دارفور المستوطنة الأخيرة، ريثما يتم الجلاء، للدكتور الوليد آدم مادبو- ومن ترى يريد استعمار دارفور ومن ترى يريد دارفور؟ 2 من 2
الوليد محمد الأمين
5 December, 2024
5 December, 2024
عرض ونقاش: الوليد محمد الأمين
ولكن الهامش على كل حال عند الدكتور مادبو لا يشمل الشمال ولا الجزيرة ولا الشرق، وإن ورد ذكر الشرق مرة مرة على خجل، بل الهامش هو بحسب المؤلف: " الهامش الجغرافي، الذي ومن عجب تمدد ليشمل كل أنحاء السودان ابتداء من أمدرمان والتوجه غربا، والهامش الاقتصادي أولئك الفقراء الذين أحصروا داخل المدن والذين لا تأبه بهم النخب المركزية إلا حال التعبئة السياسية". أما جنوب السودان الذي انفصل الآن بدولته المستقلة، فيقول الكاتب عنه "انسان الجنوب الذي ظلمه الساسة والعسكر الشماليون مرتين: مرة عندما فصلوا الجنوب، ومرة أخرى عندما اتخذوا السبل السياسية والإدارية كافة للحيلولة دون تواصله مع اخوانه وأشقائه البقّارة الذين يقطنون بحر العرب"! في الحقيقة يعجب المرء من خبث هؤلاء السياسيين والعسكر الشماليين الذين أفسدوا علاقات الأخوة بين الجنوبيين ومن سماهم الكاتب بأشقائهم البقّارة، هذا بالطبع دون الرجوع لطبيعة العلاقات بين هؤلاء الأشقاء وأحداث مجزرة الضعين، بل وعلاقات الرق التي توثق العديد من الدراسات دور السلاطين في دارفور فيها.
ترد في الكتاب الإشارة إلى حميدتي، الذي كان قد بزغ نجمه وقتها وكان حليفا موثوقا للرئيس السابق عمر البشير وقتها. وعن ذلك يقول الدكتور مادبو إن الإنقاذيين لن يترددوا في إعلان المليشيات الحكومية مجموعة إرهابية إذا أحست منها خطرا. ثم هو يسمي من تحدثوا أو كتبوا محذرين مما سماها ب "قيام دولة الفريق حميدتي" ب "الأقلام المسمومة وإذا شئت المأجورة"، ويرى أن جهاز الأمن يستثمر في خوف المواطنين من "الغرابة والعبيد" فيسعى لتضخيم بعبع "الجانجويد" بحيث لا يتجاوزوا خانة الخفير". أما الجنجويد ذاتهم فيقول الكاتب عنهم: "إن جنجويد لفظ وافق أهواء المغرضين الذين نسوا أن العرب كانوا يقايضون عشرة جمال ببندقية واحدة لحماية أموالهم التي كانت تتعرض للنهب من قبل مجموعة مدعومة إثنيا لقيت دعما غير محدود في فترة من الفترات ولم تزل من حكومة تشاد". والجماعات الاثنية المقصودة هنا هي بالطبع القبائل غير العربية في دارفور التي لها، كما للقبائل العربية في دافور، امتداداتها القبلية والمجتمعية في تشاد. ومن غير الدخول في دحض هذا التفسير لنشوء الجنجويد بتصويرهم كرد فعل، فينبغي ملاحظة أن الجماعات التي وصفها الكاتب بالمجموعات الإثنية المدعومة من الحكومة التشادية، هي ذات المجموعات التي أشاد الكاتب ببطولتها في هجومها على مطار الفاشر، وإنما لا تناقض ينتاب الكاتب هنا طالما كان ذلك الهجوم ضد الشماليين ودولة المركز العنصرية. وهي ذات المجموعات التي قال عنها المؤلف مرة أخرى: " مما لا شك فيه أن بعض المجموعات العرقية في فترة الثلاثة عقود الأخيرة من القرن قد استقوت بنظامي الخرطوم وتشاد كما توهمت أن بإمكانها دحض التواجد العربي في دارفور". على كل حال لا حاجة لنا في نفي ما قاله الدكتور مادبو هنا عن التخويف من قيام ما سماها بدولة الفريق حميدتي، فقد رأينا بأم أعيننا وعشنا ولم يرو لنا أحد، ما تعنيه هذه الدولة في عنفوانها في حرب 15 أبريل 2023، وإن كنا قد شهدنا بعض مقدمات تلك الدولة قبل الحرب.
يكرر الكاتب نفيه قومية القوات المسلحة السودانية مرة أخرى بقوله: " هل كانت القوات المسلحة قومية عندما استعانت بالقوات الجوية المصرية لضرب الجزيرة أبا؟ أم هل كانت قومية عندما استعانت بضباط عراقيين وآخرين روس لدك حصون النوبة والفور والجنوبيين؟ ... بأي عقيدة قتالية نزل "أولاد البلد" وأجهزوا على الجرحى في تلك المعركة والذين فاقت أعدادهم أعداد الموتى؟ هل سجل "التاريخ السوداني" هذا الخزي؟". انتهى الاقتباس. تتسق رؤية الكاتب هنا في نفيه لقومية القوات المسلحة السودانية مع ما يطرحه من آراء ومع تصوره لقومية الدولة نفسها، بل ولشكل الدولة المتصور لديه. وعلى ذلك يبدو متسقا ما يمكن فهمه من بين السطور هنا من عدم اعتراضه بداهة على قيام دولة الفريق حميدتي طالما كان من خارج المنظومة الملعونة في تصوره، لا سيما وأن "الفريق" حميدتي ينتمي لذات مكونه المظلوم تاريخيا في دولة العنصريين الشماليين. لا يمنعه من تقبل ذلك كون قوات "الفريق" حميدتي هي قوات قبلية بالأساس، وعماد جنودها الأساس هو من قبائل عرب غرب السودان وتشاد وعرب السهل الافريقي على وجه العموم، يقودها شخص يوكل أمر نيابته وبقية المناصب المهمة في قواته لأخيه وأقربائه وبعد ذلك لعشيرته الأقربين. ولكن الكاتب في موضع آخر يقول بأن الجيش كان قوميا في وقت من الأوقات: "إن الجيش يوم أن كان قوميا، قام بدوره كاملا في حمل البندقية لتحقيق الكرامة الإنسانية ... كفى به شرفا أنه ساند ثورتين شعبيتين في ربع قرن من الزمان، وكفى بالمؤسسة فخرا أن الذين انقلبت عليهم لم يتهموا في ذمتهم ولا مروءتهم، فعبود بنى بيتا في المواقع الخلفية للامتداد والنميري لم يبن بيتا بل آثر العيش في بيت من ورثة زوجته". ربما وجب علينا لفت انتباه الكاتب إلى أن عبود والنميري هم كذلك من الشماليين على وجه العموم، أما النميري الذي تجاوز الكاتب عن كل سيئاته ومدحه بالنزاهة والعفة مشيرا إلى البيت الذي عاش فيه، فمن باب ذكر الشيء بالشيء يمكن لقارئ هذا المقال مشاهدة المقاطع المصورة لما فعلته قوات الدعم السريع التابعة لدولة الفريق حميدتي ببيت النميري في حي ود نوباوي العريق في أمدرمان في حربهم لجلب الديمقراطية، ناهيك بالطبع عن أن هؤلاء المقاتلون من أجل الديمقراطية يتم تجييشهم بخطابات الإدارة الأهلية وغناء الحكّامات. أما ما ذكره الكاتب مما سماه باستثمار جهاز الأمن في خوف المواطنين من الغرابة والعبيد، واللفظ للكاتب، فغريب! فإذا سلمنا بأن المواطنون المعنيون هنا هم الشماليون، فمن المعلوم أن جهاز الأمن في بدايات الإنقاذ اعتمد على العناصر من غرب السودان لأسباب عديدة، واستمر هذا الأمر، وإن بدرجة أقل، إلى حين سقوط الإنقاذ. ولكن سمعة جهاز الأمن الباطشة تكونت بالذات في الفترة الأولى. وثمة سؤال يبرز هنا، ما الذي يجعل هؤلاء المواطنين في حالة توجس ممن وصفهم بالعبيد والغرابة، فيسهل بالتالي تخويفهم منهم؟ الجواب عند المؤلف سيكون بالطبع هو نهب هؤلاء المواطنين لحقوق الآخرين وخوفهم من الانتقام. أما ما وقر في الذاكرة الجمعية للسودانيين من التاريخ الذي عمدت حكومات المركز العنصرية (بوصفه) إلى طمسه، فهو لا يخطر ببال المؤلف كسبب لتوجس النهريين عموما من القادم من جهة الغرب، فالدكتور نفسه يقول عن المجزرة التي عرفت بكتلة المتمة، أي مقتلة المتمة:" الجرائم التي ترتكب في حق أهلنا الأبرياء من جرم لم يرتكبوه في المتمة". وذلك على كل حال مبحث آخر لن نخوض فيه هنا فالمراجع متوفرة لمن شاء، وسعي النخب المركزية لتجاوزه توسلا لوحدة وطنية متوهمة مبذول كذلك هو الآخر، وحصاد ذلك فيما انتهى إليه السودان لا يخفى على أحد.
يتساءل الكاتب عن العقيدة التي يدين بها من سماهم تهكما بأولاد البلد ليجهزوا على الجرحى؟ لم أستطع معرفة الحدث الذي يشير إليه الكاتب على وجه التحديد، ولكن أولاد البلد على وجه العموم لا يفعلون ذلك، فإن كان ذلك قد حدث، فهي عقيدة الجيش السوداني وليست عقيدة أولاد البلد. إلا إذا كان من قام بذلك الفعل هم قادة الجيش السوداني الذين يقول عنهم الكاتب: " هيئة الأركان في الجيش السوداني تتكون من أبناء حلة واحدة وليس حتى إقليم واحد، حينها لا تسمى عنصرية إنما تصنف مجرد صدفة تاريخية". تتكرر الصدفة التاريخية كملهاة عند المؤلف لا كمأساة، فها هي مرة أخرى تساعد الجلابة على التفوق الاقتصادي في البلاد: "الدولة كمركز تتهافت عليه نخب الريف خاصة للحفاظ على مصالحها مدعية النضال من أجل البؤساء والمساكين ومستقوية بوقائع الظلم التاريخي والاجتماعي، لا سيما ان المركز هنا وظيفي وليس جغرافيا. وقد يكون وظيفيا جغرافيا لأن المصدرين للمنتجات كافة مثل المواشي، الكركدي، الصمغ، إلى آخره، يأتون من بقع جغرافية لا توجد فيها ريكة أو مربط للحمير. فكيف بربك حازوا على هذه الصفات التميزية؟ ربما الصدفة التاريخية". انتهى الاقتباس. هذا بالطبع قول مجاف للحقيقة في أوجه كثيرة، فما سماها الكاتب بالصدفة التاريخية لها من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية وسبل كسب العيش وغير ذلك مما يمكن مناقشته من منظور علم الاقتصاد وعلم الاجتماع الكثير مما لا يسع المجال هنا لاستعراضه، ومما يتطلب بعض التخصصية على الأقل. وذلك بالطبع لا يخفى على كاتب مثل الدكتور الوليد، إذ نجده يذكر في موضع من الكتاب: "إن الفقر الذي يعانيه أهلنا في الريف وفي الغرب خاصة نشط من خلال عملية تاريخية من التطور الرأسمالي الذي ازدهر تحت القفاز المخملي للغش والقبضة الحديدية لفائض القيمة. وإذا اقتصرت السيطرة الدينية لدائرة المهدي على الجزيرة أبا ونواحيها فإن سيطرة الإنقاذ شملت القطر كله"، وفي ذلك يرى أن " الأولى خلقت طبقة سلطوية وشيدت هرمية عرقية هيكلية أمام تقدم كافة الفئات وخلقت فوضى ثقافية ترسخت بسبب التخلف التعليمي وعدم المساواة الأكاديمية". ولكن الإنقاذ، التي عانى منها الشعب السوداني ما عانى، هي في نظر الكاتب في النهاية ليست غير مظهر آخر من مظاهر تمكن الشماليين من حكم السودان، هؤلاء الذين لن ينصلح حال السودان إلا باقتلاعهم، بل استئصالهم كما يقول، حيث يوضح ذلك بالقول: " نحن في حوجة لبنية تحتية معنوية ومادية لن تتحقق إلا باستئصال العصابة العنصرية ومن قبلها الكمسنجية الذين نضب عرق الرجال في وجوههم وأمسوا يشبهون مومس سبعينية تشتهي الجماع من عبدها وهي على فراش الموت" (!).
