رحل فارس الكلمة ودليل النوق

 


 

 

رغم فارق السن والمكانة، أحيانا تنشأ بين الناس علاقات ذات طابع خاص كتلك التي ربطتني بالراحل شيخ العرب جامع علي التوم الذي فارق الدنيا أم نعيماً زائل وصعدت روحه الشفيفة إلى الرفيق الأعلى في جبرة الشيخ بولاية شمال كردفان في نهار الأحد بتاريخ التاسع من شهر يوليو للعام ألفين ثلاث وعشرون، عن عمر ناهز التسعين عاماً، نسأل الله أن يتغمد فقيدنا بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا نقول إلا ما يرضي الله، فكل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

كان الشيخ جامع علي التوم أحد أعمدة الإدارة الأهلية في دار الريح، ويكفي أنه سليل الدوحة النورابية الكريمة، ونشأ في كنف ذلكم الرجل العظيم والده السير عليْ ود التوم ناظر عموم الكبابيش، وورث منه الحكمة والسماحة وفصل الخطاب، وشهدت له مجالس دار الريح قاطبة بالكلام الموزون والرأي الراجح والتأني والحلم والمعرفة بمنازل الرجال ومقاماتهم ومراكزهم.

تلقى الفقيد الراحل تعليماً نظامياً، فهو من أوائل الذين انخرطوا في تلك المدارس التي أنشأها مربى الأجيال الأستاذ حسن نجيله، صاحب ذكرياتي في البادية، وتولاها من بعده الشيخ هاشم من منطقة الغابة في المديرية الشمالية، وكان له دور بارز ومشهود في نشر التعليم في دار الريح حيث تولى فيما بعد إدارة مدرسة خور جادين الأولية وتخرج على يديه معظم رجالات دار الريح. ثم ألتحق الشيخ جامع علي التوم بمدرسة الأبيض الأميرية المتوسطة فنهل من معينها قدراً من المعرفة أهلته لخوض غمار العمل العام لاحقاً. وصار رئيسا لمحكمة سودري في ستينات القرن الماضي ومن ثم ممثلاً لدار الكبابيش في كثير من المجالس الأهلية، ونائباً برلمانيا في أكثر من دورة تشريعية.

آثر الفقيد الراحل حياة البادية وصار أحد رجالاتها الذين يشار إليهم بالبنان، فتأثروا بتلك الحياة وتراثها الغني بكل ضروب الإبداع والفنون والفروسية والكرم والشهامة، وأثروها بإنتاجهم من الشعر وجميل القول. وكان شيخ جامع، رحمه الله تعالى، يلقاك كالربيع الطلق يختال ضاحكاً، ويسمعك من جميل نظمه الراقي من الشعر الشعبي المتميز ويغمرك بنوع من الإحساس الدافق حتى تشعر بأنه يكاد يفتح لك دواخله كرما وتفضلا منه. في أحد الأيام اتصلت به متسائلاً عن مربوعة من الدوبيت كنت أعلم أنه شاعرها، وهي تقول:

فرع المحلب الفي مقامه عديّل

هباله النسيم وأصبح خداره منيّل

الساهي في ضلو وضراهو مقيّل

شدولو الجمال وأصبح فريقو مشيّل

فتبسم ضاحكاً وقال لي هل تريد أن تعود بي إلى الشباب، "كيفن برجعلك". وقد كان رحمه الله صاحب دعابة وإخوانيات غاية في الروعة ورقة المشاعر. فقد خرج ذات مرة مع بعض إخوته من عيال الشيخ عليْ التوم منهم الراحل إبراهيم فقال شاعرنا الفحل، عندما اشتد عليهم البرد في منطقة الجزو:

يا أبراهيم أخوي البرد قابلنا

والبنريدو من شوفة فريقو أزمنا

أخيرلك برية العرافو مال وأتنى

ولا الحجلو بعد النومة يأخد رنا

المرحوم جامع علي التوم أجاد الشعر في إبله التي كان يسميها بنات دعتورة ومن ذلك قوله:

بت دعتورة ما بترضى العفن والردا

بدور تاني بي ود اللبيب الصدا

مما جاتهن هبيب السافل المنقدا

جني ود جودة عايط للقبيلي وشدا

عرف الشيخ جامع علي التوم بحبه للإبل وكان يهدي منها الأصائل لأصحابه ومعارفه بلا منٍ أو أذى فهو مضرب المثل في الكرم والجود. وقد رثاه نفر من الشعراء بما هو أهل له فقد قال فيه الشاعر الشاب والمجيد الهندي خير الله:

رحل فخر البوادي اللعرب تقالا

شيخ جامع دليل الرابعت وقالا

كم لله كلمات الشكر حقالا

عقباتن تَخوّف فوق هميم شقالا

التقيت المغفور له بإذن الله تعالى، جامع علي التوم، أخر مرة عند زيارته للرياض حيث احتفى به أبناء الكبابيش حفاوة تليق بمقامه، ومع أنه تقدمت به السن، إلا إنه كان بذات السمت الجميل والحضور الراقي والمتميز والشخصية المرحة فحدثنا عن مواضيع شتى عن دار الريح ورجالها وباديتها وتحدثت معه عن تلك المرثية الفريدة التي كتبها عن جمله ود إبل الملوك ويقول فيها:

يا شيخ العرب ما جانا خبر شوم

غرارة أم قدود غشاشة وما بتدوم

شالت الحر مأصل من نعم دلدوم

هلا ودوبا يا ود ناقة النمير سلّوم

وقد منحني هذه القصيدة وقال لي بالحرف الواحد: "لو جملي ود أبل الملوك ما مات كان دفعته ليك" ولكن أهديك هذه القصيدة، ولذلك تجدني أفتخر بأنني أمتلك حقوق الملكية الفكرية في هذه الدرة اليتيمة، وله مني أجزل الشكر وطيب الدعوات الصالحات.

لقد كان شيخنا الراحل جامع علي التوم، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، فارساً مقداماً لا يشق له غبار، ورجل مواقف ومبادئ لا تزحزحه عاديات الليالي والأحداث العابرة ولا تغيره تقلبات الدهر، وأنا إذ أعزي فيه نفسي وأسرته وأهلنا الكبابيش عموماً أقول فيه:

رحل ضو القبيلة الكان للعرب ركازا

رحل يا حليلو سند الهاكعة وخريف الرازا

رحل جامعنا الخيرو وافر والمكارم حازا

خلا بت دعتورة ترزم ضاقت عليها مفازا

gush1981@hotmail.com

 

آراء