دلق الهوية على النار
عمر العمر
29 June, 2024
29 June, 2024
دلق الهوية على النار
بقلم عمر العمر
أسفهٌ، أم سرفٌ سعيُ البعضِ تحويلَ إجراءٍ اداري بين مدير للتلفزيون ومذيعة إلى قضية رأي عام؟!.فكأنما سعار هذه الحرائق في جنبات الوطن لم تلسع بعد عقليتنا المتخمة بالفاقة.فمن أين لذاك التباين بين المدير المذيعة كل الخطورة أو الحيوية حتى يقتحم وقتنا المعبأ بالهم على حال شعب مشرد مثقل بالأوجاع وبالإنشعال على مصير الوطن؟من أين لهؤلاء البعض كل هذا الترف الفكري حتى يصوروا ذاك الإجراء الإداري خرقا أخرق في مسألة الهوية ! فالهوية الوطنية بين أكثر المصطلحات تجريدا وتقاطعا مع مصطلحات مغايرة يندرج ضمنها الوعي بالذات والانتماء.لعل أؤلئك يجدون في مسألة الهوية حطبا يلقونه في نار الحرب الملعون المجنون.فثمة من يحاجج بأنها حرب هوية
*****
ربما من منطلق الاستعداء تجاه الرجل - المدير -أو بوازع الاصطفاف إلى جانب المرأة -المذيعة-ذهب حملة الحطب عمدا إلى استثارة الرأي العام دونما استيضاح ما إذا كان محور القضية مخاطبة المذيعة المشاهدين برطانتها أم ظهورها في ثياب القبيلة. موقف المدير تجاه المذيعة في الحالتين نابع من سلطته المخولة له.إذا التبس عليه الأمر فقد اغترف خطأ اداريا قد يستأهل النقد . لكنه لم يرتكب حتما خطيئة وطنية تستوجب الرجم.فالمذنب من يلبّس الخطأ الإداري وصمة الجريمة في حق المجتمع بغية صب الزيت على نار يجاهد العقلاء والجهلاء لإخماد لهبها. فالحديث عن الهوية الوطنية إبان الاحتراب الأهلي يجافي منطق السياسة إذ لا شيء يعلو وقتئذٍ على الكلام عن السلام.فالحرب ليست بيئة تكريس الهوية الوطنية.
*****
مع غياب تعريف جامع موحد لمصطلح الهوية الوطنية يستعصي عزل السلم الاجتماعي عن مقومات المصطلح.هذا المفهوم يشكل محورا أساسيا في الانتماء للوطن كما القيم المتقاسمة،الأخلاقيات المشتركة والخصائص المميزة لأمة أو شعوب داخل رقعة الوطن.لكن الهوية الوطنية في مضمونها لا تتخذ سمة الثبات فهي رهينةإيقاع التقدم السياسي و الاقتصادي والوعي الثقافي على نحو ما يكرس الشعور بالزهو والانتماء حد الاستعداد للذود عن كل ما يمس تلك الهوية كما رقعة الوطن. صحيح تساهم اللغة والدين كما العادات والتقاليد في نسج قماشة الهوية الوطنية.لكن بعضا منها-على الأقل-قد تلعب أدوارا في تمزيق تلك القماشة، خاصة إذ اصطبغت بالقبيلة أو الطائفة.
*****
بالطبع تطلع منابر الإعلام الوطنية بدور حيوي في تثبيت وبث الوعي بالهوية.لكن تأطير ذلك الجهد يتطلب في حد ذاته وعياً عميقا و خيالاً خصباً. فإبراز الخصائص المشتركة أكثر جدوى من إظهار الفوارق على درب بناء مجتمع أكثر تناغما. من المهم في الوقت ذاته عرض الخصائص المميزة لمكونات المجتمع ذات السمات الاثنية، الطائفية أو الجهوية .غير أن هذه مهام تتطلب برامج تترسم مناهج تربوية تعليمية دونما تركها للممارسات الفردية في لحظات متناثرة. بما أ ن اللغة أداة وسائل الإعلام كما هي صحن الثقافة المشتركة والنضال المجدول في التاريخ تصبح هي عصب أساسي في شد قماشة الهوية.لنا تجربة ثرية في هذا المضمار عندما ضمّنا في الستينيات الأخيرةالمناهج في الجنوب اللغة العربية. إذ تقارب الجنوب والشمال .حتى قبل الانفصال وبعده صار (عربي جوبا)اداة التفاعل والملاط بين فسيفساء القبائل الجنوبية.
*****
اللغة تكتسب أهمية أعلى في زمن العولمة حيث امست مصدا لمهددات الهوية عابرة الحدود عبر وسائط متعددة .جاك لانغ و زير الثقافة الفرنسي خاض مطلع ثمانينيات القرن الفائت حرب هوية ضروسا ضد أميركا في ميدان الفن السابع دفاعا عن ثقافة بلده وإنتاجه . من غير المتاح ترسيخ مفهوم الهوية الوطنية في ظل نظام مستبد لا يعترف بالمكونات الاجتماعية لشعبه. كما لا يعني استهداف صهر تباينات تلك المكونات قسرا. فهذا الاعتراف ينبغي تأطيره وفق عقد اجتماعي يستهدف خلق فرص التناغم بين تلك المكونات والحرص على إغلاق مساحات التنافس بينها على نحو يفضي إلى التشرذم . في مثل هذه الظروف يصبح وهن الهوية الوطنية أكثر قابلية من تعزيزها.