للكاتب (وهو المرشح لرئاسة الوزراء في البلاد لأكثر من مرة)، له رؤية واضحة في كيفية خروج السودان الذي في تصوره من حال التناحر والتخلف الذي يرزح فيه. إذ نجده يقول ويصرح ويكرر بوضوح لا لبس فيه أنه " لا حل للسودان إلا باقتلاع دولة المركز، وهذا الاقتلاع مؤلم لفئات عديدة". وهذا الاقتلاع يتأتى بالزحف على هذا المركز العنصري البغيض واقتلاعه. إذن لابد من التخلص من هذه النخب أيا كان الثمن، وفي لك يقول بوضوح لا لبس فيه: "إن التخلص من النخب السودانية المتوهمة أيلولة الحق الإلهي إلى طوائفها وأعراقها وجهاتها هو بمثابة التحرر من العنصريين الفرنسيين". ولا تعليق لديَ هنا. ويفسر الدكتور ما يعنيه بالزحف المفضي إلى الاستئصال بقوله: " ليس المقصود من هذا الزحف استئصال مجموعة إثنية بعينها (وإن كان أفرادا منها قد استأثروا بالسلطة، الفعلية وليست المظهرية) كما يروج لذلك بعض المبطلين، وليس المقصود منه التخلص من قبيلة معينة (وإن كانت بعض القبائل النيلية قد أعانتها "بصارتها" في التغلغل في جهاز الدولة فوصلت بعد تدرج دام مائة عام إلى قمة الهرم، وليس المقصود حتما من هذا الزحف الاستحواذ على مقتنيات الآخرين كما يتصور بعض الهلعين". ثم أنه يواصل فيوضح أكثر: "إنما المقصود تفكيك دولة المركز (مفاهيميا وليس فقط عسكريا) بطريقة تسهل إنصاف السودانيين من بعضهم البعض. مخطئ من يقدح في أريحية الشوايقة أو يتشكك في وطنيتهم، ولكنني لا أجد مبررا لوجود عشرة منهم في مناصب سيادية بالمركز خاصة أنهم لم يأتوا بصفة حزبية (أو أيديولوجية) إنما تآمرية ". ثم في تناقض غريب يقول:" لقد توصل الكثيرون بعد تمحيص إلى أن النظام ليس له عصبية مذهبية أو إثنية إنما ميكافيلية موروثة من "الشيخ الأكبر" تقتضي تحقق المصلحة من خلال التلاعب الانتقائي بكافة مكونات الهوية". لا يشرح لنا الكاتب كيف أعانت ما سماها بالبصارة، بعض القبائل النيلية في التغلغل في جهاز الدولة، ولكن السؤال هنا عما ذكره بعد ذلك بالتدرج الذي دام مئة عام، فهل كان لذلك التدرج ما يسنده من التعليم مثلا أم أنه كان محض خبث ودهاء و"بصارة"؟
إن رؤية الكاتب للحل، والتي لخصها في اقتلاع دولة المركز والقضاء عليها، هي واحدة من الشعارات المتعددة التي رفعتها قوات الدعم السريع في حرب 15 أبريل، فالقوات التي كان عمادها الأساسي هم قبائل عرب دارفور المنتمي لها الكاتب، توسلت عددا من الشعارات بتطاول أمد الحرب، فمن الحرب من أجل الديمقراطية (وهم القادمون من مجتمعات تحكمها الإدارات الأهلية)، إلى الحرب من أجل اقتلاع الكيزان أو الإسلاميين (الذين اتضح بتطاول أمد الحرب أنهم محض الشماليين)، إلى شعارات القضاء على دولة 56، وغير ذلك من الشعارات التي مورست تحت رايتها حرب التهجير والتقتيل على العرق في الخرطوم وفي الجنينة وفي الجزيرة بوسط السودان وغيرها من المناطق التي وصلتها الحرب، في كل ذلك كانت رؤية المقاتلين تستقي شعاراتها من شعارات متعلمي مجتمعاتها. لقد اندلعت الحرب في الخرطوم هذه المرة، تماما كما تنبأ أو طلب الدكتور الوليد في واحدة من مقالاته في الكتاب، إذ نجده يقول: " عليه فلابد من اليقظة والاستعداد لمواجهة هذه الفصائل الرجعية، هذه المرة في الخرطوم. إن المعركة القادمة معركة مكلفة في الأرواح والممتلكات لكنها ستحدد مصير الوطن الذي ظن أغرار لا يتجاوز نفوذهم حدود الخرطوم القديمة أنهم سيسيرونه حسب هواهم". ونجده يقول في موضع آخر:" إذا كان السودانيون يظنون أن الليالي السود قد أوشكت على الانقضاء، فإني أبشرهم بأنها لم تأت بعد". وقد صدق في ذلك بالطبع، ومما صدق فيه أيضا ما تمناه، أو ما قال إنه والعقلاء سيفعلونه يومها بقوله: " يوم أن تتقاطع الدوشكات في شارعي الستين وعبيد ختم حينها لن تجدي الاستعانة بالعقلاء وسنتركهم للسفهاء يحسمون أمرهم معهم- وهذا ما يستحقونه حقا". لقد تقاطعت الدوشكات في شوارع الخرطوم كلها ومن ضمنها شارعي الستين وعبيد ختم، ونلنا بحسب الدكتور ما يرى أننا نستحقه فعلا. بوضوح أكثر يرى الكاتب معضدا لذات المنحى إن الحل يكمن في استهداف النظام في الخرطوم، بل واستهداف قادته أو شخوص معينة فيه، إذ يقول في واحد من المقالات إن المعارضة عاجزة عن "إحداث اختراق حقيقي يشل مقدرة النظام باستهدافه في الخرطوم وليس في دارفور" ثم أنه يحدد:" وبتكلفة جسدية أقل (وأنت ما تفسر وأنا ما بقصر" على رأي المثل البلدي)، وما بين الأقواس من عند الكاتب وليس من عندي، حيث "إنهم- أي قادة النظام- موجودون في مناحي العاصمة يخططون". إن الحل عنده يكمن كما كتب في: “إما حرب بلا هوادة لاقتلاع دولة المركز والتي حلت صواميلها الأربع، وإما استسلام يعطي المواطن فرصة للاستجمام".
لقد عشنا بأنفسنا ورأينا بأعيننا ما فعلته قوات الدعم السريع في سعيها لتحطيم دولة المركز، ولكنهم يبدو أنهم لم يقرأوا مقالات الدكتور مادبو كاملة، فقد شمل ذلك الاقتلاع مقتنياتنا وقبل ذلك حيواتنا. وأود هنا الوقوف عند نقطة معينة، فقد ذكر الكاتب بالتحديد في مقتبسنا منه أعلاه قبيلة الشوايقة، وكان قد ذكرهم في موضع آخر أيضا. من الغريب أن قوات الدعم السريع في خطاباتها المتقلبة استخدمت ذات الإشارة إلى الشوايقة بالذات، فهم يصفون سلاح الطيران في الجيش السوداني بطيران الشوايقة، ويكررون تقصدهم للشوايقة في غير ما خطاب. والمؤلف نفسه في واحدة من مراسلاته مع الدكتور محمد جلال هاشم، والتي نشرها الأخير تحت عنوان" محاورات الأسافير مع الوليد مادبو"، وردا على سؤال الدكتور محمد جلال عن إن كانت جرائم مليشيات الدعم السريع هي ضمن حرب قوى الهامش التي يعنيها؟ رد الدكتور مادبو بوضوح محمود: "هذا يأتي كرد فعل للعنصرية التي تمارسها النخب المركزية، خاصة الشوايقة (كآلية سياسية وليس مجموعة عرقية)، الذين اعتادوا على الخديعة والمكر والخبث في محاولتهم لتسود المشهد السياسي والعسكري. لن يتعافى السودان قبل ان يتم استئصالهم تماماً." انتهى الاقتباس، وللرد والمحاورات بقية يمكن أن يطلع عليها القارئ فهي مبذولة في الأسافير.
وفيما خص التنمية في دارفور يرى الكاتب "إن خلق تكامل اقتصادي واجتماعي مع دول الجوار (افريقيا الوسطى من ناحية الجنوب الغربي، تشاد من الناحية الغربي، ليبيا من الناحية الشمالية، جنوب السودان من ناحية الجنوب)، يتطلب وجود كيان سياسي وإداري واحد موحد يتولى أمر التنسيق ويشرع في ترتيب البروتوكولات التجارية وتحقيق النظم، حبذا باستقلالية عن بنك السودان الذي أصبح حكرا لأقاليم بعينها ونخب مركزية لا يتجاوز عددها الخمسين"، وفي ذلك يقول بالنص إن دارفور "كان من المفترض أن تكون كاليفورنيا افريقيا". لا يخفى بالطبع أن الدول المذكورة هي دول تجاور دارفور لا السودان بأكمله، وعموما فمما يعزز من فرضيته هذه أن دارفور كانت وإلى زمن قريب نسبيا بحساب أعمار الدول، دولة مستقلة إلى حين ضمها المستعمر للسودان. كما لا يخفى بالطبع أن الدولة المركزية في السودان كان اتجاهها على الدوام للجهة الأخرى نحو مصر والخليج والفضاء الجغرافي المشرقي عموما، ويمكن استثناء ليبيا من هذه الدول، وبالطبع جنوب السودان لأسباب موضوعية. وفي ذات الإطار نجده، أي المؤلف، ينادي "بتعددية تجعل من انجمينا محطة انطلاق إلى الحزام السودانوي (افريقيا الوسطى، كاميرون، نيجر، نيجيريا كافة، إلى آخره". في الحقيقة لا يأبه السودانيون الشماليون أو في السودان القديم كثيرا لعلاقاتهم بتشاد وبغرب القارة على وجه العموم لأسباب ذكرنا بعضها عرضا بتبسيط مخل أعلاه، ولكن بالمقابل فقد ظل وجدان الدارفوريين أكثر ارتباطا بتشاد وغرب القارة عموما بما لا يقارن ببقية السودانيين. والكاتب هنا حين يتحدث عن تشاد فهو في الغالب يهتم بمكونها العربي كامتداد لمجتمعاته في دارفور وفي دول أخرى في السهل الافريقي، فعن تشاد تحديدا يقول الدكتور الوليد: "ظل عبد الله حمدنا الله يقول بأن تشاد أكثر عروبة من السودان. لكن أحدا لم يأخذه على محمل الجد لأن العروبة ارتسمت حدودها عند النخب السودانية بالمركز". وهذا صحيح، أي عدم أخذ ذلك على محمل الجد، ولا أعنى هنا مسألة عروبة تشاد، فعروبتها من عدمه بالنسبة للسودانيين شأن يخص التشاديين الذين ليسوا محل اهتمام السودانيين عموما، ولا ينقص منهم ذلك شيئا بالطبع. أما تفسير الدكتور حمدنا الله الذي يوافقه فيه الدكتور الوليد لتلك اللامبالاة بأن العروبة ارتسمت حدودها عند النخب السودانية بالمركز، فغير صحيح بالمرة، فسودانيو المركز هؤلاء ينظرون للموريتانيين البعيدين عنهم وعن مركزهم مثلا، كعرب أصلاء. ولكن بعض ما أثار تعجبي وحيرتي هو أنه لما كان الكاتب مقتنعا بعروبة تشاد أكثر من السودان، فمن الغريب اجتهاده في نفي العروبة عن الشماليين! لقد اجتهد الكاتب في نفي العروبة عن الشماليين على وجه العموم، فهو يصف الجعليين بالإثنية التي "تدحرجت من الهضبة الأثيوبية"، وهذا الأمر لا يخلو من الغرابة، فالناس مسئولون عن أنسابهم، ولا شأن لي بما يدعيه الآخر من نسبه أو أصله طالما لم يتعد هذا الآخر على حقوقي مستغلا قوة مادية ناتجة عن هذا الادعاء. ولكننا في الحالة الماثلة أمامنا وبافتراض أن الشماليين استغلوا فرضية الاستعلاء العرقي العربي المدعى، صحيحا كان ذلك أم لم يكن، فلم تكن هناك قوة مادية نتجت عن هذا الاستغلال المتوهم. ولكن ما يثير الدهشة أكثر هو اهتمام الكاتب بهذا الأمر، أي نفيه عروبة الشماليين، ومحاولة إثباته علميا بقوله: " وقد أثبت الحامض النووي أن معظم قبائل الشمال تنتمي إلى الهوسا أو الأحباش، باستثناء النوبيين الذين لهم أصول تربطهم بالنوبة والفور والبرتي". لم يشر الكاتب إلى أي مصدر علمي استقى منه هذه المعلومات الخطيرة والقطعية. بل نجده يذكر في موضع آخر أن: " الاغريق قد أثبتوا فيما ورثوا عن الفراعنة أن الجينات نوعان: نوع يسمى ال Mores وهو المسئول عن تحمل الطباع، وآخر ال Meres وهو الموكل إليه نشر الملامح، أورد هذا الأمر أستاذ العلوم السياسية Leslie في كتابه Thinking politics ". انتهى الاقتباس. وعلى الرغم من تخصصي في هذا المجال عموما واهتمامي به، إلا أنه صعب علي تقبل ما أورده الكاتب كحقائق مطلقة لا تقبل الجدال، بل استدل على واحدة منها بمرجع أشار إليه. اتصلت لغرض ذلك بالصديق الدكتور هشام يوسف حسن الخبير في هذا المجال، وهشام بالطبع، رفقة البروفيسور منتصر الطيب، هما أول من نشر بحثا عن السلالات البشرية السودانية باستخدام علم الأحياء الجزيئية والجينات، وتزاملنا وقتها في معهد الأمراض المتوطنة، ذكرت ذلك للتدليل على صلتي بما ذكره الكاتب، ولكني لم أجد الجرأة لنفيه هكذا كيفما اتفق. أفادني الدكتور هشام أن ما ذكره المؤلف من انتماء معظم قبائل الشمال إلى الهوسا أو الأحباش هو محض كلام لا معنى له ولا مرجعية علمية، ولا يوجد أي بحث علمي توصل إلى ذلك. أما فيما خص ما ذكره المؤلف من مسألة ما أثبته الاغريق فيما ورثوه عن الفراعنة، فأفادني الدكتور هشام أن الكتاب المذكور منشور في العام 1997، ومن المعلوم بالطبع إن استخدام تقنيات الأحياء الجزيئية في علم الجينات لم يكن قد بدأ في ذلك الوقت، بل إن جل التطورات في هذا المجال حدثت بعد ذلك بسنوات، فبعد نجاح العلماء في استنساخ النعجة دولي في العام 1996، تسارعت الفتوحات في هذا المجال حتى وصلت إلى ما نعرفه الآن. أما السيرة أو الإشارة الوحيدة للفراعنة في الكتاب، حيث سموا بال Egyptian، بحسب الدكتور هشام، فقد كانت في ذكرهم عرضا في إطار المقارنة بطريقة مختصرة بين طقوس العبادة بين الفراعنة واليونانيين. أختم هذه الجزئية بإبداء تعجبي الذي شاركني فيه الدكتور هشام من فرضية أن يكون هناك جين واحد (Mores بحسب ما أورده الدكتور مادبو) هو المسئول عن تحمل الطباع وجين واحد آخر (Meres بحسب ما أورده الدكتور مادبو) هو المسئول عن نشر الملامح! ناهيك عن أن مصطلح الجينات هو ذاته مصطلح حديث نسبيا.
