ديمقراطية الأقدام: كيف أثبت السودانيون تعاقدهم الاجتماعي أثناء الحرب؟
مأمون التلب
9 May, 2023
9 May, 2023
مامون التلب
نجلاء عثمان التوم
محمود المعتصم
أصرَّت الدولة السودانية الحديثة على التبرُّج أمام شعبها، تُلِوِّنُ شفائها حمراء بدمائهم، وبلا خجل، حتى والناس على مشارف عيدٍ مُقدَّس. إذ تفجَّرت في داخلها أسباب العنف التاريخي القديمة، وهذه المرة في قلب الخرطوم.
المدينة التي هي، على علاتها، مكانٌ استأمنه المجتمع السوداني وجعلوه كالاسثناء في بلدٍ مشى الموت بين أغلب جنباته ومنذ وقت طويل. ولم يكن ذلك غريباً على الدولة السودانية الحديثة. رغم أنه مستغرب. إذ لم يتمكن السودانيون، إلى يوم الناس هذا، من استعادة الحكم في أرضهم. وعاشوا، بالتالي، في جمهوريات شُموليَّة تتميز بأشياء عدة، ليس من ضمنها الذكاء ولا الرشد. وأنتجت في نهاية الأمر شيئاً كـ"الدعم السريع". القنبلة الموقوتة. وقد انفجرت.
سمعنا آراء الناس أثناء اعتصام القيادة العامّة، تحديداً من جلسوا، كتفاً بكتف، إلى جانب الجيش والدعم السريع في جروف النيل، حيث كانت "كولومبيا"، وقالوا: على الحرب أن تبدأ الآن، لا أن تُؤجَّل إلى حينٍ لن نعرف فيه إلى أين نذهب.
إلى أين نذهب؟ هو سؤالٌ يؤرّق كل النازحين واللاجئين اليوم. ولن يتوقّف هذا السؤال عن الإلحاح: أين نجدُ مستقبلاً؟ كيف سنعيش؟ ما الذي يحدث لبيوتنا وأملاكنا؟ نحن الأغلبية المُدمَّرة؟.
في هذا الإطار ذهبت النخبة تحدق في عمود إنارتها، وهو "الدولة" في المجاز التهكّمي لعبد الله علي إبراهيم، وهو "يطفي ويولع"، وهي تُردِّد متفرجة: أوب طفا، أوب ولع". ففي منتصف المعركة انشغلت النخبة بأسئلتها: من أشعل الحرب؟ من المسؤول؟ في صف من نقف؟ وهو أسلوب في الركاكة النظرية والعملية تعوَّدنا عليه منها. وانصرف بعضها إلى الغرب يطلب عنده شيئاً ما: ممرات آمنة، حظر طيران، بند سابع. وهكذا. وذلك ليس مستغرباً كذلك فقد كان الشعب السوداني في نظرهم، مفعولاً به، على الدوام.
على الأرض، في المقابل، استقبل شعب الله الصابر أنباء الحرب بجَلَد ورُشد لم يرتقِ التحليل السياسي ولا الثقافة عندنا لفهمه بعد. ومشى الناس يلملمون، كالعادة، أطراف مشروعهم الوطني كحقيقة معاشة، خاصة في أوقات الأزمات فيما أسماه اليكسيس دي توكفيل بـ"عادات العقل العام" التي هي، بنظره، الدستور الاجتماعي غير المكتوب. والذي هو بالتالي حاكم في وجدان الخلق نافذ إلى نظامهم السياسي لا محالة. وبإذن الله.
بينما تسود بين النخبة الغردونية آفة الصراع كمُحدِّد أعلى. ولا نعني الصراع الاجتماعي بأسبابه ووسائله، وذلك مشروع، بل هو من الاختلاف الرحمة، بل الصراع كهدفٍ في ذاته. الصراع كوسيلة لتعريف الواحد منهم بنفسه. المعنى العام لحياته. فلا تجد عند النخبة إلا المشروع "الضد". المشروع معرفاً بأنه عكس إرادة الآخر. مما يفضي في النهاية لنوع من السياسة مبنيٌّ على الغضب -في تعبير دي وال- لا الحلم أو الرغبة في الخير.
