ذكاء القرار وغباء الاسئلة …. بقلم: عادل الباز

 


 

عادل الباز
24 July, 2009

 

 

القدر وحده جعل القاضي البروفيسور بيار- ماري دبوي يعتلي منصة التحكيم لواحدة من أخطر القضايا التي واجهت بلادنا خلال الخمسين سنة الماضية. كان اختيار دبوي  مخاضا صعبا، إذ فشل الشريكان في التوصل لاتفاق على عشرات القضاة الذين عرضوا أمامهم. زانت بروفسير ماري حكمة تبدت أمس فى صياغته لهذا القرار المدهش الذي أرضى الجميع واغضبهم فى ذات الوقت.. ولكنه تجاوز الكارثة المحدقة بالبلاد. لا أعرف كيف كان سيكون الوضع إذا لم يكن على المنصة هذا العجوز الفرنسي الماكر.

 خرج هذا القرار من بين فرث ودم بعيدا عن التوقعات، لأن المحكمة نظرت الى الواقع ولم تنظر لنصوص قانون معلقة فى السماء. نظرت للمآلات وللدماء التي يمكن أن تسيل.. نظرت للتاريخ والمستقبل.. وامعنت النظر فى الاجتماع  والاقتصاد والسياسية التي لاتحدد بقانون.

في أبريل الماضي كنا داخل ردهات المحكمة الدولية بلاهاي.. ثلة من الصحفيين ورؤساء التحرير، نعجب من أمر دبوي هذا ونتساءل كيف سيتسنى لهذا الثمانيني مراجعة وقراءة أطنان من الورق وكتب التاريخ والجغرافيا.. وكيف سيتوصل لحكم عادل لهذه القضية شديدة التعقيد. تصورنا أن يستغرق قراره عاما اذا لم يكن سنوات. إذ أن ثلاثة أشهر لم تكن كافية حتى لتقليب صفحات أكثر من عشر حاويات من الورق سلمت للمحكمة.!!

 

كانت التوقعات أن المحكمة بجملة واحدة ستجيب على السؤال هل تجاوز الخبراء تفويضهم أم لا؟. ولكن المدهش أن المحكمة قسّمت هذه الإجابة بين نعم ولا، إذ أشارت الى تجاوز اللجنة في نقاط.. وأكدت على نقاط قالت إن لجنة الخبراء لم تتجاوز تفويضها فيها. والأكثر ادهاشا أنها لم تقل إن اللجنة على صواب أم على خطأ بل اكتفت بتحديد نقاط تجاوزها فقط.

 

تجاوز اللجنة لم يكن شاملا، لكنها فى النهاية تجاوزت تفويضها!!.اعجبني هذا الذكاء إذ أن إعلان تجاوز التفويض سيشكل صدمة- لاداعي لها- لطرف في النزاع.. ولذا سعت المحكمة لتجعل من قرارها متوازنا حتى من ناحية التقديم والتأخير في المعلومات، اتاح لها عدم رفض تقرير اللجنة بشكل مطلق الى الإتكاء عليه لاحقا وهي تمضي الى المرحلة اللاحقة الخاصة بترسيم الحدود.

 

هذا القرار أعطى نصيبا هاما من حقول البترول الى الشمال بتحديد خط 10 -10 فدخلت هجليج فى حدود الشمال بينما حافظت على آبار  للبترول في حقول أخرى لدينكا نقوك، وهذا النقطة الحساسة تجاوزتها المحكمة أيضا بذكاء دون أن تصرح بمافعلته من توزان اقتصادي بين الدينكا والمسيرية فى المنطقة، اذ أن أي قرار غير ذلك سيُشعر طرف من الأطراف أنه جُرِّد تماما من كامل ثروته، مما قد يقود لكارثة.

 

قرار المحكمة شدد في أكثر من موضع على الحقوق التاريخية للمسيرية في استخدام ذات المسارات التي ظلوا يستخدمونها لعشرات السنين دون عوائق لاجغرافية ولاسلطوية. ولحسن الحظ فلقد استبق القائد سلفاكير بتطمين المسيرية على هذه الحقوق أكثر من مرة، وأكد على ذلك في زيارته الأخيرة للمنطقة، لتصبح تخوفات للمسيرية من هضم هذه الحقوق ليس مبررا وخاصة إذا ما تأكدت وحدة السودان.

 

هذا القرار الذكي للأسف قوبل باعلام عالمي غبى!!.بالأمس تحدثت لقرابة عشرة أجهزة إعلامية دولية.. وكلها كانت تسأل سؤالا غبيا ليس له هدف سوى إثارة الفتن. من كسب المعركة فى أبيي أو لاهاي الحركة أم المؤتمر الوطني.. الدينكا أم المسيرية؟. لم أعرف ضرورة السؤال ولا الهدف من ورائه فماذا سيستفيد الاعلاميون مثيرو الفتن من تفجير الأوضاع فى المنطقة؟. لم تكن أبيي أرضا لمعركة ليكسبها طرف ويخسر طرف آخر. أبيي لازالت منطقة فى دولة واحدة. هب أن أحد الأطرف قد كسب فما الهدف من اغضاب الطرف الآخر واستفزازه؟. ما جدوى تصعيد الإحساس بالمرارة عند أحد الأطراف... الذين يقبعون وراء البحار في استديوهاتهم المكيفة يسألون الاسئلة الغبية لايعلمون أن ثمنها الآلاف من الأرواح. إثارة الفتن ساهلة وخاصة في دول هشة، تكتنفها صراعات إثنية وقبلية خطرة. الاعلام بغبائه هذا أصبح اداة للحرب بالفعل. الذين شاهدوا فلم ( هوايتل رواندا) يدركون كيف ساهم الإعلام فى صناعة جريمة الإبادة فى كيجالي، حيث كانت أجهزة الإعلام أخطر من الأسلحة البدائية التي يحملها الهوتو والتوتسي.

 

للأسف مضت أجهزة الاعلام العربية فى موكب الغباء هذا. بعض الذين يدعون انهم خبراء  بالشأن السوداني كشفوا عن جهل فاضح وهم يعلقون على واحدة من أخطر قضايا السودان باستهتار بالغ وعدم معرفة بالواقع المعقّد الذي يكتنف قضية أبيي. كما أن بعض المعلقين السودانيين لم يتورعوا من إبداء آراء جد خطرة بانحيازهم لطرف من الأطراف، مبدين سعادة قاتلة بنصرهم المتوهم. بالأمس لم ينتصر أحد ولم ينهزم أحد.. وأي فعل أو قول غير هذا هو بطاقة دعوة مفتوحة للحرب.

 بالأمس كسب الجميع وطنا آمنا مستقرا، ينظر بأمل قريب نحو وحدته، ولو كره الطيب مصطفى وصحبه!! 

 

آراء