وقريبا من ذلك يعتقد الكاتب إن " دارفور كانت لها نظم وأعراف وبروتوكولات استقتها من حضارات هي الأعرق في افريقيا"، ورغم أنه لا يشير إلى هذه الحضارات الأعرق في افريقيا التي يشير قوله إلى أنها كانت هناك في دارفور أو على الأقل ذات اتصال معها، فهو يقول في موضع آخر: " ونحن نريد أن نستلهم قيمنا الإنسانية من حضارتنا النوبية التي هي أم الحضارات الافريقية". لم أستطع على وجه التحديد التحقق من المعنى في هذه الكلمات، فهل قصد الكاتب انتماءه للحضارة النوبية في شمال السودان؟ أم انه قصد التأثر بها في دارفور. فمن المعلوم بالضرورة أن الحضارات السودانية في النوبة في عصورها المشرقة لم تفكر في الزحف غربا، ففي أوج توسعها اتجهت شمالا حتى وصلت حدودها إلى فلسطين الحالية في بعض عهودها، ولكنه لا يذكر لها اتجاه يذكر نحو غرب القارة، ذلك رغم بعض الأقوال الضعيفة التي تحاول الربط بين حضارات النوبة عموما ومناطق أخرى في القارة.
لا يكتفي الكاتب بتأكيد دور النخب المركزية في ما انتهى إليه السودان بحسب رأيه، ولكنه كذلك يصر ويعتقد جازما بإصرار هذه النخب على استتباع دارفور، أو قل باستوطانها واستعمارها، ولفظ استعمار هذا أورده الكاتب وليس من عندي، فهو يقول بوضوح: "حينها لن يجد الزرقة والعرب غير إقليمهم الذي ضنوا به من قبل على المستعمر الخارجي (الأبيض) دون أن يدركوا خطورة المستعمر الداخلي (الأسود)"، وذلك ليس ظنا منه أو قراءة مبتسرة لما يراه من واقع الحال، إذ هو يكرر قناعته هذه في موضع آخر من الكتاب بالقول: "مع يقيني أن دارفور مستعمرة"، ثم هو يتبع ذلك بالقول: " وأن قيادات الاستعمار من شراذم أمنية وسياسية يجب أن تكون هدفا مشروعا للمقاومة وقد جعلوا الأبرياء هدفا للإبادة". وتتكرر لفظة الاستعمار مرات أخر في الكتاب في مثل قوله: " تقنين سيادة المستعمرين" وكذلك: " القوة المستعمرة دارفور حاليا"، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. في الحقيقة لم يكن الدكتور مادبو هو الأول من مثقفي دارفور ممن وصف وجود دارفور ضمن الدولة السودانية بالاستعمار، فقد سبقه بعض متعلمي دارفور في ذلك.
يعضد الدكتور الوليد فكرته عن حرص الشماليين على استتباع دارفور بقوله إن: " النخب المركزية لديها فشل سياسي وأخلاقي تبدى في محاولتها الإجهاز على شعب بعينه وقد استنفدت كافة الوسائل لتطويعه وتجيير إرادته". في الحقيقة إن المرء ليعجب من هذه اليقينية العالية لدى الدكتور الوليد من حرص الشماليين بل وإصرارهم لدرجة المؤامرة على استعمار دارفور واستتباعها! فالحقيقة التي لا مراء فيها أن دارفور لم تكن يوما ضمن اهتمام سكان السودان النهريين أو الشماليين على وجه العموم، ولولا أن الاستعمار هو من ضمها إلى السودان القديم لظلت سلطنة مستقلة ولربما كان ذلك أفضل لها وللشمال، ولكن ما حدث قد حدث. وعودا إلى التاريخ، فقد كان اتجاه السودان الشمالي على الدوام نحو شمال وشرق القارة، بدء من حضارات السودان التليدة والقديمة، واستمر هذا الاتجاه حتى في العصور الحديثة، وحرب الزبير باشا لم تكن لأطماع توسعية، بل هي لأسباب اقتصادية. ولكن ما يراه الدكتور الوليد يتجه عكس ذلك، فمع اقراره بأن المستعمر هو من ضم دارفور إلى السودان، نجده يقول عن الشماليين في علاقتهم بدارفور: " العزبة التي ظنوا أن المستعمر أورثهم إياها، فما فتئوا يمارسون معها السفاح حتى استذاقوا طعمها فوجدوها ألف مرة أحلى وأبرك"(!) فهل الشماليون هم من طلبوا من المستعمر ضم دارفور؟ لا تغيب هذه المعلومات البديهية عن الكاتب بالطبع، ورغم أننا نجده يقول في موضع من الكتاب، نقلا عن مصدر ذكره، إن السودان: "إنما تشكل في الواقع نتيجة دمج استعماري لدولتين افريقيتين مستقلتين هما دولة الفونج ودولة دارفور. هذه الحقيقية التاريخية لا يجب تناسيها أو التغافل عنها، بل وضعها في الاعتبار. وعلينا أن نحرص على تلك الحقيقة التاريخية فهي ظلت وستظل راسخة في وعي ووجدان إنسان دارفور، وإن كانت مهملة وساقطة من الوعي الجمعي لإنسان الوسط والشمال النيلي الذي أصبح كأنما لا مرجعية تاريخية ووطنية له يعتد بها غير سنار ودولة الفونج (الأموية)". انتهى الاقتباس. أود هنا مغالطة الدكتور مادبو في مسألة أن حقيقة أن السودان الحالي هو نتاج ضم قسري لدولتين هي معلومة مهملة وساقطة من الوعي الجمعي لإنسان الوسط والشمال. ذلك غير صحيح بالمرة، فإنسان الوسط والشمال ظل على الدوام واعيا لحقيقة الاختلاف الكبير بين ثقافته وثقافة دارفور، وظل منتبها على الدوام لحقيقة التشكيل القسري لخريطة السودان. ربما بعض أسباب ذلك الظن الخاطئ عند الدكتور وعدد مقدر من مثقفي دارفور وجل مواطنيها واعتقادهم بأن الشماليين يتناسون تلك الحقيقة، ربما سبب ذك ما يتبدى من حرص الشماليين ممثلين في نخبهم والمتعلمين منهم، في الحفاظ على وحدة السودان المتوهمة، وفي التغني بشعارات مثل الوحدة في التنوع، وغير ذلك مما يثبت زيفه عند أول المنعطفات. ولا أدري الآن كيف سيكون رأي الدكتور الوليد ومن يشاركونه هذا الرأي فيما كشفته حرب 15 أبريل الأخيرة من زهد الشماليين في استتباع دارفور بل وفي استبقائها حتى، بالطبع سيظل رأيهم هو ذاته إن استمعوا للسياسيين من بعض نخب الشمال الذين لفظتهم مجتمعاتهم المحلية لمواقفهم في هذه الحرب، وذلك ليس بدعا، فالتاريخ يزخر بأمثلة من قايضوا مصالح مجتمعاتهم لصالح المشاريع الخارجية.
ورغم كل هذا التجريف الذي مارسته النخب النيلية المتنفذة بحسب وصفه، فالدكتور يقول في موضع من الكتاب إن " الستين عاما التي انقضت – رغم فداحتها – لم تنل من الوجدان السوداني، والذي يحمد للفنانين والمبدعين أنهم جنبوه مزالق الهواة، أو أنه كان أعظم من أن يصل إليه الطغاة"، وذلك في الحقيقة قول غريب ويتناقض مع الفكرة العامة للكتاب ولكاتبه، ولكن إذا سلمنا بذلك جدلا فثمة سؤال يبرز هنا عمن هم هؤلاء الفنانين والمبدعين؟ هل هم فنانون من دارفور ومن المكونات التي يدافع عنها الكاتب ويصفها بالمظلومة والمقهورة؟ بالطبع لا، فقد كان هؤلاء الفنانون والمبدعون هم أبناء ذات الدولة المركزية وصنيعة ثقافتها، شعراء كانوا أم مغنين أو حتى تشكيليين.
يستنكر الكاتب على النخب الدارفورية ونخب الهامش كافة أن "فات عليها التفكير في شأن دارفور الكبرى وإمكانية، بل حتمية تحريرها من الاستيطان". فدارفور عنده وكما يذكر: " مستهدفة في ذاتها وإن المفاصلة كائنة لا محالة بين من يريدون لها اندثارا ومن يتمنون لها ازدهارا". وهذه الدعوة إلى التحرير تتسق بالضرورة مع الفكرة المركزية للكتاب القائلة بأن دارفور مستوطنة. وعطفا على ذلك فهو يرى "إن التحدي يكمن في انتشال دارفور وكردفان من واقع الانهزام النفسي والاجتماعي (...)، إما أن نتحد فنواجه ونهزم الطاغوت أو نموت موتا عبقريا نبيلا، أما أن نفنى دون مقاومة فذاك هو العار، بل هو الشنار والتنكر لتاريخ أسلافنا المجيد". ليس أوضح من هذه الفكرة في التحرير إلا ما يعتقده ويؤمن به الكاتب من حرص الشماليين على استتباع دارفور، فهو يعتقد جازما حسب قوله: "إن جل ما تسعى إليه النخب المركزية هو إضعاف موقف دارفور التفاوضي إذا ما قدر للسودانيين يوما أن يجلسوا في مؤتمر للحوار". ورغم كل ما قاله عن حرص النخب على التمسك بدارفور، فنجده يقول في موضع آخر في تناقض جديد: إن النظام" يريد أن يدمر دارفور ويدفعها دفعا نحو الانفصال أو تدجينها بشراء مثقفيها وممثليها البرلمانيين". ونجد الكاتب يناقض نفسه مرة أخرى في هذه الفكرة بتصريحه بأن انفصال دارفور، أو قل عودتها سلطنة مستقلة كما كانت، لن يجد ممانعة من الشماليين ونخبهم، حيث أورد بالنص ما يلي: "ولتطالب دارفور حينها بالانفصال فلن تجد أي ممانعة، أما الانضمام إلى الجنوب فدونه ألف حائل لأن الإدارة الأمريكية إنما تريد حدودا تكون بمثابة العازل الثقافي بين الغابة والصحراء". بالطبع يستبطن هذا التصور معرفة نوايا الإدارات الأمريكية، كما يستبطن، وهو الأكثر غرابة، تصور ترحيب الجنوبيين بالاتحاد مع دارفور، بالنظر على الأقل لتاريخ الصراع بين القبائل في المنطقتين غير أسباب أخرى.
