نشرت صحيفة سودانايل الإليكترونية بتاريخ 13 مارس الحالي مقالاً مطوَلاً بقلم الأستاذ إسماعيل التاج. عنوان المقال " ليس دفاعـاً عن الشاب محمد ناجي الأصم ولكن ضد العقلية التي يمثلها عشاري محمود" . كنت سأمتّع نفسي بقراءة المقال لما فيه من تناول رصين بالنقد الهاديء لكتابات الدكتور عشاري احمد محمود خليل حول قضية ظل يثيرها تباعاً وفي سلسلة من المقالات المطولة، منذ الثالث من يناير الماضي ، موضوع البيان الذي تلاه الدكتور محمد ناجي الأصم نيابة عن تجمع المهنيين. قلت كنت سأقرأ المقال ثم أنصرف لما يفيدني وينفع الناس لو لا أنني وجدت عتاباً من كاتب المقال -وهو أخ وصديق تجمعني به أكثر من آصرة وأنا بذلك فخور- وتكرر العتاب في فقرة ثانية حتى لكأني أسمعه يقول لي: "حتى أنت يا بروتس" !!
فمولانا إسماعيل التاج الذي وصف مقالي بتاريخ 4 يناير المنصرم حول ذات الموضوع بأنه خفف من غلواء الدكتور عشاري كما يقول ، أنحى عليّ باللائمة في أنني ذهبت مذهب عشاري في التشكك في عملية بتر الفيديو وإن لم أصل مرحلة التخوين. يقول مولانا إسماعيل التاج في مقاله المطول معاتباً: (وخفف من غلواء المقال الأول لعشاري وأحكامه الانطباعية وتجاوزاته وقسوته، مقال جاد به الشاعر فضيلي جماع في اليوم التالي مباشرة، الجمعة 4 يناير في ذات الموقع، وإنْ كان فضيلي سار في ذات الدرب الذي مشى فيه عشاري من حيث التشكيك في البيان الذي أدلى به الشاب محمد ناجي الأصم، ولكن فضيلي توقف خطوات من دمغ البيان بالتزوير وطالب بتوضيحات بدلاً عن ذلك. وفي تفقده الكريم لحال الوطن والثورة وما يحدث على أرض الواقع، تلقيتُ مكالمة في أو حوالي 20 يناير من الأخ فضيلي، ثلاثة أيام تقريباً بعد استشهاد د. بابكر عبد الحميد، تطرقتُ فيها عرضاً لما كتب د. عشاري وفضيلي نفسه في أمر البيان الذي أذاعه الشاب محمد ناجي الأصم، وقلتُ لأخي فضيلي أنني كتبتُ رداً ولم أنشره ونحتاج أنْ نمضي للأمام (نمشي لي قدام). وأذكر في ذلك اليوم كنتُ بمعية الأخ أحمد حنين الذي تحدث أيضاً مع فضيلي.)
الأمر الآخر الذي جعلني أكتب هذا التعقيب هو أنّ كاتب هذه السطور لا يرى سبباً أياً كان وفي هذه الأيام بالذات أن نشرع أقلامنا في صدور بعضنا البعض وغبار المعركة لم ينقشع بعد، حتى لكأننا بهذا الفعل ندعو نظام الإبادة الجماعية الذي يطلق الرصاص على بناتنا وأبنائنا في الشارع أمس واليوم أن يشمت علينا. لكن ولأنّ الكتابة في أرقى مراقيها تساهم في نشر الوعي فقد وجدت لثلاثتنا : مولانا إسماعيل التاج والدكتور عشاري وشخصي الضعيف كل العذر في أن نكتب ما دام ما نطرقه في مقالاتنا هو جزء من الهم العام. ورغم ذلك فإنّ تعقيبي سيكون مقتضباً ، وأحصر جله في ماذا قلت في مقالي الذي رفعته في أكثر من موقع بتاريخ 4 ينا ير 2019 والذي جاء بعنوان: (من الذي قام ببتر الفيديو يا تجمع المهنيين؟)
كنت قد ذكرت في المقال أن الأكاديمي والحقوقي الدكتور عشاري أحمد محمود خليل قد طرح سؤالاً يستحق الإجابة عليه، بأنَ الفيديو الذي تلا عبره الدكتور محمد ناجي الأصم بيان المهنيين قد تعرض للبتر في أهم جزء منه وهو الإشارة لعبارة ( التنحي الفوري لنظام عمر البشير). بينما ظل البيان المكتوب كاملاً غير منقوص في موقع تجمع المهنيين. ولعلي احتفظت حينها بخطابي غير المتشنج ولا المتحامل حتى نهاية مقالي ، حيث طرحت السؤال:) لماذا لا تصدر السكرتارية بياناً توضيحياً لشعبنا بأنّ تخريباً غير مقصود مثلاً قد حدث للتسجيل الأصل؟ ثم يمدوننا بالرابط للفيديو الأصل الذي استغرق كما قال لي الدكتور عشاري لاحقاً 9 دقائق و22 ثانية.. بينما مدة الفيديو المبتور لا تزيد عن الثلاث أو الأربع دقائق؟)
