دمعة المناضلة حوا
شوقي بدري
19 November, 2021
19 November, 2021
بعد انتقالنا من رمبيك الحبيبة ثم سنجة عبد الله ، اتينا الى مسقط رأسنا امدرمان حيث عائلة ابتر اهل الوالدة وآل بدري اهل الوالد . ابراهيم بدري كان قد اعطى أمرا ببيع بيته الفاخر في شارع العرضة وهو في الجنوب لتمويل جريدة الرائد والحزب الجمهوري الاشتراكي . هيأ لنا الدكتور محمود حمد نصر طيب الله ثراه منزلا بالايجار يخص العم الياس دفع الله شقيق البروفسر النذير دفع الله مدير جامعة الخرطوم في الستينات . المنزل كان يواجه منزل الدكتور محمود حمد نصر والذي شاركنا قبلها السكن في رمبيك وتربطه مع ابراهيم بدري روعة الانتساب لجوهرة النيل الازرق رفاعة منارة العلم . ومع منزل الدكتور محمود من الجهة الشرقية خلف خلاف كان منزل الاستاذ والمربي الكبير محمد احمد عبد القادر والد الزينكو أو زين العابدين عضو مجلس قيادة الثورة .
الحي لم يكن قد اكتمل بعد ولم يكن هنالك متجرا واحدا . في مكان سوق الملازمين الحالي كانت هنالك اربعة مربعات ضخمة من حجارة البناء تمتد شرقا وغربا. كانت تسكنها القطط شبه المتوحشة والفيران. وبعض الثعابين التي قد تدخل المنازل . كان عندنا عدة خيارات لشراء ما نحتاجة . اقرب متجر كان متجر صديق بالقرب من منزل على الميرغني حيث يتجمع شباب الختمية وتقام الاذكار والحولية الخ . ليس بعيدا عن مدرسة بيت المال الشهيرة . بالقرب منه وعلي الشارع العريض الذي يأتي من المحطة الوسطى مارا بمنزل الازهري وينتهي في النيل كان هنالك كنتين يمني على عكس اليمنيين طويل القامة .وهذا الكنتين كان في منزل البرير .اذكر أن هذا اليمني كان في حالة ثورة وهياج لأن البعض قد خدعه واعطاه الجنيه المصري الجديد الذي كانت به بقعة كبيرة حمراء مثل الخمسة جنيهات عبى زعم أن الجنيه خمسة جنيهات . وتكررت الخدعة لآخرين واذكر أن الصحف قد تعرضت للمشكلة وتعاطفت مع اليمنيين الذين لم يتعرفوا على الجناة لأنهم لم يكونوا في كل الحالات من اهل الحي .
كنتين اليمني الآخر كنا نصله بعد عبور ميدان المدرسة الاهلية حيث تقام فيه الليالي السياسية ويضرب فيه مدفع رمضان . كان في ركن جامع الضرير الذي يواجه منزل الازهري وشقيقه على وبقية الاسرة . كان منزلا عاديا تميزه نخله طويلة وصالون يغطي الجزء المنخفض منه والذي كان بروزا في نهاية الصالونات له عرش من القرميد الاحمر كأحدث صرخة في المعمار خاصة منطقة ،، الصور ،، وما عرف فيما بعد بالملازمين افخر حي وقتها في امدرمان كنتين الرجل المهذب ابراهيم كان يلاصق منزل آل ،، ابو جبل ،، ويواجه قصر الشريفة من ،، أل الميرعني ،، من الغرب . ابراهيم ترك الكنتين وصار ملكا لاحد اليمنيين الذي وجد مذبوحا ، وسمعنا انه كان مطلوبا في قضية ثأر وظفر به مطاردوه في السودان .