يملك الكاتب تصورات واضحة لحل أزمة دارفور كما أسلفنا، أولها بالطبع حسب ما ذكر هو تخليصها من الاستعمار والاستيطان. ومن تلك الحلول أيضا ما ذكره بالقول بأنه: " لا يمكن الشروع في حل هذه الأزمة إلا من خلال الاستشعار الخالص لوحدة المصير الوجودي لشعب دارفور والتعويل على الخصائص الوجدانية لمقومات الذات الدارفورية الثرية والغنية". ليس من حق هذه الكتابة والعرض والنقاش للكتاب بالطبع مغالطة الكاتب في هذه الفكرة، بل في الحقيقة لا يملك كائنا من كان هذا الحق في غمط الناس أشياءهم وما يظنونه عن أنفسهم، بل إنني أعتقد جازما أن لدارفور من الخصائص ما يمكنها من ذلك، ولكن الخطأ الكبير في ذلك كان في الضم القسري لدولتي السودان كما سماهما الكاتب (دولة الفونج وسلطنة دارفور) في كيان واحد، قاطعا بذلك التطور الطبيعي لكلا الدولتين، وفي حالة دارفور بالذات فقد قطع ذلك الضم اتجاهها وتداخلها الطبيعي مع فضائها الأقرب في غرب القارة، وقريبا من ذلك ما سماه الدكتور مادبو بانتزاع شعب دارفور من الفضاء الصوفي المغاربي وإلحاقه بالفضاء السلفي السني، ذلك صحيح، ونعني الانقطاع، ولكن الدكتور مادبو رمى اللوم في ذلك الانقطاع على النخب المركزية لا على الانجليز. ليس مطلوبا من دارفور أن ترضى بذلك الانقطاع تحت أي دعاو كانت، كما ليس من المنصف بالنسبة للشمال كذلك أن يتحمل وزر ما لم يقم به ابتداء، ونعني هنا الاستتباع أو قل الاستعمار والاستيطان، ولعل في ذلك بعض إجابة على تساؤل الدكتور مادبو الذي سماه بالملح: " ليس هناك من هو أكفأ منا أهل الغرب حتى يعطينا دروسا في الوطنية، بل السؤال الملح الذي يلزم أن يرد عليه مثقف الشمال الإسلامي النيل وسطي: هل تندفع دارفور معصوبة نحو القومية إلى درجة تتعامى فيها عن أدنى حقوقها الإنسانية؟" ذلك بالطبع مع اختلافنا في تفسير القومية.
يقول الكاتب إن " دارفور ستتحمل دورها كما تحملته من قبل، في تحرير السودان من مخلفات الانجليز، الأتراك والمصريين". يستبع هذا القول بالطبع اعتقادا من الكاتب بانتماء دارفور إلى السودان القديم، في تناقض أو تضاد مع قوله بأن السودان الحديث هو نتاج ضم دولتين، الفونج ودارفور كما ذكر، كما لا يخلو هذا القول كذلك من الوصاية والمنة، فمن قال بأن السودان كان في حاجة لدارفور قبلا ليحتاجها الآن، ولأجل ماذا؟ لأجل تحريره ممن يصفهم الكاتب بمخلفات الانجليز والأتراك والمصريين! تتبدى فكرة الوصاية لدى الكاتب مرة أخرى في عدة مواضع، فنجده يمارس الوصاية على المركز، فهو يريد تفكيكه لإعادة تركيبه، وليس لنفيه أو تفنيده كما يقول، وذلك إنما يتم عبر تضامن قوى الريف الزاحفة نحو المركز. ذلك بالطبع إذا تجاوزنا ترديد الكاتب للاعتقاد الشعبوي المتبنى لدى عوام مجتمعاته، وربما غير عوامهم، الذين ما فتئوا يرددونه في حرب 15 أبريل بل ومن قبلها، عن علاقة السودانيين من غيرهم بالأتراك والمصريين والإنجليز.
ينطلق الدكتور من فرضية مركزية لا تقبل الجدل عنده، مفادها أن الشماليين الجلابة هم السبب فيما انتهت إليه دارفور من الحروب وعلاقات القبائل هناك، والشماليون هؤلاء هم السبب في التخلف التنموي في دارفور وما حاق بها. ويورد بعض الحقائق لتبيان ذلك، فنجده يقول في شأن سد مروي: " لقد عوضت الدولة المناصير ببنايات وشفخانات ومدارس ومحطات توليد وفوق ذلك معونة مادية تبلغ الألفين جنيه ولا يزال بعضهم يتمنع وذلك حق يكفله الدستور ولوائح حقوق الانسان". وفي الحقيقة فهذا قول يجافي الحقيقة، فالدولة المركزية سامت انسان الشمال عسفها وتجاهلها الذي مارسته في مختلف بقاع السودان، وفي شأن المناصير فليس ببعيد عن الذاكرة الجمعية للسودانيين، سمهم الشماليين هنا، غرق المركب التي كانت تحمل التلاميذ والتلميذات لمدرستهم عبر النيل. وفي ذلك الحادث وحده فقدت إحدى الأمهات بناتها الخمس. ولا تزال وفيات الناس هناك بلدغات العقارب من أسباب الموت العادية. ولكن الدكتور الذي لا يرى ذلك، يرى عسف الدولة ذاتها بكامل الوضوح حين يتعلق الأمر بدارفور، فنجده يقول: "حتى هذه اللحظة لم تبد الدولة تأسفا على فقدان مواطنين لأرواحهم من جراء الاشتباكات (غير اللازمة) التي حدثت في معسكر كلمة (25 أغسطس 2008) بل على النقيض فإنها أي الدولة قد صرحت بأنه من حقها أن تفرض "هيبتها" على أراضيها كافة". وفي الحقيقة يمكنني القول هنا وكتعقيب على هذه الجزئية، إن الدولة السودانية في نسختها العسكرية هي سليلة الدولة االكولونيالية، ومن المؤسف أنه في إطار المقارنة قد يجد الباحث أن الدولة الوطنية سامت مواطنيها عسفا بأكثر مما فعلت دولة الاستعمار، وذلك بالطبع من دلالات ومؤشرات فشل الدولة. على كل حال فإن هذه الدولة قتلت كذلك الناس الذين خرجوا ضدها في كجبار وفي بورتسودان وقبل ذلك في الخرطوم وغيرها من مدن الشمال، ولم تعتذر، فكيف ينتظر الدكتور منها تأسفا على فقدان مواطني المعسكر لأرواحهم وهي التي لم تتأسف على قتلها لمواطنيها منذ بزوغ فجر الدولة الوطنية!
تتمثل بعض أسباب النزاعات في دارفور عند المؤلف فيما سماها " البنيوية (التركيبة السياسية الحزبية التي تؤسس للتهميش الاجتماعي والاقتصادي) والعضوية (محاولات الاصطفاء العرقي والتمايز القبلي) التي تضع مقومات الذات الثقافية في اصطكاك دائم". ولا يناقش الكاتب هنا البنيوية الاقتصادية في دارفور وسياسات تملك الأرض وتوزيعها وحقوق القبائل وسياسات الحواكير، كما لا يناقش التعقيد القبلي والتراتبية القبلية في دارفور كذلك، وهاتان الأخيرتان بالطبع ليس للجلابة ودولة النخب دور في إيجادهما.
وإذا كان الكاتب يعتقد بأن الشماليون والجلابة هم سبب الحروب في دارفور، فكيف يمكن تفسير ما ذكره عما سماها بحرب البسوس في السودان؟ إذ يشير إلى ما يسمى لديهم هناك ب "ناقة فني" والتي يصفها بأنها حرب البسوس في السودان (!) والتي دارت رحاها قبل أكثر من أربعمائة عام بين الرزيقات وخزام. بالطبع لم يكن هناك سودان في ذلك الوقت، فكيف يصفها الكاتب بحرب البسوس في السودان؟ ثم أنه وبالأحرى لم يكن هناك الجلابة والشماليين السفلة الأجلاف والعنصريين، ورغم ذلك اندلعت الحرب! على كل حال عاد الجلابة مرة أخرى للظهور، حيث يقول المؤلف إن أول مرة يقتتل فيها أبناء العمومة من الرزيقات والمعاليا كانت في العام 1967، ولكن ذلك حدث "بعد أن تآمرت عليهم النخب الطائفية التي كانوا يدينون لها بالولاء". ومرة أخرى عادت النخب المركزية وأشعلت الحرب بين المسيرية الحمر والمسيرية الزرق وتلتها حرب العجايرة والفلايتة، " عندما أحست بتذمر قبائل المسيرية وتأثرهم بالأضرار الايكولوجية". وأكتفي هنا بإيراد الاقتباسات من كلام الكاتب دون التعليق عليها. وفي أطار قريب من ذلك يشير الكاتب إلى كشف البلاغات الأسبوعي الذي استطاع رصده في الفترة من 18-10-2007 في ولاية جنوب دارفور، ويذكر أمثلة أوردها، نذكر منها هنا: " استهداف جندي لقائده رتبة مقدم ورميه للرصاص داخل حامية نيالا، هجوم مسلح من قبل الهبانية على مجموعة من المصلين السلامات وبتر رأس إمامهم وتسليمه للناظر صلاح علي الغالي، قتل 26 فيهم ستة مشايخ يحفظون القرآن بثلاث روايات، التعرض شبه اليومي من قبل مسلحين يمتطون الإبل للسيدات اللواتي يحتطبن ليلا". وهذه الأمثلة القليلة والمجتزأة عما كان يحدث بين المجتمعات هناك، والتي من الواضح أن الشماليين ليست لهم يد فيها، لا يعدم المؤلف رابطا لها مع دولة العصابة النيلية، إذ يتبع ما ذكره بالقول: "وإذ أن الدولة لا تأبه بتعقبهم فقد باتوا يرتكزون على الطرق المؤدية إلى المدينة ..." ومع أنه رمى باللوم على الدولة في ذلك وأنها لا تأبه، مبرئا المجتمعات المرتكبة لهذه الأفعال، فهو كذلك لن يعدم سببا للوم الجلابة، حيث كتب: " أعود وأقول إن مثقف الشمال الإسلامي الايدلوجي لم يكن ليدع السلطة (لغرباوي) إلا بعد أن تأكد من انتزاع (الإبرة) وبعد أن أعطاها لشخص ضمن ولاءه الأيدلوجي". من الواضح من هذه التبريرات أن للكاتب تفسيره الخاص للحديث الشريف " انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فبينما التفسير الصحيح لنصرته مظلوما يكون بتوجيهه للصحيح، يصر الكاتب على خلق التبريرات وصناعة الأسباب ضد الجلابة، عطفا على الحديث الشريف الذي أورده الكاتب مشيرا إليه بالمقولة الجاهلية!
لا تكفي هذه الكتابة رغم اجتهادها في الإحاطة بالكتاب وأفكار الكاتب الواردة فيه، فالكتاب جدير بالقراءة وتدبر الأفكار الواردة فيه. والدكتور الوليد مادبو من المثقفين ذوي الوزن المعتبر في قومه وفي السودان عموما، ومما يحمد له طرح أفكاره بوضوح لا يتخفى خلف الكلمات أو يتجمل بالعبارات. والكتاب والآراء الواردة فيه تتطلب نقاشا جادا من المثقفين الشماليين الذين دأب معظمهم على التزلف بالكلمات والتغني بشعارات الوحدة في التنوع وغير ذلك، واستمرأوا جلد الذات في مقابل خطابات الابتزاز الجهوي والإثني، حتى ليمكن إطلاق مصطلح عقدة الرجل الشمالي على سلوكهم ذلك. وإذا كان المؤلف قد ذكر بيقين كامل أنه: " فحتما سوف يأتي يوم الجلاء"، فسأختم هنا بأن أقول بأنه حتما سوف تأتي لحظة الحقيقة على الشماليين وأبناء النخب، ولعلها قد جاءت.
1- ذكر هذه المعلومة المؤلف نفسه في لقائه مع الأستاذ غسان علي عثمان في برنامج الوراق بقناة سودانية 24.
https://www.youtube.com/watch?v=5p8U6fAEgsI
2- دارفور: منقذون وناجون. السياسة والحرب على الإرهاب. محمود ممداني. الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010.