*****
مدونات أخلاقيات المهن تشكل كتيبا مهما في منظومة ذلك العقد الاجتماعي. انتاج هذه المدونة تؤشر إلى إحدى سمات الإدارات الإعلامية الناجحة.فجميع المؤسسات الإعلامية المرموقة تلزم كوادرها بمدونات توحّد وترقي أداءها ، مظهرها وسلوكياتها. غياب مثل هذه المدونة في التلفزيون القومي تقصير مهني يدين المدير.لكن هذا القصور لا يمنطق الممارسات الفردية خروجا عن العرف السائد أو جنوحا لجهة ما يشرخ المزاج العام. ثمة محطات تلفزة عربية تفرض زيا غير وطني بغية كسب قطاع اوسع من المشاهدين فتأثير أعمق. فالزي ليس المعيار الحاسم في تكريس الهوية. المعيار الأفضل جعل الهوية إحدى سمات التطور الحضاري اكثر من إبقائها حبيسة داخل نافذة التراث الموروث فقط.
*****
الحكم الثنائي ساهم في تأخير الشعور بالهوية الوطنية لدى السودانيين.فاتفاقية ١٨٩٩ اهتمت بتعريف الإقليم متجاهلة شعبه.فحتى العام ١٩٢٣ظلت مسألة إصدار جنسية سودانية(هوية قانونية)محط شك(ومصدر لغط محتمل)تلك السياسة عززت العصبية القبلية .مؤتمر الخريجين طالب في مذكرته الشهيرة المرفوضة في العام ١٩٤٢ بتشريع للجنسية .حينما مالت وزارة الخارجية البريطانية للتجاوب مع نداءات الخريجين رأت مصر في ذلك مؤامرة لفصل السودان .لذلك لم يصدر قانون جنسية حتى ١٩٥٧،أي عقب الاستقلال.للأستاذ فيصل عبد الرحمن علي طه مقال ضاف يستعرض (الأصول التاريخية للجنسية السودانية). يستبين القارئ عبره توجهات السياسة الاستعمارية في تأجيل اصدار الهوية القانونية ثم تداعياتها على إضعاف الهوية الوطنية.
aloomar@gmail.com
بقلم عمر العمر
أسفهٌ، أم سرفٌ سعيُ البعضِ تحويلَ إجراءٍ اداري بين مدير للتلفزيون ومذيعة إلى قضية رأي عام؟!.فكأنما سعار هذه الحرائق في جنبات الوطن لم تلسع بعد عقليتنا المتخمة بالفاقة.فمن أين لذاك التباين بين المدير المذيعة كل الخطورة أو الحيوية حتى يقتحم وقتنا المعبأ بالهم على حال شعب مشرد مثقل بالأوجاع وبالإنشعال على مصير الوطن؟من أين لهؤلاء البعض كل هذا الترف الفكري حتى يصوروا ذاك الإجراء الإداري خرقا أخرق في مسألة الهوية ! فالهوية الوطنية بين أكثر المصطلحات تجريدا وتقاطعا مع مصطلحات مغايرة يندرج ضمنها الوعي بالذات والانتماء.لعل أؤلئك يجدون في مسألة الهوية حطبا يلقونه في نار الحرب الملعون المجنون.فثمة من يحاجج بأنها حرب هوية
*****
ربما من منطلق الاستعداء تجاه الرجل - المدير -أو بوازع الاصطفاف إلى جانب المرأة -المذيعة-ذهب حملة الحطب عمدا إلى استثارة الرأي العام دونما استيضاح ما إذا كان محور القضية مخاطبة المذيعة المشاهدين برطانتها أم ظهورها في ثياب القبيلة. موقف المدير تجاه المذيعة في الحالتين نابع من سلطته المخولة له.إذا التبس عليه الأمر فقد اغترف خطأ اداريا قد يستأهل النقد . لكنه لم يرتكب حتما خطيئة وطنية تستوجب الرجم.فالمذنب من يلبّس الخطأ الإداري وصمة الجريمة في حق المجتمع بغية صب الزيت على نار يجاهد العقلاء والجهلاء لإخماد لهبها. فالحديث عن الهوية الوطنية إبان الاحتراب الأهلي يجافي منطق السياسة إذ لا شيء يعلو وقتئذٍ على الكلام عن السلام.فالحرب ليست بيئة تكريس الهوية الوطنية.