في المقابل فإن المجتمع السوداني المفجوع في نخبته، يمارس في مؤسساته القاعدية، أبتداءاً، من العادات البسيطة كالعزاء، مروراً بمؤسساته الاجتماعية كالسوق والجامعة والحي، ونهاية بتعامله مع أزمات الحرب، يمارس فيها أنواعاً من الديمقراطية هي في نظرنا تعاقد اجتماعي رصين، حقٌّ لنا لا أن نفخر به فقط بل أن نرفعه كحجة سياسية.
تاريخ السودان منذ استقلاله هو تاريخ نخبة اختارت أن تكون يتيمة، و شعب يختبر نخبته في الملمات واللحظات الحاسمة، فيراها تتقاعس عن الحقيقة متى تكشفت لها، و تعتزل المجتمع متى خاطبها. يقول السودانيون القلم ما بزيل بلم، وهو وصف صاغه مجتمع دخله اليأس من الحديث مع صفوة غير راغبة في الجلوس إلى ناسها والاستئناس برأيهم لعلهم يفلحون. والبلم في اللغة هو السكوت لكن ليس بلا تقييد، بل هو سكوت من سعيت إلى محاورته يدير وجهه و يزور عنك، وهو حال النخبة السودانية ما بهتها المثل ولا القريحة التي جادت به. فقد تكلم الشعب السوداني بلا لبس مفصحا عن تعاقده الاجتماعي وعلى ماذا يقوم، وعن طموحه السياسي ومبلغه الديمقراطية، وعن تمسكه بالوحدة. وهذه الصراحة من أصل كلمتهم، لأنها بدأت حادة شديدة البأس وبحد السيف في مقاومة الغزاة في الثورة المهدية، و في ثورة 1924، وفي ثورات ضد ورثة الغزاة في 1964، 1985، 2018. انزل السودانيون كلامهم حول قيمهم العليا منزل الصدق، وساروه بأقدامهم، خفافا وثقالا. كل ما يمكن فعله هو تتبع أثر هذه الرسائل الصارمة والمتماسكة و التعامل معها بالاحترام الواجب.
في مدينة مدني، بينما كان الناس يفترشون الأرض، رأينا مجموعات هائلة من الشابات والشباب يُدركونهم، يحملونهم على الأكتاف – كبار السن- إلى البيوت وفتحوا المدارس الخاوية ونظفوا لهم الحمامات. في كوستي والقضارف استقبلوهم ومسحوا دموعهم. وفي جنوب السودان، على معابر الحدود، كانت الدولة الوحيدة التي لم تطالب بتأشيرة دخول. قيل لشهود عيان: "نحن نرتقي للوضع الإنساني، إذهبوا فأنتم الطلقاء، كونوا أُناساً ومن بعد يمكنكم أن تُكملوا إجراءات التأشيرة"، بلا صفوف ولا انتظار، ومن ثمّ، في مدينة "الرنك" لم تتوقّف المبادرات الشبابيّة من استقبال الناس وإيوائهم، البحث عن كل السبل لإجلائهم، وهو، كذلك، شعبٌ سودانيّ، وقد قالوا لكل الناس: نرجوكم، أنتم لستم لاجئين، بل نازحين من سودانٍ لسودانٍ آخر.
تحدثنا لشهود حول المشكلة الأكثر أسفاً، وهم الجنوب سودانيون الذين نزحوا إلى الشمال هرباً من الحرب، وهم يمشون، بأقدامهم، من حربٍ إلى حرب.