3- محمد عبد الحي، العودة إلى سنار. العودة الى سنار: قصيدة من خمسة أناشيد، الناشر: دار جامعة الخرطوم للنشر.
wmelamin@hotmail.com
ولكن الهامش على كل حال عند الدكتور مادبو لا يشمل الشمال ولا الجزيرة ولا الشرق، وإن ورد ذكر الشرق مرة مرة على خجل، بل الهامش هو بحسب المؤلف: " الهامش الجغرافي، الذي ومن عجب تمدد ليشمل كل أنحاء السودان ابتداء من أمدرمان والتوجه غربا، والهامش الاقتصادي أولئك الفقراء الذين أحصروا داخل المدن والذين لا تأبه بهم النخب المركزية إلا حال التعبئة السياسية". أما جنوب السودان الذي انفصل الآن بدولته المستقلة، فيقول الكاتب عنه "انسان الجنوب الذي ظلمه الساسة والعسكر الشماليون مرتين: مرة عندما فصلوا الجنوب، ومرة أخرى عندما اتخذوا السبل السياسية والإدارية كافة للحيلولة دون تواصله مع اخوانه وأشقائه البقّارة الذين يقطنون بحر العرب"! في الحقيقة يعجب المرء من خبث هؤلاء السياسيين والعسكر الشماليين الذين أفسدوا علاقات الأخوة بين الجنوبيين ومن سماهم الكاتب بأشقائهم البقّارة، هذا بالطبع دون الرجوع لطبيعة العلاقات بين هؤلاء الأشقاء وأحداث مجزرة الضعين، بل وعلاقات الرق التي توثق العديد من الدراسات دور السلاطين في دارفور فيها.
ترد في الكتاب الإشارة إلى حميدتي، الذي كان قد بزغ نجمه وقتها وكان حليفا موثوقا للرئيس السابق عمر البشير وقتها. وعن ذلك يقول الدكتور مادبو إن الإنقاذيين لن يترددوا في إعلان المليشيات الحكومية مجموعة إرهابية إذا أحست منها خطرا. ثم هو يسمي من تحدثوا أو كتبوا محذرين مما سماها ب "قيام دولة الفريق حميدتي" ب "الأقلام المسمومة وإذا شئت المأجورة"، ويرى أن جهاز الأمن يستثمر في خوف المواطنين من "الغرابة والعبيد" فيسعى لتضخيم بعبع "الجانجويد" بحيث لا يتجاوزوا خانة الخفير". أما الجنجويد ذاتهم فيقول الكاتب عنهم: "إن جنجويد لفظ وافق أهواء المغرضين الذين نسوا أن العرب كانوا يقايضون عشرة جمال ببندقية واحدة لحماية أموالهم التي كانت تتعرض للنهب من قبل مجموعة مدعومة إثنيا لقيت دعما غير محدود في فترة من الفترات ولم تزل من حكومة تشاد". والجماعات الاثنية المقصودة هنا هي بالطبع القبائل غير العربية في دارفور التي لها، كما للقبائل العربية في دافور، امتداداتها القبلية والمجتمعية في تشاد. ومن غير الدخول في دحض هذا التفسير لنشوء الجنجويد بتصويرهم كرد فعل، فينبغي ملاحظة أن الجماعات التي وصفها الكاتب بالمجموعات الإثنية المدعومة من الحكومة التشادية، هي ذات المجموعات التي أشاد الكاتب ببطولتها في هجومها على مطار الفاشر، وإنما لا تناقض ينتاب الكاتب هنا طالما كان ذلك الهجوم ضد الشماليين ودولة المركز العنصرية. وهي ذات المجموعات التي قال عنها المؤلف مرة أخرى: " مما لا شك فيه أن بعض المجموعات العرقية في فترة الثلاثة عقود الأخيرة من القرن قد استقوت بنظامي الخرطوم وتشاد كما توهمت أن بإمكانها دحض التواجد العربي في دارفور". على كل حال لا حاجة لنا في نفي ما قاله الدكتور مادبو هنا عن التخويف من قيام ما سماها بدولة الفريق حميدتي، فقد رأينا بأم أعيننا وعشنا ولم يرو لنا أحد، ما تعنيه هذه الدولة في عنفوانها في حرب 15 أبريل 2023، وإن كنا قد شهدنا بعض مقدمات تلك الدولة قبل الحرب.
يكرر الكاتب نفيه قومية القوات المسلحة السودانية مرة أخرى بقوله: " هل كانت القوات المسلحة قومية عندما استعانت بالقوات الجوية المصرية لضرب الجزيرة أبا؟ أم هل كانت قومية عندما استعانت بضباط عراقيين وآخرين روس لدك حصون النوبة والفور والجنوبيين؟ ... بأي عقيدة قتالية نزل "أولاد البلد" وأجهزوا على الجرحى في تلك المعركة والذين فاقت أعدادهم أعداد الموتى؟ هل سجل "التاريخ السوداني" هذا الخزي؟". انتهى الاقتباس. تتسق رؤية الكاتب هنا في نفيه لقومية القوات المسلحة السودانية مع ما يطرحه من آراء ومع تصوره لقومية الدولة نفسها، بل ولشكل الدولة المتصور لديه. وعلى ذلك يبدو متسقا ما يمكن فهمه من بين السطور هنا من عدم اعتراضه بداهة على قيام دولة الفريق حميدتي طالما كان من خارج المنظومة الملعونة في تصوره، لا سيما وأن "الفريق" حميدتي ينتمي لذات مكونه المظلوم تاريخيا في دولة العنصريين الشماليين. لا يمنعه من تقبل ذلك كون قوات "الفريق" حميدتي هي قوات قبلية بالأساس، وعماد جنودها الأساس هو من قبائل عرب غرب السودان وتشاد وعرب السهل الافريقي على وجه العموم، يقودها شخص يوكل أمر نيابته وبقية المناصب المهمة في قواته لأخيه وأقربائه وبعد ذلك لعشيرته الأقربين. ولكن الكاتب في موضع آخر يقول بأن الجيش كان قوميا في وقت من الأوقات: "إن الجيش يوم أن كان قوميا، قام بدوره كاملا في حمل البندقية لتحقيق الكرامة الإنسانية ... كفى به شرفا أنه ساند ثورتين شعبيتين في ربع قرن من الزمان، وكفى بالمؤسسة فخرا أن الذين انقلبت عليهم لم يتهموا في ذمتهم ولا مروءتهم، فعبود بنى بيتا في المواقع الخلفية للامتداد والنميري لم يبن بيتا بل آثر العيش في بيت من ورثة زوجته". ربما وجب علينا لفت انتباه الكاتب إلى أن عبود والنميري هم كذلك من الشماليين على وجه العموم، أما النميري الذي تجاوز الكاتب عن كل سيئاته ومدحه بالنزاهة والعفة مشيرا إلى البيت الذي عاش فيه، فمن باب ذكر الشيء بالشيء يمكن لقارئ هذا المقال مشاهدة المقاطع المصورة لما فعلته قوات الدعم السريع التابعة لدولة الفريق حميدتي ببيت النميري في حي ود نوباوي العريق في أمدرمان في حربهم لجلب الديمقراطية، ناهيك بالطبع عن أن هؤلاء المقاتلون من أجل الديمقراطية يتم تجييشهم بخطابات الإدارة الأهلية وغناء الحكّامات. أما ما ذكره الكاتب مما سماه باستثمار جهاز الأمن في خوف المواطنين من الغرابة والعبيد، واللفظ للكاتب، فغريب! فإذا سلمنا بأن المواطنون المعنيون هنا هم الشماليون، فمن المعلوم أن جهاز الأمن في بدايات الإنقاذ اعتمد على العناصر من غرب السودان لأسباب عديدة، واستمر هذا الأمر، وإن بدرجة أقل، إلى حين سقوط الإنقاذ. ولكن سمعة جهاز الأمن الباطشة تكونت بالذات في الفترة الأولى. وثمة سؤال يبرز هنا، ما الذي يجعل هؤلاء المواطنين في حالة توجس ممن وصفهم بالعبيد والغرابة، فيسهل بالتالي تخويفهم منهم؟ الجواب عند المؤلف سيكون بالطبع هو نهب هؤلاء المواطنين لحقوق الآخرين وخوفهم من الانتقام. أما ما وقر في الذاكرة الجمعية للسودانيين من التاريخ الذي عمدت حكومات المركز العنصرية (بوصفه) إلى طمسه، فهو لا يخطر ببال المؤلف كسبب لتوجس النهريين عموما من القادم من جهة الغرب، فالدكتور نفسه يقول عن المجزرة التي عرفت بكتلة المتمة، أي مقتلة المتمة:" الجرائم التي ترتكب في حق أهلنا الأبرياء من جرم لم يرتكبوه في المتمة". وذلك على كل حال مبحث آخر لن نخوض فيه هنا فالمراجع متوفرة لمن شاء، وسعي النخب المركزية لتجاوزه توسلا لوحدة وطنية متوهمة مبذول كذلك هو الآخر، وحصاد ذلك فيما انتهى إليه السودان لا يخفى على أحد.
يتساءل الكاتب عن العقيدة التي يدين بها من سماهم تهكما بأولاد البلد ليجهزوا على الجرحى؟ لم أستطع معرفة الحدث الذي يشير إليه الكاتب على وجه التحديد، ولكن أولاد البلد على وجه العموم لا يفعلون ذلك، فإن كان ذلك قد حدث، فهي عقيدة الجيش السوداني وليست عقيدة أولاد البلد. إلا إذا كان من قام بذلك الفعل هم قادة الجيش السوداني الذين يقول عنهم الكاتب: " هيئة الأركان في الجيش السوداني تتكون من أبناء حلة واحدة وليس حتى إقليم واحد، حينها لا تسمى عنصرية إنما تصنف مجرد صدفة تاريخية". تتكرر الصدفة التاريخية كملهاة عند المؤلف لا كمأساة، فها هي مرة أخرى تساعد الجلابة على التفوق الاقتصادي في البلاد: "الدولة كمركز تتهافت عليه نخب الريف خاصة للحفاظ على مصالحها مدعية النضال من أجل البؤساء والمساكين ومستقوية بوقائع الظلم التاريخي والاجتماعي، لا سيما ان المركز هنا وظيفي وليس جغرافيا. وقد يكون وظيفيا جغرافيا لأن المصدرين للمنتجات كافة مثل المواشي، الكركدي، الصمغ، إلى آخره، يأتون من بقع جغرافية لا توجد فيها ريكة أو مربط للحمير. فكيف بربك حازوا على هذه الصفات التميزية؟ ربما الصدفة التاريخية". انتهى الاقتباس. هذا بالطبع قول مجاف للحقيقة في أوجه كثيرة، فما سماها الكاتب بالصدفة التاريخية لها من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية وسبل كسب العيش وغير ذلك مما يمكن مناقشته من منظور علم الاقتصاد وعلم الاجتماع الكثير مما لا يسع المجال هنا لاستعراضه، ومما يتطلب بعض التخصصية على الأقل. وذلك بالطبع لا يخفى على كاتب مثل الدكتور الوليد، إذ نجده يذكر في موضع من الكتاب: "إن الفقر الذي يعانيه أهلنا في الريف وفي الغرب خاصة نشط من خلال عملية تاريخية من التطور الرأسمالي الذي ازدهر تحت القفاز المخملي للغش والقبضة الحديدية لفائض القيمة. وإذا اقتصرت السيطرة الدينية لدائرة المهدي على الجزيرة أبا ونواحيها فإن سيطرة الإنقاذ شملت القطر كله"، وفي ذلك يرى أن " الأولى خلقت طبقة سلطوية وشيدت هرمية عرقية هيكلية أمام تقدم كافة الفئات وخلقت فوضى ثقافية ترسخت بسبب التخلف التعليمي وعدم المساواة الأكاديمية". ولكن الإنقاذ، التي عانى منها الشعب السوداني ما عانى، هي في نظر الكاتب في النهاية ليست غير مظهر آخر من مظاهر تمكن الشماليين من حكم السودان، هؤلاء الذين لن ينصلح حال السودان إلا باقتلاعهم، بل استئصالهم كما يقول، حيث يوضح ذلك بالقول: " نحن في حوجة لبنية تحتية معنوية ومادية لن تتحقق إلا باستئصال العصابة العنصرية ومن قبلها الكمسنجية الذين نضب عرق الرجال في وجوههم وأمسوا يشبهون مومس سبعينية تشتهي الجماع من عبدها وهي على فراش الموت" (!).
