعي. ويعترف الخطاب القرآني، بتعدد الانتماء الديني في الأمة الواحدة دون أن يخل هذا التعدد بوحدة الأمة. فالوحدة الانسانية تقوم على الاختلاف والتنوّع وليس على التماثل والتطابق. فأينما دار الإنسان ببصره في هذا الكون، وجد التعدد والاختلاف والتنوع في كل شيء.
القرآن الكريم أبان في نصوصه معنى حرية الرأي والتعبير ورسخ لحرية تعدد الآراء، وسعت السنة الشريفة وأيدت بالتطبيق العملي هذه المعالم بحديث الرسول (ص) «اختلاف أمتي رحمة»"، ما يؤكد أهمية هذا المبدأ في الإسلام.
ذهبت دولة المشروع الحضاري أبعد من ذلك، مخالفين حتى قوانينهم التي وضعوها والدستور، حيث نجد أن الدستور السوداني كغيره من الدساتير نص على حرية الرأي والتعبير، حيث ذهب الدستور الانتقالي لعام 2005م ونص في المادة (39) حرية التعبير والإعلام:
(1) لكل مواطن حق لا يُقيد في حرية التعبير وتلقي ونشر المعلومات والمطبوعات والوصول إلى الصحافة دون مساس بالنظام والسلامة والأخلاق العامة، وذلك وفقاً لما يحدده القانون.
(2) تكفل الدولة حرية الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى وفقاً لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي.
(3) تلتزم كافة وسائل الإعلام بأخلاق المهنة وبعدم إثارة الكراهية الدينية أو العرقية أو العنصرية أو الثقافية أو الدعوة للعنف أو الحرب.
ونرى أن هنالك قانون للصحافة والمطبوعات يجب أن يُحاكم به الصحفيون في قضايا الرأي، ولكنهم يحاكمون بالقانون الجنائي السوداني 1991م، وتوجه لهم جرائم منها، القذف، التحريض، إثارة الفتنة، نشر الأخبار الكاذبة، وتوقيض النظام الدستوري، وغيرها من تهم توجه على أساس أنها تشكل مخالفة صريحة تتعارض مع حرية الرأي والتعبير وتشكل حدود وقيود عليها. وتجدر الإشارة إلى انه من الصعب الإتيان بالاثبات القانوني في حال توجيه التهم، وعلى سبيل المثال، نورد ما حدث في قضية الصحفي (أبوذر علي الأمين) الذي سُجن بسبب مقال رأي كتبه، ووجهت له تهم "إثارة الفتنة" و"تقويض النظام الدستوري" في حين عجزت نيابة أمن الدولة عن تقديم إثبات يفيد المخالفة القانونية، وعجز الشاكي (جهاز الأمن) عن الاثبات كذلك، ورغم ذلك جاء قرار المحكمة العامة مؤيداً للتهم وأصدرت حكمها بالسجن خمسة سنوات. وبرر القاضي في حيثيات قراره بأن الصحفي المتهم أساء أدب الحديث مع السيد الرئيس.
في حين أن هنالك من أثاروا الفتنة فعلاً ودقوا طبول الحرب، وأثاروا النعرات العنصرية والعرقية ولم توجه لهم مثل هذه التهم، وأرسى القانون بذلك سابقة خطيرة، فتحت الباب على مصراعيه لإدانة الصحفيين والكتاب المعارضون لنظام الإنقاذ ولمشروعهم الحضاري، وعجزت عن إدانة من يخالفون القانون وعلى رؤؤس الاشهاد. ومن ثّم توالت التهم وتم جرجرة عدد من الصحفيين والكتاب بتهم هلامية يعجز الإدعاء عن إثباتها أمام المحاكم. وتمادي مقحماً حتى قضايا (الردة) التي يواجه بها الآن الاستاذ شمس الدين ضؤء البيت، ويهدد بها السيد الصادق المهدي أخيراً . وإن دلّ هذا، فإنما يدل على استبداد الأجهزة الحكومية وفشلها في القيام بواجباتها التي نص عليها الدستور. ومن ناحية أخرى، يدل أيضاً على فشل المشروع الحضاري الاسلامي في تطبيقه للشريعة الاسلامية وفي التقيد والالتزام بما جاء في القرآن الكريم وما بينته السنة المطهرة في أمر حرية الرأي والتعبير، خاصة وأن الردة ليست حد ولا تهمة توجه وأن هنالك حرية مطلقة للفكر وللعقيدة، وأن الاسلام أباح حرية الكفر، كما قال تعالي "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " سورة الكهف (29).
ولنستوضح أكثر الصورة والتطبيق العملي لحرية التعبير عن الرأي، ولنبادر بطرح هذه الأسئلة وسنقوم بالإجابة عليها من خلال العرض، هل كانت حرية التعبير عن الرأي في دولة المدينة لها حدود وقيود أم مطلقة؟ وهل بإمكان الأفراد التعبير عن الرأي دون الاصطدام بعقبات قانونية وسياسية؟؟، وكيف يكون ذلك؟ ومن له الحق في وضع الحدود على حرية الرأي؟؟ وعلي أي الأسس يتم ذلك؟؟؟ وما هي آليات الحماية؟؟ وكيف تكون؟؟؟ وما هي التحديات الآنية التي تقف ماثلة أمام حرية التعبير عن الرأي؟؟.