على بعد خطوات من دكان ابراهيم في اتجاه الشمال كان كنتين الاخ اللطيف المثقف عوض شمشوم . آل شمشوم كانوا من تجار رمبيك الحبيبة .الدكان جزء من منزل آل نقد ، منهم الخال الاداري الكبير الدرديري نقد وشقيقه حكيمباشا امدرمان الدكتور عبد العزيز نقد الذي اشتهر بالظبط وألربط في المستشفى . الرحمة للجميع . علي بعد عشرات الامتار كانت مجموعة دكاكين الطاهر خال العيال الذي طغى اسمه على اسم فريق السيد المحجوب من المراغنة . في المجموعة دكان العم عمر الغسال الذي تمتد حبال غسيله لعشرات الامتار بمحازاة الحائط الغربي ودكان الشايقي ودكانين آخرين . وفي ركن حوش جدنا الحاج حمد كانت طاحونة بيت المال العملاقة وامامها سوق صغير لبيع النبق الفول التبش العجور العنكوليب قصب السكر البامبي الرطب والتمر العيشريف حسب الموسم ، حبال الصوف لريط الغنم لانها حنينة ولا تجرح الاغنام.
عندما بدأ بناء سوق الملازمين كنا في حالة فرح شديد . بدأ العمل في القسم الغربي اولا . وظهرت الخالة ،، حوا ،، وهى ترتدي توب الزراق الذي كان لبس اغلب السودانيات . وكانت تأتي في حوالى الساعة التاسعة صباحا وهى تحمل قفتين . قفة على راسها وقفة في يدها اليمني ، كانت نحيلة الجسم الا انها قويا تحمل حملها الثقيل ببساطة . كانت تأتي بالفطور للبنائين والنجارين وكل من يعمل في تشييد السوق . كانت لها حلة كبيرة للفول واحرى للطعمية وثالثة صغيرة للمش . كثيرا ما كانت تجادل الطماعين الذين يريدون زيادة المش بدون الدفع .
كنا نعرفها من قبل . فمنزلها في نفس الشارع الذي ياتي من المحطة الوسطى متخطيا منزل الازهري، بالقرب من منزل احمد داؤود اكبر مشاهير امدرمان والذي كان شريكا لعميد كلية الصيدلة ابراهيم قاسم مخير في اول اجزخانة في امدرمان في الركن الجنوبي الغربي للجامع الكبير .
ومنزل آل كاشف ومنهم الدكتورة حاجة كاشف بدري والدة وزير الصحة اكرم الذي جنينا عليه وعلى نفسنا كالعادة ، وكابتن قرعم ، والاديب وصاحب مكتبة الثقافة العم عثمان بدري وهم اهل الشاعر الملحن والفنان خليل فرح الذي لا يحتاج لتقديم .
منزل حواء كان يفتح جنوبا وتتواجد الحنفية على شرق الباب . كنت اذهب اليها لشراء الطعمية . وكثيرا عندما آكل طعمية او فلافل اتذكرها وطعمية الخالة مستورة في العباسة تحت . كان لها طعما مميزأ جدا . ليس بعيدا من منزلها وعند امية النور بالقرب منزل آل الزيات التجار ومنهم اول فصلنا محمد وشقيقه احمد كان منزل سيدة لا اذكر اسمها اشتهرت باللقيمات .
بعد سنتين من المواظبة على الحضور يوميا كانت الخالة حوا تأتي بالفطور الى العاملين في البناء . ولم يكن لها منافس ولم يكن هنالك دكانا بالقرب من مكان البناء . أظن ان هذا يعرف بالاحتكار وربما الامبريالية ولهذا ثارت االبروليتاريا . وفي احد الايام كان البناؤون في حالة مظاهرة وبعضهم على سقف المبنى , وهم يهتفون بتشفي .... يا حوا الدكان فتحوا....ويا حوة الدكان فتحو .
كقائد مهزوم وبدون أن تفقد كرامتها ردت عليهم بكبريا وما يفتحوا..... ابواب الرزق فاتحة . والله ما شق حنكن ضيعوا ... واشياء كثير . كنت انظر بكراهية للرجال الكبار الذين فرحوا لحرمان امرأة اطعمتهم لمدة سنتين .
استدارت الخالة حوا وكنت على يمينها . ورأيت دمعة وحيدة من عينها اليمنى . الا انها كانت مرفوعة الرأس . بدأت بالسير عائدة الى منزلها على الطريق بين منزل آل بتي الذين اشتهروا بجبر الكسور الفكك الانزلاق الخ ، واخيرا اشتهرت بت بتي في هذه االمهنة ، ومنزل زميل الدراسة مزمل المغربي . لا اعرف لمذا واصلت السير بجانبها . وعندما وصلنا الى الركن الجنوبي الشرقي لمدرسة فاطمة طالب للبنات توقفت وكأنها تقول لى انها نهاية الرحلة او لتريح قبضتها اليمنى . عدت راجعا الي منزلنا . وامتلأت عيني بالدمع في الطريق .