بالنسبة للشعب في قواعده فإن "عادات العقل العام" تقول عملياً بمعاني التكافل غير مشروط. التكافل مُعرَّفاً بمساحته الوطنية العامة. فتجد مثلاً أن المجتمعات السودانية في الغربة استغلت وضعها الآمن، في وقتٍ عزَّ الأمن على أخوتهم، في جمع التبرعات وصرفها بلا تفريق في مواطن الصرف. على سبيل المثال، قام تجمع الأطباء السودانيين في الولايات المتحدة بجمع مبلغ وصل إلى نصف مليون دولار، وبَعَثَها مرسلة لتشغيل بعض المستشفيات في الخرطوم والجزيرة ونيالا. أموال وطنية مرسلة لعنوان عامّ، لا تعريف له، لا بالقبيلة ولا المنطقة. اللهم إلا النفير تحت راية المشروع الوطني على الأرض. وتجمع الأطباء السودانيين هو مؤسسة ديمقراطية اجتمع فيها نفر من مختلف الخلفيات؛ سودانيون لا يمنعهم الاختلاف عن التعاون والعمل المشترك. وفي بلدهم قامت مؤخراً نقابة أطباء ديمقراطية كذلك هي بدورها تقوم بأدوارها كمؤسسة حديثة. ونقول حديثة بالجد. فالحداثة والتأسيس القاعدي على المبدأ الديمقراطي لا ينفصلان.
السودانيون في فداسي الحليماب مثلاً، فتحوا بيوتهم للخارجين من الخرطوم يرفضون أن يقودهم ضنك الحرب ولو إلى مدني القريبة دي. وأخوتهم في كريمة من الشعب السوداني الذي هو، عند النخبة، يعاني من الجهل والفقر والمرض، أقاموا الصواوين والخيام مرحبين بأهلهم كذلك، ونسمع عن حلفا الجديدة، وغيرها. وهذا في رأينا ترحاب يرتقي لأن يكون بمثابة الدستور غير المكتوب.
أنت ترى مثلاً أن استجابات السودانيين المتنوعة، إن كان في شكل مبادرة "سودان أبديت" التي تقوم بتوفير المعلومات جماعياً عن الطرق الأمنة، أو مبادرات شبيهة في "سودان أيد"، أو مبادرات الأطباء لتشغيل مراكز الكلى، أو مبادرات الصيادلة لتعريف الناس بالصيدليات المتاحة، أو مبادرة شباب المعمورة لتشغيل المستشفيات، أو مبادرات الأطباء لتوفير المعلومة الصحية بالتلفون وغيرها كثير جداً. تلاحظ أن هذه الاستجابة تأتي تلقائية بلا تردد، وبمقدار غير قليل من الاستعداد للتضحية عوناً للآخر. "الآخر" الذي يُرسّخ في العقل القاعدي عندنا أنه أهل للعون والتعاون بغض النظر. فإن كانت الحرب تقوم على الناس بغير إرادتهم، بل ووسط استنكارهم، إلا أنهم يقدرون، جماعياً، على مواجهة تبعاتها بلا جزع. والشعب المُتَسَلِّح بعقائد قديمة في الثورة، والنضال من أجل الحرية، والمشروع الوطني، كالشعب السوداني. هو في سعة من أمره رغم كل شيء.
وللشعب السوداني كذلك حكاوي، أي مرتكزات ثقافية تأتي في شكل قصص. قصص تُعَبِّر، حسب الجيل والزمن، عن معارف اكتسبها السودانيون في القاعدة عبر سعي أقدامهم. فوجدت أحدهم يذكر مرة أن أفضل رد فعل على الحرب هو مقولة الشهيد وليد: "إنتوا اشتغلوا شغلكم ونحن بنشتغل شغلنا". وتلك لعمري تربية بالغة الرصانة.
و"بالبتجي من السما بتتحملها الواطة". لا يزال السودانيون يمشون نحو بعضهم بأقدامهم، وتتوثَّق بينهم العرى على تعاقد اجتماعي تاريخي سيأتي لا محالة.
