انفصال الجنوب أسباب عدة.. ليس من بينها تطبيق الشريعة دستورنا لا يشترط إسلام الرئيس.. ولم ينص على الإسلام كدين للدولة
نقلا عن اسلام اون لاين حوار/ وليد الطيب نفي الدكتور عبد الرحيم علي رئيس مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان أن يكون تحكيم الشريعة الإسلامية في السودان هو السبب في اتجاه الجنوب للانفصال، ولفت في حواره مع مراسل "أون إسلام.نت" إلى أن الأطروحة الانفصالية أقدم من فكرة تحكيم الشريعة في مستوى الحكم في السودان، وأوضح أن دستور الدولة لا يشترط أن يكون الرئيس مسلما ولا يعتبر الإسلام دينا رسميا للدولة. وأكد على أن مشكلة الجنوب كانت تعبيرا عن أزمة هوية. وأشار د. علي القيادي بالحركة الإسلامية السودانية أن هناك رؤى حديثة تطورت حول التطبيق المعاصر للشريعة في دولة متعددة الثقافات ومتعددة الأديان، موضحا أن الاجتهاد المعاصر انتهى إلى أنه من الممكن أن يأخذ التشريع في الاعتبار حالة تعدد الأديان وأن هذه الاجتهادات أخذت شكلا لا يخلو من وضوح.
كلمات لافتة بالحوار:
* قدمنا تنازلات شرعية كثيرة للجنوبيين.
* الهوية الجنوبية هشة وتهدف لحكم قبيلة الدينكا للجنوب.
* اتفاق نيفاشا ترك للجنوبيين اختيار شرعتهم.
* حكومتنا وممارساتها ضمنت حقوق غير المسلمين في التدين والتعليم الديني والأحوال الشخصية.
* دستورنا الإسلامي لا يشترط الإسلام في رئيس الدولة ولاينص على أن الإسلام دين الدولة.
* وثيقة المدينة كانت مرجعية تضمين المواطنة في دستورنا.
* البرلمان السوداني كان مسرحا لاجتهاد الأمة فيما لا نص فيه.
* الإسلاميون تكيفوا مع إطار الدولة القومية في فكرهم وفقههم.
واعتبر د. علي أن الانفصال يأتي الآن استجابة لرغبة جامحة في أن يكون للجنوب دولة، ونبه إلى أن هذه الرغبة تغذيها جوانب تاريخية قديمة وتحريض أجنبي متواصل وإغراءات تقودها بعض المؤسسات والحكومات في الغرب؛ وليس لأسباب تتصل بالفكرة الإسلامية ومحاولة تطبيقها المعاصر في السودان. نص الحوار * فضيلة الدكتور عبد الرحيم، يوشك السودان أن ينقسم إلى دولتين، وبينات الواقع والتصريحات الصادرة من جانبي الأمر في الشمال والجنوب تشير إلى أن الإسلاميين الذين يحكمون الشمال قد رجحوا الحكم بالشريعة على وحدة بلا شريعة، فإلى أي مدى هذا الكلام صحيح؟ د. عبد الرحيم علي: في تقديري أن المشكلة في السودان التي توشك أن تؤدي لانفصال الجنوب لا علاقة لها بالشريعة، وهي أقدم من فكرة تحكيم الشريعة على مستوى الحكم في السودان. فعندما اندلعت الحرب في العام 1955؛ كان مطلب الجنوبيين مختلفا؛ وهو الحكم الفيدرالي لجنوب السودان. والأحزاب السياسية في ذلك الوقت رفضت فكرة الفيدرالية، وكان هناك اعتراض جنوبي على اللغة العربية كلغة رسمية. وأعتقد أن المشكلة الأساسية هي مشكلة الهوية. وفكرة الهوية الجنوبية فكرة غامضة، تأخذ كل مرة لوناً مختلفاً، فتارة تتخذ لونا ثقافيا، ومرة لغويا، وأحيانا تأخذ اسم الشريعة. والشريعة هي أقل هذه الألوان حظا في مشكلة الهوية في السودان، لأنها لم تعلن في سبتمبر 1983 بواسطة الرئيس النميري، إلا بعد أن وقع التمرد في الجنوب. وقد أعلن الرئيس النميري الشريعة – بجانب إيمانه بها - ليكسب الشمال على أقل تقدير، أي أن