ذكريات على جدار الزمن مع صلاح و أبوقطاطي

 


 

 

بقلم: حسن أبو زينب عمر

(1)
أجمل كؤوس الذكريات مذاقا تلك التي عشتها وتعرفت عبرها وعن كثب على الذين صاغوا وصنعوا أحداثها سيما في مجال الفن وأنت تكتشف الوجه الآخر أو مناطق العتمة في الفنان أو الشاعر .. أتحدث هنا عن علاقة خاصة ربطتني بأثنين من عمالقة الشعر الذين أثروا حياتنا الفنية ولكن لطف الله بهم أنهم غادروا الفانية قبل أن يجتاح سماء السودان ظلام مخيف كفيف البصر كما يقول الحسين الحسن في رائعته (حبيبة عمري) ويحول آل دقلو الخرطوم التي ترنم بها سيد خليفة ( يالخرطوم ياللي عندي جمالك جنة رضوان) الى أنقاض مماثلة لأنقاض هيروشيما و نجازاكي اللتين انقض عليهما الطيار الأمريكي بول تيبيتش بطائرته B.29 في صباح 6 أغسطس عام 1945 بأوامر صادرة من الرئيس الأمريكي وقتها هاري ترومان وجعلهما نسيا منسيا .
(2)
أول هاذين العملاقين كان الشاعر الرقيق صلاح حاج سعيد الذي جمعني به حوش العمل تحت سقف المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في السبعينات ..كان صلاح يعمل في الإدارة القانونية وكنت أعمل مديرا لمكتب الخرطوم بحري وحينما كانت تعقيدات العمل كثيرة مع انطلاق مسيرة التأمينات كنت كثير التواصل معه حتى حدثت بيننا علاقة خاصة . كان صلاح من الذين غسلوا أحزاننا بالثلج والبرد .. شيدوا لنا مدنا من الشعر وحفروا لنا جداولا من الماء الرقراق وغرسوا على ضفافه أشجارا من زهر البنفسج والياسمين. وقد زين شاعرنا الكبير الغناء السوداني بأعذب الكلمات وكان أحد حبات عقد فريد لمع فيه كثيرون منهم محمد على أبو قطاطي وسيف الدين الدسوقي ومحمد يوسف موسى ومدني النخلي وهاشم صديق واسحاق الحلنقي وعوض جبريل وعبد الوهاب هلاوي ويحي فضل الله ولكن وحدها الثنائية التي جمعته بعراب التطريب مصفى سيد أحمد هي أزهى محطاته وكانت ميلاد أشهر أغنياته (المسافة وقلت ليها وكتبت ليك وكان نفسي أقول لك من زمان ووعد وفات) لكن تظل قصيدة الحزن النبيل أكثرها عذوبة بقيت أغني عليك غناوي الحسرة والأسف الطويل عشان أجيب ليك الفرح رضيان مشيت للمستحيل ومعاكي لى آخر المدى فتيني يا هجعة مواعيدي القبيل ..بعتيني لى حضن الأسى سيبتيني للحزن النبيل .
(3)
اجتمع صلاح مع مصطفى سيد أحمد في ثنائية أخرى تحمل ملامح ثنائيات حسين با زرعة وعثمان حسين وعثمان حسين وعوض أحمد خليفة ووردي وإسماعيل حسن يقول فيها ومرقت من قلبك مشيت طفت الشوارع والمدن ..لفيت حواري الدنيا جيت فنشتت في الزمن سكتك لا بعدك الأيام صفن ولا قدرت أعرف وجهتك التقى صلاح مع كوكبة من الفنانين منهم الطيب عبد الله (يخلق من الشبه أربعين) ومع البلابل في كلمات بسيطة دسمة المعاني نور بيتنا وشارع بيتنا يوم ماجيتنا يالهليت فرحت قلوبنا وأطربتنا الليلة وجيتنا وغنى من كلماته أيضا الفنان عثمان مصطفى (البينا ما ساهل وصدقني وموعود) وتغنى لصلاح أيضا محمد ميرغني (ما قلنا ليك الحب طريقه قاسي وصعيب من أولو ما رضيت كلامنا وجيت براك ..أهو دا العذاب اتحملوا )
(4)
حينما رحل زميله الفنان مصطفى سيد أحمد رثاه بكلمات بطعم الحنظل وكأنه يرثي نفسه ماكنت قايل نفسي يوم أرثيك يا أصدق خليل أنا كنت بتخيل أكون قبلك أسافر غنوة في الوتر الجميل زي ما عبرت معاك حروف زمن المسافة وجينا للحزن النبيل ورحلت ما كان دا الأوان رحت وحرقت حشا الغناء