لم اقابل الخالة حوا بعدها ولم اسمع عنها . من المؤكد انها ترقد اليوم في سلام في البكري او احمد شرفي ـــ وهذا ما نحلم به ـــ طيب الله ثراها ؟ استمر دوران الحياة . الدكان الذي فتح ابوابه اولا كان دكان اليمني الطاهر . ثم دكان الخضار والجزار والريس العجلاتي الذي عمل معه شاويش ثم زرقان شقيق العجلاتي خلف الله ابكرنك في سوق الموية وقد صارا من اصدقائي فيما بعد . العم حسين الذي كان يشارك العم نورين في مصنع الحرية لليمونادة كان له دكان اداره ابنه حيدر الذي لم يزد عمره عن 14 سنة . اذكر انه كتب على ساقة اليمنى بماء النار اسمه بحروف كبيرة . واراد البعض منهم عبد الحليم محاكاته بالموس وفشلوا . ولم نعرف السر الا بعد أن كبرنا وقد استخدم البعض ال ،، سلفيوريك اسيد ،، من معمل الكيمياء على اجسادهم .
بعد اكتمال الجزء الشرقي اتى الرجل العظيم سليمان الكسلاوي الذي كان رائعا في تعامله مع الجميع لا يتضايق من تواجدنا امام دكانه . ومعه اتى اقرباءه عبد الحليم وعبد الوهاب حريقة . كان عبد الحليم يكبرني قليلا وعبد الوهاب في عمري . الاثنان كانا جيدين في لعب الكرة والمؤانسة تحت اللمبة في الليل. عبد الحليم وعبد الوهاب كانا يمثلان المبارزة بالعصي كما يحدث في الشرق ويشدان الجميع بحكاياتهما عن القاش مما حببنا كثيرا لكسلا وكنت دائما احلم بالسفر اليها وعندما زرت كسلا كنت احس انني اعرفها جيدا من قصص عبد الحليم وعبد والوهاب لهما كل الشكر كانا خير الصحاب . اتى والدهما مره واحدة لزيارة امدرمان . كان يجلس امام الدكان ونستمع اليه وهو يحكي عن جبال كسلا وحى الختمية وغرب القاش والسواقي اذ كانت له ساقية في كسلا ..
لأن اهل الحي كانوا من الميسورين فقد ظهر عبد المجيد الغسال الذي كان بستخدم غسالة كهربائية . ويقوم بعصر الملابس بأسطوانتين مع المطاك لهما مقبض ضخم لعملية اللف والعصر للتخلص من المار في الملابس . كنا ننظر اليه وهو يعمل وكأنه ساحر . دكانه كان في الجزء الغربي الا و بابه يفتح شمالا.
دمعة الخالة حوا البتيمة لا تزال تسبب لي عواصف من الالم والشعور بظلم الدنيا وبعض البشر . اليوم عندما اشاهد دموع الامهات الجارية و ،، السكلي ،، لا اصدق أن كل هذا الظلم القسوة والبطش كان يمكن أن يحدث في السودان .
هل يعاقبنا الله لاننا نرسل اولادنا بالاجر المدفوع لقتل الناس في اليمن . لماذا لم ننتفض ولماذا يقف العالم بغير اهتمام . ان ما يقوم به الجنجويد اليوم في السودان هو امتداد لما تعلموه في اليمن . ولقد قال المسخ جبريل لمن خطب فيهم انهم سيحكمون السودان !! واليوم عرفنا انهم قد فوجوا وجبات جديدة من السفاحين للحرب في اليمن لماذا لا تتدخل الامم المتحدة امريكا بريطانيا لايقاف ارسال مرتزقة للحرب بالاجر المدفوع ؟ هذا يتعارض مع القانون الدولي .
شوقي
shawgibadri@hotmail.com