للكاتب (وهو المرشح لرئاسة الوزراء في البلاد لأكثر من مرة)، له رؤية واضحة في كيفية خروج السودان الذي في تصوره من حال التناحر والتخلف الذي يرزح فيه. إذ نجده يقول ويصرح ويكرر بوضوح لا لبس فيه أنه " لا حل للسودان إلا باقتلاع دولة المركز، وهذا الاقتلاع مؤلم لفئات عديدة". وهذا الاقتلاع يتأتى بالزحف على هذا المركز العنصري البغيض واقتلاعه. إذن لابد من التخلص من هذه النخب أيا كان الثمن، وفي لك يقول بوضوح لا لبس فيه: "إن التخلص من النخب السودانية المتوهمة أيلولة الحق الإلهي إلى طوائفها وأعراقها وجهاتها هو بمثابة التحرر من العنصريين الفرنسيين". ولا تعليق لديَ هنا. ويفسر الدكتور ما يعنيه بالزحف المفضي إلى الاستئصال بقوله: " ليس المقصود من هذا الزحف استئصال مجموعة إثنية بعينها (وإن كان أفرادا منها قد استأثروا بالسلطة، الفعلية وليست المظهرية) كما يروج لذلك بعض المبطلين، وليس المقصود منه التخلص من قبيلة معينة (وإن كانت بعض القبائل النيلية قد أعانتها "بصارتها" في التغلغل في جهاز الدولة فوصلت بعد تدرج دام مائة عام إلى قمة الهرم، وليس المقصود حتما من هذا الزحف الاستحواذ على مقتنيات الآخرين كما يتصور بعض الهلعين". ثم أنه يواصل فيوضح أكثر: "إنما المقصود تفكيك دولة المركز (مفاهيميا وليس فقط عسكريا) بطريقة تسهل إنصاف السودانيين من بعضهم البعض. مخطئ من يقدح في أريحية الشوايقة أو يتشكك في وطنيتهم، ولكنني لا أجد مبررا لوجود عشرة منهم في مناصب سيادية بالمركز خاصة أنهم لم يأتوا بصفة حزبية (أو أيديولوجية) إنما تآمرية ". ثم في تناقض غريب يقول:" لقد توصل الكثيرون بعد تمحيص إلى أن النظام ليس له عصبية مذهبية أو إثنية إنما ميكافيلية موروثة من "الشيخ الأكبر" تقتضي تحقق المصلحة من خلال التلاعب الانتقائي بكافة مكونات الهوية". لا يشرح لنا الكاتب كيف أعانت ما سماها بالبصارة، بعض القبائل النيلية في التغلغل في جهاز الدولة، ولكن السؤال هنا عما ذكره بعد ذلك بالتدرج الذي دام مئة عام، فهل كان لذلك التدرج ما يسنده من التعليم مثلا أم أنه كان محض خبث ودهاء و"بصارة"؟
إن رؤية الكاتب للحل، والتي لخصها في اقتلاع دولة المركز والقضاء عليها، هي واحدة من الشعارات المتعددة التي رفعتها قوات الدعم السريع في حرب 15 أبريل، فالقوات التي كان عمادها الأساسي هم قبائل عرب دارفور المنتمي لها الكاتب، توسلت عددا من الشعارات بتطاول أمد الحرب، فمن الحرب من أجل الديمقراطية (وهم القادمون من مجتمعات تحكمها الإدارات الأهلية)، إلى الحرب من أجل اقتلاع الكيزان أو الإسلاميين (الذين اتضح بتطاول أمد الحرب أنهم محض الشماليين)، إلى شعارات القضاء على دولة 56، وغير ذلك من الشعارات التي مورست تحت رايتها حرب التهجير والتقتيل على العرق في الخرطوم وفي الجنينة وفي الجزيرة بوسط السودان وغيرها من المناطق التي وصلتها الحرب، في كل ذلك كانت رؤية المقاتلين تستقي شعاراتها من شعارات متعلمي مجتمعاتها. لقد اندلعت الحرب في الخرطوم هذه المرة، تماما كما تنبأ أو طلب الدكتور الوليد في واحدة من مقالاته في الكتاب، إذ نجده يقول: " عليه فلابد من اليقظة والاستعداد لمواجهة هذه الفصائل الرجعية، هذه المرة في الخرطوم. إن المعركة القادمة معركة مكلفة في الأرواح والممتلكات لكنها ستحدد مصير الوطن الذي ظن أغرار لا يتجاوز نفوذهم حدود الخرطوم القديمة أنهم سيسيرونه حسب هواهم". ونجده يقول في موضع آخر:" إذا كان السودانيون يظنون أن الليالي السود قد أوشكت على الانقضاء، فإني أبشرهم بأنها لم تأت بعد". وقد صدق في ذلك بالطبع، ومما صدق فيه أيضا ما تمناه، أو ما قال إنه والعقلاء سيفعلونه يومها بقوله: " يوم أن تتقاطع الدوشكات في شارعي الستين وعبيد ختم حينها لن تجدي الاستعانة بالعقلاء وسنتركهم للسفهاء يحسمون أمرهم معهم- وهذا ما يستحقونه حقا". لقد تقاطعت الدوشكات في شوارع الخرطوم كلها ومن ضمنها شارعي الستين وعبيد ختم، ونلنا بحسب الدكتور ما يرى أننا نستحقه فعلا. بوضوح أكثر يرى الكاتب معضدا لذات المنحى إن الحل يكمن في استهداف النظام في الخرطوم، بل واستهداف قادته أو شخوص معينة فيه، إذ يقول في واحد من المقالات إن المعارضة عاجزة عن "إحداث اختراق حقيقي يشل مقدرة النظام باستهدافه في الخرطوم وليس في دارفور" ثم أنه يحدد:" وبتكلفة جسدية أقل (وأنت ما تفسر وأنا ما بقصر" على رأي المثل البلدي)، وما بين الأقواس من عند الكاتب وليس من عندي، حيث "إنهم- أي قادة النظام- موجودون في مناحي العاصمة يخططون". إن الحل عنده يكمن كما كتب في: “إما حرب بلا هوادة لاقتلاع دولة المركز والتي حلت صواميلها الأربع، وإما استسلام يعطي المواطن فرصة للاستجمام".
لقد عشنا بأنفسنا ورأينا بأعيننا ما فعلته قوات الدعم السريع في سعيها لتحطيم دولة المركز، ولكنهم يبدو أنهم لم يقرأوا مقالات الدكتور مادبو كاملة، فقد شمل ذلك الاقتلاع مقتنياتنا وقبل ذلك حيواتنا. وأود هنا الوقوف عند نقطة معينة، فقد ذكر الكاتب بالتحديد في مقتبسنا منه أعلاه قبيلة الشوايقة، وكان قد ذكرهم في موضع آخر أيضا. من الغريب أن قوات الدعم السريع في خطاباتها المتقلبة استخدمت ذات الإشارة إلى الشوايقة بالذات، فهم يصفون سلاح الطيران في الجيش السوداني بطيران الشوايقة، ويكررون تقصدهم للشوايقة في غير ما خطاب. والمؤلف نفسه في واحدة من مراسلاته مع الدكتور محمد جلال هاشم، والتي نشرها الأخير تحت عنوان" محاورات الأسافير مع الوليد مادبو"، وردا على سؤال الدكتور محمد جلال عن إن كانت جرائم مليشيات الدعم السريع هي ضمن حرب قوى الهامش التي يعنيها؟ رد الدكتور مادبو بوضوح محمود: "هذا يأتي كرد فعل للعنصرية التي تمارسها النخب المركزية، خاصة الشوايقة (كآلية سياسية وليس مجموعة عرقية)، الذين اعتادوا على الخديعة والمكر والخبث في محاولتهم لتسود المشهد السياسي والعسكري. لن يتعافى السودان قبل ان يتم استئصالهم تماماً." انتهى الاقتباس، وللرد والمحاورات بقية يمكن أن يطلع عليها القارئ فهي مبذولة في الأسافير.
وفيما خص التنمية في دارفور يرى الكاتب "إن خلق تكامل اقتصادي واجتماعي مع دول الجوار (افريقيا الوسطى من ناحية الجنوب الغربي، تشاد من الناحية الغربي، ليبيا من الناحية الشمالية، جنوب السودان من ناحية الجنوب)، يتطلب وجود كيان سياسي وإداري واحد موحد يتولى أمر التنسيق ويشرع في ترتيب البروتوكولات التجارية وتحقيق النظم، حبذا باستقلالية عن بنك السودان الذي أصبح حكرا لأقاليم بعينها ونخب مركزية لا يتجاوز عددها الخمسين"، وفي ذلك يقول بالنص إن دارفور "كان من المفترض أن تكون كاليفورنيا افريقيا". لا يخفى بالطبع أن الدول المذكورة هي دول تجاور دارفور لا السودان بأكمله، وعموما فمما يعزز من فرضيته هذه أن دارفور كانت وإلى زمن قريب نسبيا بحساب أعمار الدول، دولة مستقلة إلى حين ضمها المستعمر للسودان. كما لا يخفى بالطبع أن الدولة المركزية في السودان كان اتجاهها على الدوام للجهة الأخرى نحو مصر والخليج والفضاء الجغرافي المشرقي عموما، ويمكن استثناء ليبيا من هذه الدول، وبالطبع جنوب السودان لأسباب موضوعية. وفي ذات الإطار نجده، أي المؤلف، ينادي "بتعددية تجعل من انجمينا محطة انطلاق إلى الحزام السودانوي (افريقيا الوسطى، كاميرون، نيجر، نيجيريا كافة، إلى آخره". في الحقيقة لا يأبه السودانيون الشماليون أو في السودان القديم كثيرا لعلاقاتهم بتشاد وبغرب القارة على وجه العموم لأسباب ذكرنا بعضها عرضا بتبسيط مخل أعلاه، ولكن بالمقابل فقد ظل وجدان الدارفوريين أكثر ارتباطا بتشاد وغرب القارة عموما بما لا يقارن ببقية السودانيين. والكاتب هنا حين يتحدث عن تشاد فهو في الغالب يهتم بمكونها العربي كامتداد لمجتمعاته في دارفور وفي دول أخرى في السهل الافريقي، فعن تشاد تحديدا يقول الدكتور الوليد: "ظل عبد الله حمدنا الله يقول بأن تشاد أكثر عروبة من السودان. لكن أحدا لم يأخذه على محمل الجد لأن العروبة ارتسمت حدودها عند النخب السودانية بالمركز". وهذا صحيح، أي عدم أخذ ذلك على محمل الجد، ولا أعنى هنا مسألة عروبة تشاد، فعروبتها من عدمه بالنسبة للسودانيين شأن يخص التشاديين الذين ليسوا محل اهتمام السودانيين عموما، ولا ينقص منهم ذلك شيئا بالطبع. أما تفسير الدكتور حمدنا الله الذي يوافقه فيه الدكتور الوليد لتلك اللامبالاة بأن العروبة ارتسمت حدودها عند النخب السودانية بالمركز، فغير صحيح بالمرة، فسودانيو المركز هؤلاء ينظرون للموريتانيين البعيدين عنهم وعن مركزهم مثلا، كعرب أصلاء. ولكن بعض ما أثار تعجبي وحيرتي هو أنه لما كان الكاتب مقتنعا بعروبة تشاد أكثر من السودان، فمن الغريب اجتهاده في نفي العروبة عن الشماليين! لقد اجتهد الكاتب في نفي العروبة عن الشماليين على وجه العموم، فهو يصف الجعليين بالإثنية التي "تدحرجت من الهضبة الأثيوبية"، وهذا الأمر لا يخلو من الغرابة، فالناس مسئولون عن أنسابهم، ولا شأن لي بما يدعيه الآخر من نسبه أو أصله طالما لم يتعد هذا الآخر على حقوقي مستغلا قوة مادية ناتجة عن هذا الادعاء. ولكننا في الحالة الماثلة أمامنا وبافتراض أن الشماليين استغلوا فرضية الاستعلاء العرقي العربي المدعى، صحيحا كان ذلك أم لم يكن، فلم تكن هناك قوة مادية نتجت عن هذا الاستغلال المتوهم. ولكن ما يثير الدهشة أكثر هو اهتمام الكاتب بهذا الأمر، أي نفيه عروبة الشماليين، ومحاولة إثباته علميا بقوله: " وقد أثبت الحامض النووي أن معظم قبائل الشمال تنتمي إلى الهوسا أو الأحباش، باستثناء النوبيين الذين لهم أصول تربطهم بالنوبة والفور والبرتي". لم يشر الكاتب إلى أي مصدر علمي استقى منه هذه المعلومات الخطيرة والقطعية. بل نجده يذكر في موضع آخر أن: " الاغريق قد أثبتوا فيما ورثوا عن الفراعنة أن الجينات نوعان: نوع يسمى ال Mores وهو المسئول عن تحمل الطباع، وآخر ال Meres وهو الموكل إليه نشر الملامح، أورد هذا الأمر أستاذ العلوم السياسية Leslie في كتابه Thinking politics ". انتهى الاقتباس. وعلى الرغم من تخصصي في هذا المجال عموما واهتمامي به، إلا أنه صعب علي تقبل ما أورده الكاتب كحقائق مطلقة لا تقبل الجدال، بل استدل على واحدة منها بمرجع أشار إليه. اتصلت لغرض ذلك بالصديق الدكتور هشام يوسف حسن الخبير في هذا المجال، وهشام بالطبع، رفقة البروفيسور منتصر الطيب، هما أول من نشر بحثا عن السلالات البشرية السودانية باستخدام علم الأحياء الجزيئية والجينات، وتزاملنا وقتها في معهد الأمراض المتوطنة، ذكرت ذلك للتدليل على صلتي بما ذكره الكاتب، ولكني لم أجد الجرأة لنفيه هكذا كيفما اتفق. أفادني الدكتور هشام أن ما ذكره المؤلف من انتماء معظم قبائل الشمال إلى الهوسا أو الأحباش هو محض كلام لا معنى له ولا مرجعية علمية، ولا يوجد أي بحث علمي توصل إلى ذلك. أما فيما خص ما ذكره المؤلف من مسألة ما أثبته الاغريق فيما ورثوه عن الفراعنة، فأفادني الدكتور هشام أن الكتاب المذكور منشور في العام 1997، ومن المعلوم بالطبع إن استخدام تقنيات الأحياء الجزيئية في علم الجينات لم يكن قد بدأ في ذلك الوقت، بل إن جل التطورات في هذا المجال حدثت بعد ذلك بسنوات، فبعد نجاح العلماء في استنساخ النعجة دولي في العام 1996، تسارعت الفتوحات في هذا المجال حتى وصلت إلى ما نعرفه الآن. أما السيرة أو الإشارة الوحيدة للفراعنة في الكتاب، حيث سموا بال Egyptian، بحسب الدكتور هشام، فقد كانت في ذكرهم عرضا في إطار المقارنة بطريقة مختصرة بين طقوس العبادة بين الفراعنة واليونانيين. أختم هذه الجزئية بإبداء تعجبي الذي شاركني فيه الدكتور هشام من فرضية أن يكون هناك جين واحد (Mores بحسب ما أورده الدكتور مادبو) هو المسئول عن تحمل الطباع وجين واحد آخر (Meres بحسب ما أورده الدكتور مادبو) هو المسئول عن نشر الملامح! ناهيك عن أن مصطلح الجينات هو ذاته مصطلح حديث نسبيا.