(5)
كان الحياء من أبرز صفات راحلنا العظيم فكأنه العذراء في خدرها فلا تسمع منه الا همسا ..أعطى قصيدة لوردي وظلت حبيسه أدراجه قرابة العشرة سنوات ومنعه الحياء من سؤال فنان أفريقيا الأول حتى عثر عليها مصطفى سيد أحمد وقام بتلحينها ..في الثالث والعشرون من نوفمبر 2022 و في مستشفى الجودة بالخرطوم رحل صلاح عليه شآبيب المغفرة والرحمة عن دنيانا الفانية بهدوء كالنسمة العطرة وكالغيمة الماطرة بعد صراع مع المرض لم يمهله .
(6)
أما الشاعر الثاني فقد رفض عديلي عصام المبارك الكشف عن هويته وكنت وقتها مقيما في حي الصفا شمال جدة ..اتصل بي من ميناء جدة الإسلامي وأخبرني أنه في الطريق الينا وفي معيته الضيف الغامض وتركني أضرب أخماسا في أسداس ولكن حينما رن جرس الباب وفتحته أطل على الضيف الذي كان خارج الحسابات ..أنه الشاعر الفذ الفحل محمد علي ابوقطاطي بشحمه ولحمه ..جاء ليؤدي مراسم العمرة ومكث معي قرابة الأسبوعين ضيفا عزيزا محبوبا لا تمل أحاديثه أبدا تعرفت عليه عن كثب .. فكان الطيبة والبشاشة والتواضع والابتسامة التي لا تفارقه شفتاه تمشي على قدمين.
(7)
تعلق به ابني عمر مهندس الاتصالات حاليا وكان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات وصارت بينهما مودة خاصة ..كنت دوما أصرخ في الطفل (يا ولد جننت الراجل ..خليهو شوية يرتاح ويأتيني الرد من الشاعر الذي تغنى له الفنان الراحل خليل إسماعيل وحده 17 أغنية أشهرها (بكرة يا قلبي الحزين تلقى السعادة) وغنى له وردي 7 أغنيات أبرزها المرسال فضلا عن فنانين آخرين كثر . معترضا وهو يقول عن الطفل المشاكس (خليهو خليهو دا صحبي) . كان يحكي لعمر حكايات مكر الثعلب ودهاء الغراب وبالنسبة لي كان يحاضرني عن رحلته الى كوريا الشمالية بدعوة من رئيسها وقتها كيم ايل سونج الذي أكرمه بعمل تمثال له بالجلابية والعمامة. وقد ترجمت قصيدته في تمجيد كوريا الى اللغة الكورية.
(8)
كان رجلا يتقد بروح المرح ..قال لي ذات مرة انه سمع أن صلاح ادريس في البلد وصلاح كما يعرف الجميع هو رجل المال والأعمال السوداني وقال لي انه سيزوره في فلته في حي الحمراء على شاطئ البحر وحينما عاد سألته هل زرت الرجل فأجابني (كيف ..ما شوفتني مشيت طوالى باب شريف ؟) وباب شريف هو وقتها أشهر الأسواق التي يرتادها الزائرين وبالذات السودانيين لشراء حاجاتهم من الأقمشة والثياب النسائية الفاخرة فضلا عن العطور وغيرها من الهدايا .
(9)
بعد أسبوعين تقدم نحوي بأسمى آيات الشكر للضيافة وطلب منى ايصاله الى السفارة السودانية في طريق الميناء وقتها ..أوقفت السيارة أمام باب السفارة فأنزل قدمه اليمنى على الأرض متأهبا لانزال اليسرى وفي هذه اللحظة كان له الطفل عمر بالمرصاد فوجه له سؤالا بريئا زلزل كيانه (عمي محمد انت تاني ماجاي ؟) فتوقف عن النزول وتأملت الرجل وهو يحدق في الأفق البعيد فاذا بدمعتين حرى تسيلان من عيني شاعر (الفينا مشهودة عارفانا المكارم انحن بنقودا والحارة بنخوضا) قبل أن يغادر السيارة ويختفي في زحام السفارة دون أن ينبس ببنت شفه ..رحم الله أبوقطاطي فسأظل أبد العمر أعض بنان الندم عن فقداني لقصيدة شكر صغيرة سلمها لي وكانت عني وعن عمر ووالدة عمر عرفانا بكرم الضيافة .

oabuzinap@gmail.com

 

 

آراء