رحلة الحاجة
4 January, 2010
الفاضل حسن عوض الله
سطر جديد
بالأمس وأنا أكتب عن صلاح أحمد إبراهيم تذكرت قصيدته (الحاجة) وهي أشبه بقصة كتبها بوجد صوفي أخاذ، وهو يصور رحلة (الحاجة) التي جاءت من غرب أفريقيا تمشي على قدميها، ويكاد كبدها يتقطع شوقاً لمكة والوقوف على ثرى عرفات.. (ذرعت كل أفريقيا تعبرُ النهرَ والقفرَ في الزحام.. وتقيم وما من مقام.. ربطت طفلها بحزام.. على ظهرها- وجهه الأغبر عظمةٌ نتأت من عظام). تدخل الحاجة فيافي السودان وما في يدها شيء سوى الطفل المربوط إلى ظهرها والشوق إلى الحجاز، وفي أمدرمان ترصدها عين صلاح (فرشت عند هجليجة فولها والنبق... وأتاها الصغار بعد طول إنتظار.. ملأوا ظلها ضحكاً وغبار.. يتدافر جمعُهم حولها وبهم لم تضقْ.. قلبها مؤتلقْ)
وتمضي الحاجة في رحلة العنت والشقاء، إن سلمت وطفلها من عضة الجوع يتربصها الذئاب ويتحرشون بها (مال صاحبنا وهو ذو شبهة وملام.. ولبق في الكلام.. كل أنثى لديه طعام.. قال مثل مرابي لها غامزاً في إبتسام.. أدخلي خلف بابيّ المرام .. فأجابت بصوت حييّ: حرام)
ونمضي مع صلاح وهو يوثق رحلة العفة الطاهرة القاصدة نحو مكة لتبلَّ شوقها وتبلل ذاك الثرى الطاهر بأدمع الشوق وهي الفقيرة المجهدة، تكد وتخدم في البيوت (رفعت الذراع المدق.. مسَّ نعل السحاب وهوت لتدق.. وتدق وتدق.. سال فيها عرق.. ظهرها بعذاب نطق.. كل ما تشتهي كسرة ومرق.. بعد أن ينتهي يومها في الصيام.. لقمةٌ وأدام.. ثم تفترش الأرض نائمة وتنام.. بعد ذاك الرهق). ومن (الفندك)ووجعه وعذابه نمضي مع صلاح والحاجة تطرق البيوت بحثاً عن عمل (نقرت بابهم في أمل.. تتساءل هامسة عن عمل.. فأطلت لها إمرأة ذات صدر جهام وكفل.. مستقل مهيب ثقيل كلما حركته إحتفل.. أدخلي فلدينا غسيل.. دخلت ورَنت في قلق.. الملابس مردومة كالجبل.. والملاءات في كومة لو جمل حمّلوه بها لنفق).
وأخيراً تصل الحاجة إلى مقصدها، ويبلل دمعها النبيل ثرى مكة كما أرادت، صبرت على فقد الطفل المربوط إلى ظهرها ودفنته في السودان، صارعت أمواج المالح على مركب عتيق، ما جزعت أمام كل الأهوال فالشوق إلى تلك البقاع الطاهرة إبتلع كل أحزانها وتعبها. يقول صلاح (رأت نفسها ضيفة الله، والله قدامها... وترفع وجهاً من البؤس يشبه باطن أقدامها.. وكفين مثل العريضة محفورتين بآلامها.. تقول له سيدي قد وصلت وما بي سوى أن تراني وترضى.. أتيتك من آخر الأرض أقطع أرضاً بغير دليلٍ ,اذرع أرضا.. وأحتمل الجور والافتئات وكل عسير سوى أن أضيّع فرضاً.. تقول إلهي تركت لك العشيرة إذ أنت أهلي وجاهي... قصدتك عبر الخطوب الدواهي.. شققت إليك الفلا والضياع.. أتيتك ظامئة في الظماء.. أتيتك جائعة في الجياع.. أتيتك يسخر بي الساخرون.. أتيتك يمكر بي الماكرون.. أتيتك عبر إغتراب مذل أُهان به تارةَ وأهون).
ويضيء شعر صلاح ويضيء معه الكون كله وهو يختم القصيدة بقوله (ومن دون الألوف الوقوف..صفوفاً وراء صفوف.. ومن دون طائف بيتٍ وساع.. يراها ويعرفها ويهش لها... ويخاطبها بإسمها وهو أحفّى بها.. إنهضي يا فلانة إني إليكِ أمد ذراع.. ويرفعها قربه في النعيم.. بما صبرت في حياة الجحيم).