إعلان الشريعة جاءت في تداعيات تمرد مؤسس الحركة الشعبية الجنوبية جون قرنق في مايو 1983م وليس العكس. بالإضافة لكون تطبيق نميري قد أتى كرد فعل منه على للضغوط الأجنبية على حكومته، وكان يهدف بالفكرة إلى تأسيس قاعدة قوية في الشمال يستند عليها بعد أن فقد التأييد الجنوبي بعد التمرد. والنميري كان يحظى بتأييد الجنوبيين بعد توقيعه اتفاقية إديس أبابا معهم عام 1972، ووجد تأييدا غربيا لهذا السبب لمدة عشر سنوات، وفي المقابل كان يجد معارضة شمالية قوية. وفقد نميري تأييد هاتين الجهتين بعدما قام بتقسيم جنوب السودان إلى ثلاث ولايات، فنشبت بداية التمرد الذي نرى آثاره الانفصالية الآن لهذه الأسباب السياسية، وهي أسباب خاصة بقبيلة الدينكا التي كانت تريد أن تنفرد بحكم إقليم الجنوب كله وليس بسبب إعلان الشريعة هذا من الناحية التاريخية. * ماذا عن الوضع الراهن؟ د. عبد الرحيم علي: النظام الإسلامي القائم الآن ألح على موضوع الشريعة واستمسك بها في مفاوضات نيفاشا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية. وقد توصلا إلى اتفاق إطاري يعطي الشمال المسلم الحق في التحاكم للشريعة وترك للجنوبيين أمر اختيار التشريع الذي يناسبهم. واعتبر الإسلاميون أن هذه الصيغة حلا لسؤال ضرورة التحاكم للشريعة وضرورة حفظ وحدة البلد. وهذا الحل كان مناسبا بشهادة مفوضية حقوق غير المسلمين (مؤسسة من مسلمين وغير مسلمين نشأت بموجب اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب)، ولم تسجل شكاوى حقيقية بسبب تطبيق الشريعة في البلاد. يأتي الانفصال الآن استجابة لرغبة جامحة في أن يكون للجنوب دولة، وهذه الرغبة تغذيها جوانب تاريخية قديمة، ويغذيها أيضاً تحريض أجنبي متواصل، وإغراءات تقودها بعض المؤسسات والأشخاص في الغرب. * في أدبيات الحركة الإسلامية السودانية المعاصرة وفي تصوراتها للدولة؛ هل توجد ثمة رؤى حول الهوية وعلاقتها بالشريعة في سياق الدولة القومية الحديثة؟ د. عبد الرحيم علي: تطورت رؤى حديثة في هذه المسألة، وأخذت شكلا لا يخلو من وضوح، لعدد من المسائل المتصلة بهذا الموضوع، منها التطبيق للشريعة في دولة متعددة الثقافات ومتعددة الأديان؛ بما يمكن من أن يؤخذ في الاعتبار تعدد الأديان الموجودة. ومن هنا؛ فإن التجربة في شمال السودان تشتمل على حقوق محددة وواضحة لأهل الكتاب من المسيحيين، فيما يتصل بتعليمهم الديني الخاص، واعتراف الدولة به، واستيعابه في الإطار المؤسسي في الوزارات المختصة. وفيما يتصل بحرية العبادة فإن الدولة ألزمت الوزارة المعنية بهذا الشأن بكفالة هذا الحق. ولعلكم تلاحظون أنه منذ سنوات طويلة يحتفل بعيد الميلاد، ويحتفل بالمناسبات المسيحية الدينية الكبيرة على نطاق واسع في البلاد، ويشارك فيها ممثلين للدولة، وهو أمر لا يوجد في كثير من بلاد العالم الإسلامي، كما ضمن الوضع القانوني لهم قانونا شريعة خاصة في الأحوال الشخصية. * هل هناك تضمين لمواد قانونية تتعلق بحقوق غير المسلمين تتصل بالعمل السياسي وتولية المنصب العام؟ د. عبد الرحيم علي: حتى فيما يتعلق بالعمل السياسي؛ نجد الدستور السوداني الذي صيغ في عهد الحكومة الإسلامية لا ينص على شرط أن يكون رئيس الدولة مسلما. صحيح أن المسلمين يرغبون على الدوام أن يكون حاكمهم منهم، لكن الدستور لم ينص على هذا الشرط رعاية لهذا الجانب. * هل كان هذا الأمر عن اجتهاد إسلامي؟ د. عبد الرحيم علي: أعتقد أنه نتاج اجتهاد إسلامي معاصر رغم أن فيه مخالفة الحكم المعروف في التراث الإسلامي السياسي، ومعظم كتب الفقه الإسلامي السياسي كانت تنص على شرط الإسلام كأحد الشروط الأساسية في الإمامة، بجانب شروط الذكورة وغيرها من الشروط، ونجد أن اجتهادنا في السودان أيضا تجاوزها، رغم أنها وجدت اعتراضا عن المسلمين في السودان كما لم تجد من تستحق من الترحيب من غير المسلمين، ومضت وكأنها كانت مُسلَّم ٌ بها. * الدولة القومية الحديثة، قامت على أساس الانتماء للأرض وليس الدين، ونجد أن الدستور السوداني ينص على أن "المواطنة" هي الأساس في الحقوق والواجبات. فعلى أي أساس استوعب الإسلاميون السودانيون فكرة "المواطنة" اللادينية في الدستور؟ أعني: على أي أساس فكري؟ د. عبد الرحيم علي: مصطلح "المواطنة" مصطلح حديث، وهو اجتهاد. وفي تقديري أنها أول ما برزت في الدساتير العربية؛ برزت بصورة واضحة في دستور السودان؛ بينما لا تحظى بترحيب في الفكر السياسي في الدول الأخرى، وقد قُبلت الفكرة عندنا على أنها عقد جديد تقوم عليه الدولة بين أهل الوطن من المسلمين وغير المسلمين؛ عقد تتساوى فيه الحقوق فيما بينهم، وهو قياس على "وثيقة المدينة". بعض المجتهدين المسلمين يعترضون على ثبوت وثيقة المدينة نفسها. لكن الذي عليه العمل عند أهل السودان أن وثيقة المدينة كانت دستورا جرى عليه العمل في المدينة، وأنها الأقرب لروح زماننا. الطرح الإسلامي الآخر الذي نتحفظ عليه كان فكرة دار الإسلام ودار الحرب التي مفادها أن لكل أهل دين أرضهم ويخرج منها غيرهم، وقُسمت البلدان على هذا الأساس إلى "دار إسلام" و"دار حرب". هذه الفكرة لا تتناسب مع زماننا، ولا يمكن تطبيقها في زمان العولمة، حيث أصبح هناك مسلمون كثيرون في ما تصنف "ديار حرب"، وكذلك المسيحيين في "دار الإسلام" لهم وجود وحقوق تاريخية مكتسبة، إذا اعتبرنا أن كل بلد به أغلبية مسلمة دار إسلام. وإسقاط هذا المفهوم – الذي نتحفظ عليه - على هذا الواقع يعني أن تنشأ فكرة سياسية جديدة، ونظام دولي جديد، وإسقاط النظام الدولي القائم، وهو أمر يحتاج إلى زلزال عالمي، وهذا الزلزال لم يقع، ولذلك لابد من "التعايش" على هدي وثيقة المدينة. وهذا الاجتهاد تمت بلورته وتطبيقه في السودان. لكن الانفصال أوحى لبعض الناس أن هذه الفكرة فشلت، ولكنني أعتقد أنه لا توجد علاقة بين الانفصال وصلاح هذه الفكرة. * كيف ترد على الاعتراض الذي يواجه هذه الفكرة ومحاولة قياسها على "وثيقة المدينة" وتنزيلها في الواقع المعاصر، حيث يعترض البعض بأن الوثيقة جعلت الحاكمية على المواطنة للشريعة الإسلامية ممثلة في رد الأمر عند الاختلاف للنبي صلى الله عليه وسلم بينما المواطنة هنا جعلت السيادة للبرلمان. فكيف يجسّر هذا التعارض؟ د. عبد الرحيم علي: النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يقاس عليه، ورد الأمور للأغلبية (البرلمان) ليس في هذه القضية وحدها إنما ثمة مجموعة قضايا عديدة أخرى يرد الفصل فيها للأمة والبرلمان باعتباره تجسيد لفكرة "الأمة"، لأنه ليس متصور في العصر الحديث أن الأمة بمجملها تجتمع وتتخذ قرارا كما حدث في "السقيفة" بالمدينة المنورة، ولكن يمكن أن يقضي باسم الأمة من ينوب عنها، وهذه الفكرة محل اتفاق بين الاسلاميين في مجمل البلاد الإسلامية. والإشارة لفكرة أن الأمر للأمة في دستورنا وفكرنا السياسي واضحة ومعلومة. * لكن فكرة البرلمان في ظل مبدأ المواطنة تجعل من ممثلي الشعب مصدراً التشريع ولا ترتضي وجود مصدر أعلى للتشريع خارجا عنه، فكيف وفقتم بين هذا وذاك؟ د. عبد الرحيم علي: لا تعارض عندنا بين فكرة البرلمان وفكرة أن تكون المصادر الإسلامية هي مصدر التشريع الأعلى، لأن البرلمان لا يقضي بما يخالف الشريعة. هذا نص دستوري والدستور هو الحاكم. * السيادة لمن إذن؟ د. عبد الرحيم علي: السيادة هذه مختلف عليها. وبعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين قالوا أن السيادة في الدولة الإسلامية لله وأن المرجعية للأمة. ومصطلح السيادة فيه غموض. والشريعة في حقيقتها ليست موضوع تشريع فحسب بل مصدر التشريع والمنشئ الأول له. ولكن القضايا العملية التي تهم الناس ولا يوجد فيها نص تحكمها مرجعية الاجتهاد البرلماني: "اجتهاد الأمة"، أي يجتهد بالبرلمان؛ لكن ضمن سياق المرجعية العليا الخارجة عنه. ولهذا نص الدستور على أن النصوص المخالفة للشريعة تكون بالضرورة مخالفة للدستور، أي أن الشريعة هي الأعلى والحاكمة للدستور وهذه المسألة فيها وضوح كامل في تجربتنا السودانية. * أريد التوقف برهة لأسأل: ما هي الشريعة؟ د. عبد الرحيم علي: اضرب لك مثلا. عندما وقف البرلمان في قضية قرض ربوي لبعض المشروعات الكبرى، كان هناك قول بأن هذا مخالف للشريعة الإسلامية لأنها تمنع الربا، وكان هناك ردٌ بأن الضرورات في الشريعة الإسلامية تبيح ذلك أحيانا، فتوقف البرلمان وأعمل نقاشا طويلا حول "حد الضرورة" المبيحة للربا. إذن داخل البرلمان سيكون هناك اجتهاد معاصر وجرئ وعملي داخل أروقة البرلمان وبلاشك سيتصحب بصورة دائمة المصادر الإسلامية. * تناقلت وسائل الإعلام أن هناك عرض من الجنوبيين باختيار الوحدة مقابل التنازل عن الشريعة الإسلامية. فهل رجحتم في السودان الشريعة على خيار الوحدة؟ د. عبد الرحيم علي: لم تطرح هذه المعادلة في نقاش رسمي (معادلة: الوحدة مقابل الشريعة)، وإنما هي مزايدات في الإعلام. * نظريا، لو عُرض هذا المطلب؛ هل كانت الحكومة الإسلامية ستوافق على النظر فيه ومناقشته؟ د. عبد الرحيم علي: كان سيجد الرفض؛ لأنه سيعيد الحوار حول مجمل تفاصيل اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب، بما فيها حق تقرير مصير جنوب السودان، و هذا الأمر عُرض في وقت سابق على طاولة التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية في نيفاشا بكينيا، وتوصل الطرفان وقتها لهذه الصيغة (شمال محكوم بالشريعة وجنوب يختار ما يناسبه من قوانين). * يتردد الآن القول بأن معادلة (شمال محكوم بالشريعة وجنوب يختار ما يناسبه من قوانين) قد انتهت بالسودان إلى أن يكون على حافة الانقسام، ولهذا يناقش المثقفون السودانيون ضرورة مراجعة هذه المعادلة من أجل الوصول لمعادلة توحد البلد، ويفترضون أنها "التنازل عن الشريعة لضمان الوحدة"، هل هذا السؤال مطروح عند الإسلاميين السودانيين؟ د. عبد الرحيم علي: في تقديري أن هذا السؤال خطأ في أصله، لأنه ينطلق من تصور أن الانفصال نتيجة لتطبيق الشريعة في الشمال والجنوب، وهذا التصور غير صحيح. لو نظرنا للسودان سياسيا؛ فمن واقع المفاوضات ومن واقع مواقف الحركة الشعبية التي قادت فكرة الانفصال لم يوجد هذا السؤال إلا على ألسنة الشماليين العلمانيين؛ خاصة الذين تبنوا هذه الفكرة ليقولوا بأن الشمال ملوم على الانفصال بإصراره على الشريعة الإسلامية. الحركة الشعبية الجنوبية لم تطرح فكرة أن الشريعة سبب في الانفصال. وأعتقد أن الشمال لو قبل بالتنازل عن الشريعة من أجل الوحدة فإن الحركة الشعبية كانت ستصوت للانفصال أيضا، وسيخسر الشمال الوحدة والشريعة في وقت واحد، لأن منطلقات الانفصال عن الحركة الشعبية مبنية على شعور بأن المواطن الجنوبي من شعب مختلف ويريد أن يكون له كيان خاص. * هل فكرة "الوطن" مستقرة في الفكر الإسلامي وواضحة بدرجة كافية، أم هي فكرة يمكن التضحية بها وتجاوزها إلى مفهوم "الأمة" الإسلامية؟ د. عبد الرحيم علي: نشأت فكرة الدولة القومية في أوروبا الحديثة، وارتبطت بتجاوز الدين والخلافات الدينية والاهتمام بوحدة الشعب، وكان هناك غموض كبير في كيفية تعريف وتحديد معنى الشعب أو الأمة؟ والتعريفات في هذا السياق متناقضة جدا. أحيانا يعرف بالثقافة ومرة باللغة وأحيانا بالتاريخ المشترك وأحيانا بالأهداف المشتركة. وقد انتقل كل ذلك الجدل للفكر العربي. ورغم الغموض حول ما يميز شعب ما ويميزه عن شعب دولة أخرى، سادت فكرة الدولة القومية وانتشرت وأخذت الشعوب الإسلامية تعدل أوضاعها وفق فكرة الدولة القومية، وبهذا السبب انفصلت تركيا وإيران عن البلاد الإسلامية العربية. الآن يحدث تراجع عن فكرة الدولة القومية بسبب العولمة وقيام الاتحادات الجامعة الجديدة، وإن كانت اتحادات ذات وجهة اقتصادية لا تخفى كالاتحاد الأوروبي والآسيان. بناء على هذا، نحن الإسلاميون قبلنا فكرة الدولة القومية وكيفنا أوضاعنا كلها عليها. ولكن أعتقد أنه حان الأوان لأن نعيد النظر فيها بما يتناسب مع فكرتنا وأوضاعنا. وطبعا ليس من السهل أن نكيف الأوضاع باستمرار لتناسب الواقع، لكن يجب ألا ننسى أننا أمة واحدة، وأن وحدتنا واجبة. لم يخطر ببالي يوما أن ننسى فكرة الأمة ونلغيها لأننا أقمنا دولة إسلامية في السودان. طبعا الواقع يقتضي منا أن نلتزم بحدود جغرافية معلومة، ونحن في حاجة لأن نحدث أوضاعا تناسب هذا الوضع. * هل انفصال الجنوب هو استجابة متأخرة لفكرة الدولة القومية؟ د. عبد الرحيم علي: نعم هي استجابة لفكرة متخلفة، رغم أنه شوق قديم عند الجنوبيين، وإذا طبقنا معايير الدولة القومية التي نشأت في أورويا ستجدها لا تنطبق عليه. * لماذا؟ د. عبد الرحيم علي: لأن الدولة في الجنوب قبلية وليست قومية، وليست هناك قومية اسمها جنوب السودان وليس هناك هوية اسمها هوية جنوب السودان، وكل المفكرون السياسيون يرون ضرورة أن تتبلور قومية أولاً تنشأ على أساسها دولة. * بعد الانفصال، هل متوقع هل ستجري تعديلات على الدستور السوداني الحالي نحو مزيد من الأسلمة وإبراز الهوية بشكل أوضح؟ د. عبد الرحيم علي: هناك تجاه قوي لأن تتضح هوية الشمال أكثر؛ لأن دستورنا الحالي لا ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام. في الماضي كنا نظنها كإسلاميين مسألة شكلية، ولا ينبني عليها عمل، لكن التجربة العملية أكدت غير ذلك، حيث أن النص على بديل مغاير كان قوامه أن الدولة في السودان دولة متعددة الأديان، وهذا يجعل لهذه الأديان حقوقا متساوية عند الحكومة، والواقع في كل مكان يقول أنه يجب أن يكون للأغلبية خصوصية تميزها في كل شئ. فإذا كانت سويسرا عبر الأغلبية تمنع المآذن، فإن القول بالتساوي عندنا يصبح "نفاقا" يخالف الواقع؛ لأن الأغلبية يمضي ثقافتها ولغتها وآدبها فلماذا لا يمضي في التشريع دينها! أعتقد أن وصف الدولة بالتعدد وصف بلا معنى حقيقي عند الاختبار العملي، وهو ليس ميزة لدولة على أخرى، فكل دول العالم متعددة. ينبغي أن توصف الدولة بأغلبيتها المؤثرة، ويعط من الناحية العملية كل ذي حق حقه. * يلاحظ أن الدستور الذي وضعه الرئيس النميري 1973 وعدل في 1974 قد نص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، فلماذا عدل الاسلاميون عن هذه النصوص في الدستور الذي صاغوه منفردين في العام 1998م وفي دستور 2005م؟ د. عبد الرحيم علي: من الواضح أن الحوار والتفاوض مع الجنوبيين جعل من الضروري أن تظهر الحكومة تنازلات في الدستور وعباراته؛ ظناً منها أن يساعد في وحدة البلد وخشية أن نفقد ثلث البلد بسبب العبارات. ومن ثم، فبدلا عن الاهتمام بالمعاني ركزنا على الجوهر. ومن بدايات الدولة ألحت فكرة استيعاب الجميع في السودان سياق الدولة الإسلامية ألقت بظلالها على دستور. * تتهم الحركة الإسلامية من قبل وصولها للسلطة بأنها كانت تخطط لفصل الجنوب غير المسلم من أجل توفر أجواء صالحة للحكم بالإسلام في شمال السودان. فما ردكم على هذا الاتهام؟ د. عبد الرحيم علي: هذا الاتهام يناقض كل ما قلناه قبل قليل، والإسلاميون خرجوا عن طورهم من أجل إرضاء غير المسلمين واستيعابهم، وتنازلوا عن كل ما يمكن أن يتنازل عنه، ولكن تبين لنا أننا مهما فعلنا فلن تتغير المواقف والاتجاهات عند الجنوبيين. والإنسان لا يستطيع أن يخرج عن جلده. الدكتور عبد الرحيم علي، رئيس مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان. من مواليد 1945، حصل على بكالوريوس الآداب مرتبة الشرف الأولى من جامعة الخرطوم عام 1972، ثم على الدكتوراه من جامعة "أدنبرة" عام 1977 بقسم الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية بعنوان: "التركيب الأدبي للآية القرآنية". عمل محاضرا في قسم الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية بجامعة أدنبرة من (1977 - 1981)، ثم نائبا لمدير المركز الإسلامي الإفريقي بالخرطوم من (81 - 1989)، ثم ترأس قسم الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا من (89 - 1990)، فمديرا لجامعة إفريقيا العالمية (91 - 2000). وفي عام 2000 تولى إدارة معهد اللغة العربية الدولي بالخرطوم، وهو المنصب الذي يشغله إلى الآن. وله العديد من المطبوعات مثل: "القرآن والحضارة" (بالإنجليزية)، و"مناهج النبوة في الإصلاح الاجتماعي"، و"وحدة المسلمين في مواجهة المادية المعاصرة"، و"الدراسات القرآنية في أسكتلندا". كما أشرف على 25 رسالة دكتوراه.