وقريبا من ذلك يعتقد الكاتب إن " دارفور كانت لها نظم وأعراف وبروتوكولات استقتها من حضارات هي الأعرق في افريقيا"، ورغم أنه لا يشير إلى هذه الحضارات الأعرق في افريقيا التي يشير قوله إلى أنها كانت هناك في دارفور أو على الأقل ذات اتصال معها، فهو يقول في موضع آخر: " ونحن نريد أن نستلهم قيمنا الإنسانية من حضارتنا النوبية التي هي أم الحضارات الافريقية". لم أستطع على وجه التحديد التحقق من المعنى في هذه الكلمات، فهل قصد الكاتب انتماءه للحضارة النوبية في شمال السودان؟ أم انه قصد التأثر بها في دارفور. فمن المعلوم بالضرورة أن الحضارات السودانية في النوبة في عصورها المشرقة لم تفكر في الزحف غربا، ففي أوج توسعها اتجهت شمالا حتى وصلت حدودها إلى فلسطين الحالية في بعض عهودها، ولكنه لا يذكر لها اتجاه يذكر نحو غرب القارة، ذلك رغم بعض الأقوال الضعيفة التي تحاول الربط بين حضارات النوبة عموما ومناطق أخرى في القارة.
لا يكتفي الكاتب بتأكيد دور النخب المركزية في ما انتهى إليه السودان بحسب رأيه، ولكنه كذلك يصر ويعتقد جازما بإصرار هذه النخب على استتباع دارفور، أو قل باستوطانها واستعمارها، ولفظ استعمار هذا أورده الكاتب وليس من عندي، فهو يقول بوضوح: "حينها لن يجد الزرقة والعرب غير إقليمهم الذي ضنوا به من قبل على المستعمر الخارجي (الأبيض) دون أن يدركوا خطورة المستعمر الداخلي (الأسود)"، وذلك ليس ظنا منه أو قراءة مبتسرة لما يراه من واقع الحال، إذ هو يكرر قناعته هذه في موضع آخر من الكتاب بالقول: "مع يقيني أن دارفور مستعمرة"، ثم هو يتبع ذلك بالقول: " وأن قيادات الاستعمار من شراذم أمنية وسياسية يجب أن تكون هدفا مشروعا للمقاومة وقد جعلوا الأبرياء هدفا للإبادة". وتتكرر لفظة الاستعمار مرات أخر في الكتاب في مثل قوله: " تقنين سيادة المستعمرين" وكذلك: " القوة المستعمرة دارفور حاليا"، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. في الحقيقة لم يكن الدكتور مادبو هو الأول من مثقفي دارفور ممن وصف وجود دارفور ضمن الدولة السودانية بالاستعمار، فقد سبقه بعض متعلمي دارفور في ذلك.
يعضد الدكتور الوليد فكرته عن حرص الشماليين على استتباع دارفور بقوله إن: " النخب المركزية لديها فشل سياسي وأخلاقي تبدى في محاولتها الإجهاز على شعب بعينه وقد استنفدت كافة الوسائل لتطويعه وتجيير إرادته". في الحقيقة إن المرء ليعجب من هذه اليقينية العالية لدى الدكتور الوليد من حرص الشماليين بل وإصرارهم لدرجة المؤامرة على استعمار دارفور واستتباعها! فالحقيقة التي لا مراء فيها أن دارفور لم تكن يوما ضمن اهتمام سكان السودان النهريين أو الشماليين على وجه العموم، ولولا أن الاستعمار هو من ضمها إلى السودان القديم لظلت سلطنة مستقلة ولربما كان ذلك أفضل لها وللشمال، ولكن ما حدث قد حدث. وعودا إلى التاريخ، فقد كان اتجاه السودان الشمالي على الدوام نحو شمال وشرق القارة، بدء من حضارات السودان التليدة والقديمة، واستمر هذا الاتجاه حتى في العصور الحديثة، وحرب الزبير باشا لم تكن لأطماع توسعية، بل هي لأسباب اقتصادية. ولكن ما يراه الدكتور الوليد يتجه عكس ذلك، فمع اقراره بأن المستعمر هو من ضم دارفور إلى السودان، نجده يقول عن الشماليين في علاقتهم بدارفور: " العزبة التي ظنوا أن المستعمر أورثهم إياها، فما فتئوا يمارسون معها السفاح حتى استذاقوا طعمها فوجدوها ألف مرة أحلى وأبرك"(!) فهل الشماليون هم من طلبوا من المستعمر ضم دارفور؟ لا تغيب هذه المعلومات البديهية عن الكاتب بالطبع، ورغم أننا نجده يقول في موضع من الكتاب، نقلا عن مصدر ذكره، إن السودان: "إنما تشكل في الواقع نتيجة دمج استعماري لدولتين افريقيتين مستقلتين هما دولة الفونج ودولة دارفور. هذه الحقيقية التاريخية لا يجب تناسيها أو التغافل عنها، بل وضعها في الاعتبار. وعلينا أن نحرص على تلك الحقيقة التاريخية فهي ظلت وستظل راسخة في وعي ووجدان إنسان دارفور، وإن كانت مهملة وساقطة من الوعي الجمعي لإنسان الوسط والشمال النيلي الذي أصبح كأنما لا مرجعية تاريخية ووطنية له يعتد بها غير سنار ودولة الفونج (الأموية)". انتهى الاقتباس. أود هنا مغالطة الدكتور مادبو في مسألة أن حقيقة أن السودان الحالي هو نتاج ضم قسري لدولتين هي معلومة مهملة وساقطة من الوعي الجمعي لإنسان الوسط والشمال. ذلك غير صحيح بالمرة، فإنسان الوسط والشمال ظل على الدوام واعيا لحقيقة الاختلاف الكبير بين ثقافته وثقافة دارفور، وظل منتبها على الدوام لحقيقة التشكيل القسري لخريطة السودان. ربما بعض أسباب ذلك الظن الخاطئ عند الدكتور وعدد مقدر من مثقفي دارفور وجل مواطنيها واعتقادهم بأن الشماليين يتناسون تلك الحقيقة، ربما سبب ذك ما يتبدى من حرص الشماليين ممثلين في نخبهم والمتعلمين منهم، في الحفاظ على وحدة السودان المتوهمة، وفي التغني بشعارات مثل الوحدة في التنوع، وغير ذلك مما يثبت زيفه عند أول المنعطفات. ولا أدري الآن كيف سيكون رأي الدكتور الوليد ومن يشاركونه هذا الرأي فيما كشفته حرب 15 أبريل الأخيرة من زهد الشماليين في استتباع دارفور بل وفي استبقائها حتى، بالطبع سيظل رأيهم هو ذاته إن استمعوا للسياسيين من بعض نخب الشمال الذين لفظتهم مجتمعاتهم المحلية لمواقفهم في هذه الحرب، وذلك ليس بدعا، فالتاريخ يزخر بأمثلة من قايضوا مصالح مجتمعاتهم لصالح المشاريع الخارجية.
ورغم كل هذا التجريف الذي مارسته النخب النيلية المتنفذة بحسب وصفه، فالدكتور يقول في موضع من الكتاب إن " الستين عاما التي انقضت – رغم فداحتها – لم تنل من الوجدان السوداني، والذي يحمد للفنانين والمبدعين أنهم جنبوه مزالق الهواة، أو أنه كان أعظم من أن يصل إليه الطغاة"، وذلك في الحقيقة قول غريب ويتناقض مع الفكرة العامة للكتاب ولكاتبه، ولكن إذا سلمنا بذلك جدلا فثمة سؤال يبرز هنا عمن هم هؤلاء الفنانين والمبدعين؟ هل هم فنانون من دارفور ومن المكونات التي يدافع عنها الكاتب ويصفها بالمظلومة والمقهورة؟ بالطبع لا، فقد كان هؤلاء الفنانون والمبدعون هم أبناء ذات الدولة المركزية وصنيعة ثقافتها، شعراء كانوا أم مغنين أو حتى تشكيليين.
يستنكر الكاتب على النخب الدارفورية ونخب الهامش كافة أن "فات عليها التفكير في شأن دارفور الكبرى وإمكانية، بل حتمية تحريرها من الاستيطان". فدارفور عنده وكما يذكر: " مستهدفة في ذاتها وإن المفاصلة كائنة لا محالة بين من يريدون لها اندثارا ومن يتمنون لها ازدهارا". وهذه الدعوة إلى التحرير تتسق بالضرورة مع الفكرة المركزية للكتاب القائلة بأن دارفور مستوطنة. وعطفا على ذلك فهو يرى "إن التحدي يكمن في انتشال دارفور وكردفان من واقع الانهزام النفسي والاجتماعي (...)، إما أن نتحد فنواجه ونهزم الطاغوت أو نموت موتا عبقريا نبيلا، أما أن نفنى دون مقاومة فذاك هو العار، بل هو الشنار والتنكر لتاريخ أسلافنا المجيد". ليس أوضح من هذه الفكرة في التحرير إلا ما يعتقده ويؤمن به الكاتب من حرص الشماليين على استتباع دارفور، فهو يعتقد جازما حسب قوله: "إن جل ما تسعى إليه النخب المركزية هو إضعاف موقف دارفور التفاوضي إذا ما قدر للسودانيين يوما أن يجلسوا في مؤتمر للحوار". ورغم كل ما قاله عن حرص النخب على التمسك بدارفور، فنجده يقول في موضع آخر في تناقض جديد: إن النظام" يريد أن يدمر دارفور ويدفعها دفعا نحو الانفصال أو تدجينها بشراء مثقفيها وممثليها البرلمانيين". ونجد الكاتب يناقض نفسه مرة أخرى في هذه الفكرة بتصريحه بأن انفصال دارفور، أو قل عودتها سلطنة مستقلة كما كانت، لن يجد ممانعة من الشماليين ونخبهم، حيث أورد بالنص ما يلي: "ولتطالب دارفور حينها بالانفصال فلن تجد أي ممانعة، أما الانضمام إلى الجنوب فدونه ألف حائل لأن الإدارة الأمريكية إنما تريد حدودا تكون بمثابة العازل الثقافي بين الغابة والصحراء". بالطبع يستبطن هذا التصور معرفة نوايا الإدارات الأمريكية، كما يستبطن، وهو الأكثر غرابة، تصور ترحيب الجنوبيين بالاتحاد مع دارفور، بالنظر على الأقل لتاريخ الصراع بين القبائل في المنطقتين غير أسباب أخرى.