وأما عن الحرب وخسائرنا فيها فلا نقول إلا الحمد لله رب العالمين. وأن قادة هذه الحرب لا يشبهون السودانيين، وليس، من الممكن، بل المستحيل، أن يكونوا منهم.
mahmoud.elmutasim@gmail.com
/////////////////////////
نجلاء عثمان التوم
محمود المعتصم
أصرَّت الدولة السودانية الحديثة على التبرُّج أمام شعبها، تُلِوِّنُ شفائها حمراء بدمائهم، وبلا خجل، حتى والناس على مشارف عيدٍ مُقدَّس. إذ تفجَّرت في داخلها أسباب العنف التاريخي القديمة، وهذه المرة في قلب الخرطوم.
المدينة التي هي، على علاتها، مكانٌ استأمنه المجتمع السوداني وجعلوه كالاسثناء في بلدٍ مشى الموت بين أغلب جنباته ومنذ وقت طويل. ولم يكن ذلك غريباً على الدولة السودانية الحديثة. رغم أنه مستغرب. إذ لم يتمكن السودانيون، إلى يوم الناس هذا، من استعادة الحكم في أرضهم. وعاشوا، بالتالي، في جمهوريات شُموليَّة تتميز بأشياء عدة، ليس من ضمنها الذكاء ولا الرشد. وأنتجت في نهاية الأمر شيئاً كـ"الدعم السريع". القنبلة الموقوتة. وقد انفجرت.
سمعنا آراء الناس أثناء اعتصام القيادة العامّة، تحديداً من جلسوا، كتفاً بكتف، إلى جانب الجيش والدعم السريع في جروف النيل، حيث كانت "كولومبيا"، وقالوا: على الحرب أن تبدأ الآن، لا أن تُؤجَّل إلى حينٍ لن نعرف فيه إلى أين نذهب.
إلى أين نذهب؟ هو سؤالٌ يؤرّق كل النازحين واللاجئين اليوم. ولن يتوقّف هذا السؤال عن الإلحاح: أين نجدُ مستقبلاً؟ كيف سنعيش؟ ما الذي يحدث لبيوتنا وأملاكنا؟ نحن الأغلبية المُدمَّرة؟.
في هذا الإطار ذهبت النخبة تحدق في عمود إنارتها، وهو "الدولة" في المجاز التهكّمي لعبد الله علي إبراهيم، وهو "يطفي ويولع"، وهي تُردِّد متفرجة: أوب طفا، أوب ولع". ففي منتصف المعركة انشغلت النخبة بأسئلتها: من أشعل الحرب؟ من المسؤول؟ في صف من نقف؟ وهو أسلوب في الركاكة النظرية والعملية تعوَّدنا عليه منها. وانصرف بعضها إلى الغرب يطلب عنده شيئاً ما: ممرات آمنة، حظر طيران، بند سابع. وهكذا. وذلك ليس مستغرباً كذلك فقد كان الشعب السوداني في نظرهم، مفعولاً به، على الدوام.
على الأرض، في المقابل، استقبل شعب الله الصابر أنباء الحرب بجَلَد ورُشد لم يرتقِ التحليل السياسي ولا الثقافة عندنا لفهمه بعد. ومشى الناس يلملمون، كالعادة، أطراف مشروعهم الوطني كحقيقة معاشة، خاصة في أوقات الأزمات فيما أسماه اليكسيس دي توكفيل بـ"عادات العقل العام" التي هي، بنظره، الدستور الاجتماعي غير المكتوب. والذي هو بالتالي حاكم في وجدان الخلق نافذ إلى نظامهم السياسي لا محالة. وبإذن الله.
بينما تسود بين النخبة الغردونية آفة الصراع كمُحدِّد أعلى. ولا نعني الصراع الاجتماعي بأسبابه ووسائله، وذلك مشروع، بل هو من الاختلاف الرحمة، بل الصراع كهدفٍ في ذاته. الصراع كوسيلة لتعريف الواحد منهم بنفسه. المعنى العام لحياته. فلا تجد عند النخبة إلا المشروع "الضد". المشروع معرفاً بأنه عكس إرادة الآخر. مما يفضي في النهاية لنوع من السياسة مبنيٌّ على الغضب -في تعبير دي وال- لا الحلم أو الرغبة في الخير.
