على قدر الرهانات المعلقة على كاهل الحكومة المرتقبة يواجه طاقمها تعقيدات على أكثر من جبهة الجماهير تتوق إلى عناصر مسلحة بكفاءة مهنية عالية معززة برؤية سياسية نافذة. على عاتق الإدارة المرتقبة تجاوز جميع سلبيات الحكومة الحالية في التشكيل والأداء. هذه تأتي في ظروف داخلية أكثر تشابكاً من تلك. المساندة الشعبية على عتبة المرحلة الإنتقالية كانت أكثر تماسكا ، تفاؤلا وصبرا. الحكومة المرتقبة لن تحظى بذلك بصب الشعب .الجبهة الداخلية أصابها الإسترخاء ،التشقق والقلق. الجبهة الثورية حمل إضافي على عربة الحاضنة السياسية. الضغوط الخارجية تزيد أثقالها.
*** *** ***
السؤال المفصلي في شأن التحديث المنتظر يرتبط برئيس الوزراء نفسه.
علامات الإستفهام فيما يتصل بقدراته وكفاءاته لا تكف عن التناسل. هناك شكوك كثيفة تتجذر قناعة لدى قطاع عريض في شارع الثورة عمّا إذا هو يجسد “رجل المرحلة “! تلك شكوك تقدح في قدراته على المبادرة ، الإبتكار ، الجسارة ،المصادمة و الشفافية والمكاشفة . هي سلة حصاد تجربة رئيس الوزراء إبان الفترة المتناهية. الحديث المتداول عن حصر أزمة السودان في "كيف يُحكم" ليس في "مَن يحكم" لا ينفي محورية رجل المرحلة القائد في الإنجاز. من الممكن وجود خارطة لكيفية الحكم بينما يغيب الرجل المنفذ. وجود "رجل المرحلة" يعني بالضرورة وجود القائد القادر على رسم وتنفيذ كيفية الحكم.
*** *** ***
أداء رئيس الوزراء لم يكن مقنعاً من حيث وجود فريق عمل مبدع يملك رؤية سياسية نافذة. إلقاء غياب البرنامج على الحاضنة السياسية ينطوي على نسبة من المصداقية . لكنه يدمغ في الوقت نفسه الفريق الحكومي بالفقر. تباين الرؤى داخل الحاضنة السياسة يفترض بالضرورة وجود قيادة تنفيذية تمتلك ما يعينها على تجاوز هوة التباين بل الضعف داخل الحاضنة وأدائها. السلطة التنفيذية هي قاطرة الدولة والثورة. رئيس الوزراء هو " دينمو"
القاطرة. الرجل تبوأ منصبه وسط مساندة جماهيرية استثنائية . لو طلب من جماهير الثورة تغيير مجرى النهر لأتمروا لكنه بدد زخماً جماهيريا ً عارماً.
*** *** ***
رئيس الوزراء لم يتمتع بروح سياسي محنك ، خطيب مفوه، ثائر مستنفر، مصمم مصادم من الممكن الإتفاق على تفريطه في الإمساك بخيوط المرحلة بين يديه، فأهدر فرصة تاريخية لإحداث تحول على خارطة الساسة السودانية. في إحتمائه بالحكمة ذهب حداً أفقده القدرة على المواجهة أو الإقناع. مع ذلك ثمة قناعة غير ناضجة تجعل نقد رئيس الوزراء ضربا من الحرام .من ثم فإن الكلام عن استبداله هو الكفر بعينه. الحالتان ناجمتان عن غريزة خوف مستحكمة. أصحاب هذه الرؤية ليسوا فقط يفتقرون إلى الحكمة بل هم من يقاوم توجهات التغيير الإيجابي. التلويح بالواقعية السياسية يفضح دوما قدرا غالبا من الضعف والخور على نحو يهدد المصالح العليا. أبرز مظاهر وهن السلطة التنفيذية يتبدى في هيمنة المكون العسكري في قمة النظام على صنع القرار. تلك الهيمنة أعطت رئيس المجلس السيادي دون وجه حق أنتزاع دور رئيس دولة شمولية فوق المساءلة. هو الآخر أسير صورة ذهنية لتجربته في معايشة إدارة الدولة.