يملك الكاتب تصورات واضحة لحل أزمة دارفور كما أسلفنا، أولها بالطبع حسب ما ذكر هو تخليصها من الاستعمار والاستيطان. ومن تلك الحلول أيضا ما ذكره بالقول بأنه: " لا يمكن الشروع في حل هذه الأزمة إلا من خلال الاستشعار الخالص لوحدة المصير الوجودي لشعب دارفور والتعويل على الخصائص الوجدانية لمقومات الذات الدارفورية الثرية والغنية". ليس من حق هذه الكتابة والعرض والنقاش للكتاب بالطبع مغالطة الكاتب في هذه الفكرة، بل في الحقيقة لا يملك كائنا من كان هذا الحق في غمط الناس أشياءهم وما يظنونه عن أنفسهم، بل إنني أعتقد جازما أن لدارفور من الخصائص ما يمكنها من ذلك، ولكن الخطأ الكبير في ذلك كان في الضم القسري لدولتي السودان كما سماهما الكاتب (دولة الفونج وسلطنة دارفور) في كيان واحد، قاطعا بذلك التطور الطبيعي لكلا الدولتين، وفي حالة دارفور بالذات فقد قطع ذلك الضم اتجاهها وتداخلها الطبيعي مع فضائها الأقرب في غرب القارة، وقريبا من ذلك ما سماه الدكتور مادبو بانتزاع شعب دارفور من الفضاء الصوفي المغاربي وإلحاقه بالفضاء السلفي السني، ذلك صحيح، ونعني الانقطاع، ولكن الدكتور مادبو رمى اللوم في ذلك الانقطاع على النخب المركزية لا على الانجليز. ليس مطلوبا من دارفور أن ترضى بذلك الانقطاع تحت أي دعاو كانت، كما ليس من المنصف بالنسبة للشمال كذلك أن يتحمل وزر ما لم يقم به ابتداء، ونعني هنا الاستتباع أو قل الاستعمار والاستيطان، ولعل في ذلك بعض إجابة على تساؤل الدكتور مادبو الذي سماه بالملح: " ليس هناك من هو أكفأ منا أهل الغرب حتى يعطينا دروسا في الوطنية، بل السؤال الملح الذي يلزم أن يرد عليه مثقف الشمال الإسلامي النيل وسطي: هل تندفع دارفور معصوبة نحو القومية إلى درجة تتعامى فيها عن أدنى حقوقها الإنسانية؟" ذلك بالطبع مع اختلافنا في تفسير القومية.
يقول الكاتب إن " دارفور ستتحمل دورها كما تحملته من قبل، في تحرير السودان من مخلفات الانجليز، الأتراك والمصريين". يستبع هذا القول بالطبع اعتقادا من الكاتب بانتماء دارفور إلى السودان القديم، في تناقض أو تضاد مع قوله بأن السودان الحديث هو نتاج ضم دولتين، الفونج ودارفور كما ذكر، كما لا يخلو هذا القول كذلك من الوصاية والمنة، فمن قال بأن السودان كان في حاجة لدارفور قبلا ليحتاجها الآن، ولأجل ماذا؟ لأجل تحريره ممن يصفهم الكاتب بمخلفات الانجليز والأتراك والمصريين! تتبدى فكرة الوصاية لدى الكاتب مرة أخرى في عدة مواضع، فنجده يمارس الوصاية على المركز، فهو يريد تفكيكه لإعادة تركيبه، وليس لنفيه أو تفنيده كما يقول، وذلك إنما يتم عبر تضامن قوى الريف الزاحفة نحو المركز. ذلك بالطبع إذا تجاوزنا ترديد الكاتب للاعتقاد الشعبوي المتبنى لدى عوام مجتمعاته، وربما غير عوامهم، الذين ما فتئوا يرددونه في حرب 15 أبريل بل ومن قبلها، عن علاقة السودانيين من غيرهم بالأتراك والمصريين والإنجليز.
ينطلق الدكتور من فرضية مركزية لا تقبل الجدل عنده، مفادها أن الشماليين الجلابة هم السبب فيما انتهت إليه دارفور من الحروب وعلاقات القبائل هناك، والشماليون هؤلاء هم السبب في التخلف التنموي في دارفور وما حاق بها. ويورد بعض الحقائق لتبيان ذلك، فنجده يقول في شأن سد مروي: " لقد عوضت الدولة المناصير ببنايات وشفخانات ومدارس ومحطات توليد وفوق ذلك معونة مادية تبلغ الألفين جنيه ولا يزال بعضهم يتمنع وذلك حق يكفله الدستور ولوائح حقوق الانسان". وفي الحقيقة فهذا قول يجافي الحقيقة، فالدولة المركزية سامت انسان الشمال عسفها وتجاهلها الذي مارسته في مختلف بقاع السودان، وفي شأن المناصير فليس ببعيد عن الذاكرة الجمعية للسودانيين، سمهم الشماليين هنا، غرق المركب التي كانت تحمل التلاميذ والتلميذات لمدرستهم عبر النيل. وفي ذلك الحادث وحده فقدت إحدى الأمهات بناتها الخمس. ولا تزال وفيات الناس هناك بلدغات العقارب من أسباب الموت العادية. ولكن الدكتور الذي لا يرى ذلك، يرى عسف الدولة ذاتها بكامل الوضوح حين يتعلق الأمر بدارفور، فنجده يقول: "حتى هذه اللحظة لم تبد الدولة تأسفا على فقدان مواطنين لأرواحهم من جراء الاشتباكات (غير اللازمة) التي حدثت في معسكر كلمة (25 أغسطس 2008) بل على النقيض فإنها أي الدولة قد صرحت بأنه من حقها أن تفرض "هيبتها" على أراضيها كافة". وفي الحقيقة يمكنني القول هنا وكتعقيب على هذه الجزئية، إن الدولة السودانية في نسختها العسكرية هي سليلة الدولة االكولونيالية، ومن المؤسف أنه في إطار المقارنة قد يجد الباحث أن الدولة الوطنية سامت مواطنيها عسفا بأكثر مما فعلت دولة الاستعمار، وذلك بالطبع من دلالات ومؤشرات فشل الدولة. على كل حال فإن هذه الدولة قتلت كذلك الناس الذين خرجوا ضدها في كجبار وفي بورتسودان وقبل ذلك في الخرطوم وغيرها من مدن الشمال، ولم تعتذر، فكيف ينتظر الدكتور منها تأسفا على فقدان مواطني المعسكر لأرواحهم وهي التي لم تتأسف على قتلها لمواطنيها منذ بزوغ فجر الدولة الوطنية!
تتمثل بعض أسباب النزاعات في دارفور عند المؤلف فيما سماها " البنيوية (التركيبة السياسية الحزبية التي تؤسس للتهميش الاجتماعي والاقتصادي) والعضوية (محاولات الاصطفاء العرقي والتمايز القبلي) التي تضع مقومات الذات الثقافية في اصطكاك دائم". ولا يناقش الكاتب هنا البنيوية الاقتصادية في دارفور وسياسات تملك الأرض وتوزيعها وحقوق القبائل وسياسات الحواكير، كما لا يناقش التعقيد القبلي والتراتبية القبلية في دارفور كذلك، وهاتان الأخيرتان بالطبع ليس للجلابة ودولة النخب دور في إيجادهما.
وإذا كان الكاتب يعتقد بأن الشماليون والجلابة هم سبب الحروب في دارفور، فكيف يمكن تفسير ما ذكره عما سماها بحرب البسوس في السودان؟ إذ يشير إلى ما يسمى لديهم هناك ب "ناقة فني" والتي يصفها بأنها حرب البسوس في السودان (!) والتي دارت رحاها قبل أكثر من أربعمائة عام بين الرزيقات وخزام. بالطبع لم يكن هناك سودان في ذلك الوقت، فكيف يصفها الكاتب بحرب البسوس في السودان؟ ثم أنه وبالأحرى لم يكن هناك الجلابة والشماليين السفلة الأجلاف والعنصريين، ورغم ذلك اندلعت الحرب! على كل حال عاد الجلابة مرة أخرى للظهور، حيث يقول المؤلف إن أول مرة يقتتل فيها أبناء العمومة من الرزيقات والمعاليا كانت في العام 1967، ولكن ذلك حدث "بعد أن تآمرت عليهم النخب الطائفية التي كانوا يدينون لها بالولاء". ومرة أخرى عادت النخب المركزية وأشعلت الحرب بين المسيرية الحمر والمسيرية الزرق وتلتها حرب العجايرة والفلايتة، " عندما أحست بتذمر قبائل المسيرية وتأثرهم بالأضرار الايكولوجية". وأكتفي هنا بإيراد الاقتباسات من كلام الكاتب دون التعليق عليها. وفي أطار قريب من ذلك يشير الكاتب إلى كشف البلاغات الأسبوعي الذي استطاع رصده في الفترة من 18-10-2007 في ولاية جنوب دارفور، ويذكر أمثلة أوردها، نذكر منها هنا: " استهداف جندي لقائده رتبة مقدم ورميه للرصاص داخل حامية نيالا، هجوم مسلح من قبل الهبانية على مجموعة من المصلين السلامات وبتر رأس إمامهم وتسليمه للناظر صلاح علي الغالي، قتل 26 فيهم ستة مشايخ يحفظون القرآن بثلاث روايات، التعرض شبه اليومي من قبل مسلحين يمتطون الإبل للسيدات اللواتي يحتطبن ليلا". وهذه الأمثلة القليلة والمجتزأة عما كان يحدث بين المجتمعات هناك، والتي من الواضح أن الشماليين ليست لهم يد فيها، لا يعدم المؤلف رابطا لها مع دولة العصابة النيلية، إذ يتبع ما ذكره بالقول: "وإذ أن الدولة لا تأبه بتعقبهم فقد باتوا يرتكزون على الطرق المؤدية إلى المدينة ..." ومع أنه رمى باللوم على الدولة في ذلك وأنها لا تأبه، مبرئا المجتمعات المرتكبة لهذه الأفعال، فهو كذلك لن يعدم سببا للوم الجلابة، حيث كتب: " أعود وأقول إن مثقف الشمال الإسلامي الايدلوجي لم يكن ليدع السلطة (لغرباوي) إلا بعد أن تأكد من انتزاع (الإبرة) وبعد أن أعطاها لشخص ضمن ولاءه الأيدلوجي". من الواضح من هذه التبريرات أن للكاتب تفسيره الخاص للحديث الشريف " انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فبينما التفسير الصحيح لنصرته مظلوما يكون بتوجيهه للصحيح، يصر الكاتب على خلق التبريرات وصناعة الأسباب ضد الجلابة، عطفا على الحديث الشريف الذي أورده الكاتب مشيرا إليه بالمقولة الجاهلية!
لا تكفي هذه الكتابة رغم اجتهادها في الإحاطة بالكتاب وأفكار الكاتب الواردة فيه، فالكتاب جدير بالقراءة وتدبر الأفكار الواردة فيه. والدكتور الوليد مادبو من المثقفين ذوي الوزن المعتبر في قومه وفي السودان عموما، ومما يحمد له طرح أفكاره بوضوح لا يتخفى خلف الكلمات أو يتجمل بالعبارات. والكتاب والآراء الواردة فيه تتطلب نقاشا جادا من المثقفين الشماليين الذين دأب معظمهم على التزلف بالكلمات والتغني بشعارات الوحدة في التنوع وغير ذلك، واستمرأوا جلد الذات في مقابل خطابات الابتزاز الجهوي والإثني، حتى ليمكن إطلاق مصطلح عقدة الرجل الشمالي على سلوكهم ذلك. وإذا كان المؤلف قد ذكر بيقين كامل أنه: " فحتما سوف يأتي يوم الجلاء"، فسأختم هنا بأن أقول بأنه حتما سوف تأتي لحظة الحقيقة على الشماليين وأبناء النخب، ولعلها قد جاءت.
1- ذكر هذه المعلومة المؤلف نفسه في لقائه مع الأستاذ غسان علي عثمان في برنامج الوراق بقناة سودانية 24.
https://www.youtube.com/watch?v=5p8U6fAEgsI
2- دارفور: منقذون وناجون. السياسة والحرب على الإرهاب. محمود ممداني. الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010.
3- محمد عبد الحي، العودة إلى سنار. العودة الى سنار: قصيدة من خمسة أناشيد، الناشر: دار جامعة الخرطوم للنشر.
wmelamin@hotmail.com