في المقابل فإن المجتمع السوداني المفجوع في نخبته، يمارس في مؤسساته القاعدية، أبتداءاً، من العادات البسيطة كالعزاء، مروراً بمؤسساته الاجتماعية كالسوق والجامعة والحي، ونهاية بتعامله مع أزمات الحرب، يمارس فيها أنواعاً من الديمقراطية هي في نظرنا تعاقد اجتماعي رصين، حقٌّ لنا لا أن نفخر به فقط بل أن نرفعه كحجة سياسية.
تاريخ السودان منذ استقلاله هو تاريخ نخبة اختارت أن تكون يتيمة، و شعب يختبر نخبته في الملمات واللحظات الحاسمة، فيراها تتقاعس عن الحقيقة متى تكشفت لها، و تعتزل المجتمع متى خاطبها. يقول السودانيون القلم ما بزيل بلم، وهو وصف صاغه مجتمع دخله اليأس من الحديث مع صفوة غير راغبة في الجلوس إلى ناسها والاستئناس برأيهم لعلهم يفلحون. والبلم في اللغة هو السكوت لكن ليس بلا تقييد، بل هو سكوت من سعيت إلى محاورته يدير وجهه و يزور عنك، وهو حال النخبة السودانية ما بهتها المثل ولا القريحة التي جادت به. فقد تكلم الشعب السوداني بلا لبس مفصحا عن تعاقده الاجتماعي وعلى ماذا يقوم، وعن طموحه السياسي ومبلغه الديمقراطية، وعن تمسكه بالوحدة. وهذه الصراحة من أصل كلمتهم، لأنها بدأت حادة شديدة البأس وبحد السيف في مقاومة الغزاة في الثورة المهدية، و في ثورة 1924، وفي ثورات ضد ورثة الغزاة في 1964، 1985، 2018. انزل السودانيون كلامهم حول قيمهم العليا منزل الصدق، وساروه بأقدامهم، خفافا وثقالا. كل ما يمكن فعله هو تتبع أثر هذه الرسائل الصارمة والمتماسكة و التعامل معها بالاحترام الواجب.
في مدينة مدني، بينما كان الناس يفترشون الأرض، رأينا مجموعات هائلة من الشابات والشباب يُدركونهم، يحملونهم على الأكتاف – كبار السن- إلى البيوت وفتحوا المدارس الخاوية ونظفوا لهم الحمامات. في كوستي والقضارف استقبلوهم ومسحوا دموعهم. وفي جنوب السودان، على معابر الحدود، كانت الدولة الوحيدة التي لم تطالب بتأشيرة دخول. قيل لشهود عيان: "نحن نرتقي للوضع الإنساني، إذهبوا فأنتم الطلقاء، كونوا أُناساً ومن بعد يمكنكم أن تُكملوا إجراءات التأشيرة"، بلا صفوف ولا انتظار، ومن ثمّ، في مدينة "الرنك" لم تتوقّف المبادرات الشبابيّة من استقبال الناس وإيوائهم، البحث عن كل السبل لإجلائهم، وهو، كذلك، شعبٌ سودانيّ، وقد قالوا لكل الناس: نرجوكم، أنتم لستم لاجئين، بل نازحين من سودانٍ لسودانٍ آخر.
تحدثنا لشهود حول المشكلة الأكثر أسفاً، وهم الجنوب سودانيون الذين نزحوا إلى الشمال هرباً من الحرب، وهم يمشون، بأقدامهم، من حربٍ إلى حرب.