في الإجابة على هذه الأسئلة، وبالنظر إلى دولة المدينة، نجد أن الخليفة نفسه يطلب إلى الناس أن يبدوا رأيهم في سياسته بصراحة مهما كان الرأي . يقول أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) حين ولي الخلافة : "أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدد وني" .
ويقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في إحدى خطبه : "أيها الناس ، من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه ". فقام أحد الحاضرين وقال : "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا " . قال عمر : "الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم عمراً بسيفه " .
واضح أن أمر مناصحة الحكام كان مطلقاً ولم تحده أي حدود أو تفرض عليه أي قيود سياسية من قبل الخليفة، فقد كانت حرية التعبير عن الرأي واجباً مقرراً على ذوي الرأي والفكر والخبرة من رجال الإسلام ، وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم ) في هذا الشأن كثيرة ، تؤكد دائماً أن الدين النصيحة . ومن الأمثلة في التطبيق ، نذكر الأمثلة:-
أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي في دمشق خرج يوماً من الأيام مع بعض جنوده إلى الصحراء ثم انقطع عن جنوده هو ابتعد عنهم وهم ابتعدوا عنه فرأى أعرابياً فأراد أن يأنس بحديثه اقترب منه وسلم عليه قال أتعرف عبد الملك بن مروان؟ قال الإعرابي : نعم ذاك والله الجائر البائر.
قال له: أنا عبد الملك بن مروان!!
قال: لا حياك ولا بياك ولا قربك أضعت حرمة الله وبددت أموال الناس.
قال له: ألا تعلم أني أضر وأنفع.
قال: لا رزقني الله نفعك وكفاني الله ضرك.
ومن ذلك أيضاً، دخل أبو مسلم الخولاني (وهو من التابعين وأسلم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام) على معاوية بن أبي سفيان ، فقال : السلام عليك أيها الأجير . فقالوا له : قل السلام عليك أيها الأمير . فقال : السلام عليك أيهاالأجير . فقالوا : قل الأمير . فقال معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول .
فقال : إنما أنت أجير استأجرك رب الغنم لرعايتها ، فإن أنت هنأت جرياها ، وداويت مرضاها ، وحبست أولاها عن أخراها ، وفاك سيدها أجرك . وإن أنت لم تهنأ جرياها ، ولم تداو مرضاها ، ولم تحبس أولاها عن أخراها ، عاقبك سيدها ! [ابن تيمية ، السياسة الشرعية ، ص 12 وما بعدها] .
وبالنظر لواقع التطبيق لدولة المشروع الحضاري وللممارسات نجد أن هنالك تحديات جمة تشكل تناقضاً كبيراً لما أرسته دولة المدينة وما جرى به العمل ومن هذه، التصاعد المستمر لقمع حرية الرأي والتعبير، حيث لا تزال سيطرة الحكومة على وسائل الإعلام، وهي من القيود التي ما فتئت تحد من حرية التعبير، وتشكل مشكلة خطيرة. وما زال القانون الجنائي يُجرم الصحفيين وليس قانون الصحافة والمطبوعات. كما يظل العنف ضد الصحفيين يشكل ﺗﻬديدا خطيرا جدا، حيث تتزايد حوادث سجن الصحفيين بدوافع سياسية يوماً بعد أخر. كما أسيء استخدام مفهوم الأمن القومي على مر السنين لفرض قيود واسعة غير مبررة على حرية التعبير. كما نجد أن حرية التعبير على شبكة الإنترنت ما زالت هنالك جهات متنفذة تقوم بوضع عراقيل وبتهكيرها.
وأنني أؤيد حرية الرأي المطلقة حيث يجب أن تقارع الحجة بالحجة والرأي بالرأي الأخر، وأن أي محاولات لاسكات الرأي الأخر بقوة القانون هي محاولة يائسة وفاشلة في سعيها ولن تؤتي أُكلها، وأن هذه المحاولات اليائسة بحد ذاتها تشكل مخالفة صريحة لقواعد حرية التعبير عن الرأي ومخالفة لقيم الدولة المدنية والتي تتفق مع مباديء حقوق الانسان العالمي الذي نص في المادة 19على (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية). وإذا كان ولابد من قانون يحد من حرية التعبير فيجب أن يراعي التعدد والتنوع، وأن يحترم أدب الخلاف، وأن تتراضى عليه كل الأطراف المتخالفة وغيرها، وهذا القانون المتقف عليه هو وحده الذي يحدد الخلافات، التي بدورها تعرض فقط أمام قضاء نزيه ومستقل ولا تشوبه شبهة فساد قانوني وسياسي.
Muna Abuagla [abuaglaa@gmail.com]