*****
مع غياب تعريف جامع موحد لمصطلح الهوية الوطنية يستعصي عزل السلم الاجتماعي عن مقومات المصطلح.هذا المفهوم يشكل محورا أساسيا في الانتماء للوطن كما القيم المتقاسمة،الأخلاقيات المشتركة والخصائص المميزة لأمة أو شعوب داخل رقعة الوطن.لكن الهوية الوطنية في مضمونها لا تتخذ سمة الثبات فهي رهينةإيقاع التقدم السياسي و الاقتصادي والوعي الثقافي على نحو ما يكرس الشعور بالزهو والانتماء حد الاستعداد للذود عن كل ما يمس تلك الهوية كما رقعة الوطن. صحيح تساهم اللغة والدين كما العادات والتقاليد في نسج قماشة الهوية الوطنية.لكن بعضا منها-على الأقل-قد تلعب أدوارا في تمزيق تلك القماشة، خاصة إذ اصطبغت بالقبيلة أو الطائفة.
*****
بالطبع تطلع منابر الإعلام الوطنية بدور حيوي في تثبيت وبث الوعي بالهوية.لكن تأطير ذلك الجهد يتطلب في حد ذاته وعياً عميقا و خيالاً خصباً. فإبراز الخصائص المشتركة أكثر جدوى من إظهار الفوارق على درب بناء مجتمع أكثر تناغما. من المهم في الوقت ذاته عرض الخصائص المميزة لمكونات المجتمع ذات السمات الاثنية، الطائفية أو الجهوية .غير أن هذه مهام تتطلب برامج تترسم مناهج تربوية تعليمية دونما تركها للممارسات الفردية في لحظات متناثرة. بما أ ن اللغة أداة وسائل الإعلام كما هي صحن الثقافة المشتركة والنضال المجدول في التاريخ تصبح هي عصب أساسي في شد قماشة الهوية.لنا تجربة ثرية في هذا المضمار عندما ضمّنا في الستينيات الأخيرةالمناهج في الجنوب اللغة العربية. إذ تقارب الجنوب والشمال .حتى قبل الانفصال وبعده صار (عربي جوبا)اداة التفاعل والملاط بين فسيفساء القبائل الجنوبية.
*****
اللغة تكتسب أهمية أعلى في زمن العولمة حيث امست مصدا لمهددات الهوية عابرة الحدود عبر وسائط متعددة .جاك لانغ و زير الثقافة الفرنسي خاض مطلع ثمانينيات القرن الفائت حرب هوية ضروسا ضد أميركا في ميدان الفن السابع دفاعا عن ثقافة بلده وإنتاجه . من غير المتاح ترسيخ مفهوم الهوية الوطنية في ظل نظام مستبد لا يعترف بالمكونات الاجتماعية لشعبه. كما لا يعني استهداف صهر تباينات تلك المكونات قسرا. فهذا الاعتراف ينبغي تأطيره وفق عقد اجتماعي يستهدف خلق فرص التناغم بين تلك المكونات والحرص على إغلاق مساحات التنافس بينها على نحو يفضي إلى التشرذم . في مثل هذه الظروف يصبح وهن الهوية الوطنية أكثر قابلية من تعزيزها.
*****
مدونات أخلاقيات المهن تشكل كتيبا مهما في منظومة ذلك العقد الاجتماعي. انتاج هذه المدونة تؤشر إلى إحدى سمات الإدارات الإعلامية الناجحة.فجميع المؤسسات الإعلامية المرموقة تلزم كوادرها بمدونات توحّد وترقي أداءها ، مظهرها وسلوكياتها. غياب مثل هذه المدونة في التلفزيون القومي تقصير مهني يدين المدير.لكن هذا القصور لا يمنطق الممارسات الفردية خروجا عن العرف السائد أو جنوحا لجهة ما يشرخ المزاج العام. ثمة محطات تلفزة عربية تفرض زيا غير وطني بغية كسب قطاع اوسع من المشاهدين فتأثير أعمق. فالزي ليس المعيار الحاسم في تكريس الهوية. المعيار الأفضل جعل الهوية إحدى سمات التطور الحضاري اكثر من إبقائها حبيسة داخل نافذة التراث الموروث فقط.
*****
الحكم الثنائي ساهم في تأخير الشعور بالهوية الوطنية لدى السودانيين.فاتفاقية ١٨٩٩ اهتمت بتعريف الإقليم متجاهلة شعبه.فحتى العام ١٩٢٣ظلت مسألة إصدار جنسية سودانية(هوية قانونية)محط شك(ومصدر لغط محتمل)تلك السياسة عززت العصبية القبلية .مؤتمر الخريجين طالب في مذكرته الشهيرة المرفوضة في العام ١٩٤٢ بتشريع للجنسية .حينما مالت وزارة الخارجية البريطانية للتجاوب مع نداءات الخريجين رأت مصر في ذلك مؤامرة لفصل السودان .لذلك لم يصدر قانون جنسية حتى ١٩٥٧،أي عقب الاستقلال.للأستاذ فيصل عبد الرحمن علي طه مقال ضاف يستعرض (الأصول التاريخية للجنسية السودانية). يستبين القارئ عبره توجهات السياسة الاستعمارية في تأجيل اصدار الهوية القانونية ثم تداعياتها على إضعاف الهوية الوطنية.
aloomar@gmail.com