*** *** ***
بما أننا مقبلون على إعادة هيكلة أقاليمنا فنحن أشد ما نحتاج إلى حكومة تتميز بالديناميكية مكان هذه الماكينة المترهلة بالبطء والتردد والعجز. هي تبدو دائما أكبر من المشكلات الصغيرة وأصغر من المشكلات الكبيرة. لسنا إستثناءاً في هذه المعمورة. غالبية الدول متعددة الأعراق بلغت حداً يجعلها مهددة في لحظة بالتجزئة. لكن عديدا منها عبر إلى ضفاف الأمان .صحيح أنها تبنت استراتيجيات لكن الصحيح كذلك ثمة "رجال دولة" لعبوا أدوارا مفتاحية إن لم يرسموا ملامح تلك التحولات.
*** *** ***
رئيس وزراء سنغافورة الراحل لي كوان كتب سيرة ذاتية وطنية مبهرة بمهارات سياسية نادرة ورؤى فكرية نافذة حينما استطاع تذويب الفسيفساء الأسيوية المنمنة في بلد صغير خرج من مرافئ الفقر المدقع إلى رحاب التجانس الوطني والأبهار الإنمائي. معه أصبح ذلك الميناء العتم مركزاً ماليا صناعيا ومعبرا جويا بحريا لا يمكن مجاراة خدماته.
مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا قاد بلاده من مزرعة لإنتاج المنتجات الأولية إلى دولة صناعية منافسة. أبرز أعمدة نجاحاته يتجسد في تجاوز أكبر عقبات التخلف الإجتماعي عبر تحقيق توازن منصف بين الصينيين والمالاويين وأقليات أسيوية مغايرة. بجرأة تطابق المغامرة أبحر مهاتير ببلده في اتجاه مضاد لصندوق النقد الدولي في العام 1997فتجاوز محنة كادت تعصف بكل الإنجازات الإقتصادية الماليزية.
*** *** ***
شوين لاي عاش في عهد الزعيم ماوتسي تونغ لكنه لم يسكن في ظله. رئيس الوزراء نسج إرثا سياساً لافتا حببه إلى الشعب الصيني حداً أصاب الزعيم الصيني بالغيرة . من حظ ماو أن سبقت وفاة شوين لاي رحيله بثمانية أشهر. لكن الزعيم لم يخف تلك الغيرة من شعبية رئيس الوزراء حتى في مصيبة الموت. فعندما خرج ملايين الصينيين تحت شتاء قارص في وداع جنازة شوين مطلع 1976 اكتفى الزعيم ماو بارسال باقة ورد رافضا مشاهدة الوداع المهيب لرجل ترك رحيله حزنا في كل عواصم صناعة القرار العالمية.
*** *** ***
مالنا نذهب بعيدا وفي الجوار تجربة ملس زيناوي . هي تجربة ناصعة لرئيس وزراء قاد الأثيوبين من سعار المجاعة ويباب الجفاف و الفقر وكهوف الإحتراب والتخلف إلى آفاق ميادين التنمية، الإستثمار، التصنيع والتقدم. ذلك نجاح رجل دولة رهن يوم تسنمه السلطة ؛نجاح حكومته بتمكن كل اثيوبي تناول ثلاث وجبات يومياً. بمثابرته الفكرية والنضالية أضحت اثيوبيا أنموذجا للإنجاز إذ دخلت موسوعة الأرقام القياسية في معدلات الإنتاج والدخل القومي. يوم ورحيله كتبت نيويورك "وفاة زيناوي تحرم اثيوبيا وأفريقيا من زعيم استثنائي" كذلك قال حكيم نيجيريا اوباسانغو وكان محقاً عن رحيله في سن السابعة والخمسين" الموت سرق زعيما استثنائيا". زيناوي لم يجد دليلاً مكتوبا به يهتدي كيف يحكم تلك الغابة من الأعراق في جفاف طبعي وإنمائي. لكنه كتب بما مارس إجابة شافية عن سؤال كيف تُحكم اثيوبيا.