بالنسبة للشعب في قواعده فإن "عادات العقل العام" تقول عملياً بمعاني التكافل غير مشروط. التكافل مُعرَّفاً بمساحته الوطنية العامة. فتجد مثلاً أن المجتمعات السودانية في الغربة استغلت وضعها الآمن، في وقتٍ عزَّ الأمن على أخوتهم، في جمع التبرعات وصرفها بلا تفريق في مواطن الصرف. على سبيل المثال، قام تجمع الأطباء السودانيين في الولايات المتحدة بجمع مبلغ وصل إلى نصف مليون دولار، وبَعَثَها مرسلة لتشغيل بعض المستشفيات في الخرطوم والجزيرة ونيالا. أموال وطنية مرسلة لعنوان عامّ، لا تعريف له، لا بالقبيلة ولا المنطقة. اللهم إلا النفير تحت راية المشروع الوطني على الأرض. وتجمع الأطباء السودانيين هو مؤسسة ديمقراطية اجتمع فيها نفر من مختلف الخلفيات؛ سودانيون لا يمنعهم الاختلاف عن التعاون والعمل المشترك. وفي بلدهم قامت مؤخراً نقابة أطباء ديمقراطية كذلك هي بدورها تقوم بأدوارها كمؤسسة حديثة. ونقول حديثة بالجد. فالحداثة والتأسيس القاعدي على المبدأ الديمقراطي لا ينفصلان.
السودانيون في فداسي الحليماب مثلاً، فتحوا بيوتهم للخارجين من الخرطوم يرفضون أن يقودهم ضنك الحرب ولو إلى مدني القريبة دي. وأخوتهم في كريمة من الشعب السوداني الذي هو، عند النخبة، يعاني من الجهل والفقر والمرض، أقاموا الصواوين والخيام مرحبين بأهلهم كذلك، ونسمع عن حلفا الجديدة، وغيرها. وهذا في رأينا ترحاب يرتقي لأن يكون بمثابة الدستور غير المكتوب.
أنت ترى مثلاً أن استجابات السودانيين المتنوعة، إن كان في شكل مبادرة "سودان أبديت" التي تقوم بتوفير المعلومات جماعياً عن الطرق الأمنة، أو مبادرات شبيهة في "سودان أيد"، أو مبادرات الأطباء لتشغيل مراكز الكلى، أو مبادرات الصيادلة لتعريف الناس بالصيدليات المتاحة، أو مبادرة شباب المعمورة لتشغيل المستشفيات، أو مبادرات الأطباء لتوفير المعلومة الصحية بالتلفون وغيرها كثير جداً. تلاحظ أن هذه الاستجابة تأتي تلقائية بلا تردد، وبمقدار غير قليل من الاستعداد للتضحية عوناً للآخر. "الآخر" الذي يُرسّخ في العقل القاعدي عندنا أنه أهل للعون والتعاون بغض النظر. فإن كانت الحرب تقوم على الناس بغير إرادتهم، بل ووسط استنكارهم، إلا أنهم يقدرون، جماعياً، على مواجهة تبعاتها بلا جزع. والشعب المُتَسَلِّح بعقائد قديمة في الثورة، والنضال من أجل الحرية، والمشروع الوطني، كالشعب السوداني. هو في سعة من أمره رغم كل شيء.
وللشعب السوداني كذلك حكاوي، أي مرتكزات ثقافية تأتي في شكل قصص. قصص تُعَبِّر، حسب الجيل والزمن، عن معارف اكتسبها السودانيون في القاعدة عبر سعي أقدامهم. فوجدت أحدهم يذكر مرة أن أفضل رد فعل على الحرب هو مقولة الشهيد وليد: "إنتوا اشتغلوا شغلكم ونحن بنشتغل شغلنا". وتلك لعمري تربية بالغة الرصانة.
و"بالبتجي من السما بتتحملها الواطة". لا يزال السودانيون يمشون نحو بعضهم بأقدامهم، وتتوثَّق بينهم العرى على تعاقد اجتماعي تاريخي سيأتي لا محالة.
وأما عن الحرب وخسائرنا فيها فلا نقول إلا الحمد لله رب العالمين. وأن قادة هذه الحرب لا يشبهون السودانيين، وليس، من الممكن، بل المستحيل، أن يكونوا منهم.
mahmoud.elmutasim@gmail.com
/////////////////////////