وعندما فرغت من كتابة مقالي وقبل أن أرفعه في بعض صحفنا الإليكترونية ، علمت أن الدكتور محمد ناجي الأصم قد تم اعتقاله من لدن جهاز أمن النظام الإسلاموي سيء السمعة. عندها عدت لأضيف في مقالي ما أعطيته صبغة الأسف لما حدث للدكتور الأصم رغم وصفي لما وقع له بأنه شهادة براءة له ولزملائه. والفقرة تقول: (أطرح هذا التساؤل وليس في خلدي ذرة من التشكيك في صدقية مناضلينا في إتحاد المهنيين وأجسام العمل الحزبي والحركات المسلحة ومنظمات المجتمع المدني التي وقعت على العريضة - وتحديداً الدكتور محمد ناجي الأصم - الذي بلغني وأنا أكتب هذا المقال أن جهاز أمن نظام البشير المترنح قد ألقى عليه القبض اليوم الخميس مع مناضلين آخرين، فك الله أسرهم. وكفى بها شهادة براءة له ولزملائه المناضلين الأحرار. لكن يظل تساؤلنا قائماً ومشروعاً. فالعمل العام لا يقبل المجاملات والتدليس : من أين جاء البتر الرقمي لأهم عبارة في بيانكم للأمة السودانية ؟ ولماذا لم تصدروا بيانا بهذا التشويه المعيب للفيديو الذي ظلت تتناقله الأسافير وترفعوا الرابط للفيديو الأصل حتى تضطلع عليه الجماهير ويحتفظ به النشطاء والمتابعون في أرشيف مكتباتهم الرقمية؟)
لست أدري ليت شعري ماذا يعيب مثل هذا التساؤل المشروع ونحن نعيش مرحلة دقيقة تقتضي منا جميعاً أن نرهف السمع وندقق النظر في كل شاردة وواردة. وأن نعين من يتصدوا لقيادة العمل العام بالنصح والتوجيه. فليس بيننا في حراك هذه الثورة الوطنية المباركة من هو فوق المساءلة والنقد. وتجمع المهنيين السودانيين الذي أجدني واقفاً معه في (الحارة والباردة) وهو يتصدى مع الشباب مفجر الثورة ومع قوى وطنية أخرى لقيادة قاطرة ثورتنا - التي لا نريد لها أن تتوقف دون بلوغ هدفها المنشود وهو الإطاحة بعمر البشير ونظامه دون شرط أو قيد – أقول إن تجمع المهنيين الذي أكن له كل محبة ليس فوق النقد والمساءلة.
صحيح أنني أختلف مع الدكتور عشاري احمد محمود خليل في قسوة الإنتقاد للدرجة التي وصل عندها في آخر مقالاته حد التخوين. لكني لا أجد مبرراً للإشارة لعشاري وكأنه في الطرف الآخر ضد الشعب لمجرد أنه لفت الإنتباه لمسألة قد تبدو الإجابة عليها في حينها ولما تزل ضرورية. وكلنا - ومولانا إسماعيل التاج الذي أعرف بلاءه مثل آخرين كثر في القضاءين الجالس والواقف، وأعرف كم دفعوا من معاناة جراء مواقفهم الشجاعة من أجل هذا الوطن- لا أظنهم يجحدون الآخرين مواقفهم الوطنية الأصيلة والتي دفعوا مقابلها كثيرا من المعاناة والغبن والتشرد في بلاد الله الواسعة ومنهم الأكاديمي والناشط الحقوقي الدكتور عشاري احمد خليل محمود.
أختم بأن الإنتقاد والتوجيه سمة مطلوبة في العمل العام. لكن ميقات الحدة في النقد لأن تصل الكتابة لنفي الآخر الذي هو معنا في ذات القاطرة ودماء شهدائنا لما تجف بعد- أقول إن ميقات هذا النوع من التناصح والإنتقاد لم يحن بعد. وكاتب هذه السطور سيلتزم الصمت من بعد في القضية مثار النقاش في اللحظة الراهنة لاعتقاده أن لكل مقام مقال.
تحية من القلب للأخ المناضل محمد ناجي الأصم ورفاقه الذين ما يزالون رهن الحبس من أجل قضية الوطن التي لا نختلف كلنا – نحن أعداء هذا النظام الفاشي- في مثقال ذرة حول جوهرها. وتحية حب ومودة لصديقي القاضي الخلوق مولانا اسماعيل التاج مصطفى.. ويا مولانا ويا عشاري ويا كل الأحرا ، دعونا بدلا من الصراخ في وجه بعضنا البعض أن نضم صوتنا لصوت الشارع ، للعيال والبنات الذين سد هتافهم الشجاع قرن الشمس ، ونردد معهم بالصوت العالي: (تسقط بس!!)