*** *** ***
هذه نماذج لرجال دولة كتبوا بممارساتهم إجابات ناصعة للسؤال ؛ كيف تحقق الشعوب قفزات طويلة واثقة فوق واقع التناحر، التمزق والتخلف. كلٌ كتب سيرته الزاهية في ظروف مغايرة. فهي تصلح للإقتداء لكنها غير قابلة للاستنساخ. ثمة إجماع على خفوت أداء رئيس الوزراء بينما هناك تباين ازاء استمراره أوذهابه. مفصل ذلك التباين يتجسد في الخوف من إيجاد بديل يحظى باجماع مماثل من قبل الحاضنة السياسية. ذلك الوجل في الواقع يفضي للتوغل في الأزمة الراهنة لا يصنع مخرجاً منها. كلاهما خيار أقرب للمغامرة. فما الذي يغري بالمغامرة الفاشلة؟ هو أنصار الإنقاذ إبان المناداة بالثورة عليه.
*** *** ***
أبرز خطوط إخفاق رئيس الوزراء مراوحته بين الحاضنة السياسية والمكون العسكري في المجلس السيادي. في تلك المراوحة ينزع الرجل إلى الإختباء من المواجهة في المواقف. ذلك الإختباء لا يكفي لترويجه كما يحاجج البعض في قناني الحكمة. ليس في طبع الأنموذج الخفي في عقلية رئيس الوزراء الجرأة على المواجهة أو المكاشفة. هو موظف متجاوب. لذلك ترك للآخرين مساحات واسعة في الملعب. استمرار هذا المشروع لن يحدث حتما أي قدر من الإختراق على جبهات أزماتنا المستحكمة. صحيح أحدث رئيس الوزراء خطوات على مسارات عدة في ظروف معقدة لكن يريقها بدا خافتا في كنف سحب الأزمات .
*** *** ***
على إيقاع إعادة تشكيل جناحي السلطة السيادية والتنفيذية في ضوء إتفاق جوبا الأجدر بنا إعادة هيكلة تركيبة الدولة برمتها بغية التخلص من الممارسات الهشة، الشائهة ، المصطنعة ،المنتزعة ، المغتصبة والمسكوت عنها. بما أن في هزال أداء السلطة التنفيذية أشياء من وهن الحاضنة السياسية المتشرزمة ،فالإقدام على استبدال رئيس الوزراء يشكل تحدياً غير قابل للتجاوز. إذا ظل هاجس الخوف من الإنفراط غالباً فلا مناص من إعانة الرجل بغية تصنيع " رجل المرحلة". من ذلك تقسيم التشكيل الحكومي إلى قطاعات على رأس كل قطاع سياسي كفء " مساعد رئيس الوزراء" مفوض بسلطات على أن يضطلع رئيس الوزراء بمهام قائد الأوركسترا الفعلي.
*** *** ***
من الممكن – مثلاً- ابتكار أربعة قطاعات: أحدهما الإقتصاد ؛قوامه وزارات المالية الإقتصاد، التخطيط، الصناعة ، التعدين، الزراعة والثروة الحيوانية . قطاع الخدمات؛ يضم الصحة ،التربية، التعليم العالي، التجارة، البيئة ،الأشغال والكهرباء. قطاع السلم الإجتماعي؛ قوامه الداخلية، الحكم المحلي، العدل ,التنمية الإجتماعية. قطاع التنوير يضم الإعلام، الثقافة، السياحة ، الشباب والرياضة . رئيس الوزراء ومساعدوه يشكلون حكومة مصغرة تعنى برسم السياسات الإستراتيجية بينما ينهمك كل قطاع في النهوض بالأعباء المدرجة تحت مظلته. لأجندة الوثيقة الدستورية الأولوية في كل قطاع . أداء القطاعات يخضع للحكومة المصغرة. حتى لا يترهل الجسم الحكومي ربما يضطلع أحد الوزراء في كل قطاع بمهام معاون الرئيس .
aloomar@gmail.com