رقة الخطاب الديمقراطي حقيقة و مجاز ، وداعاً أندريه أوربانتشيك
د. أمجد إبراهيم سلمان
22 June, 2024
22 June, 2024
بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
تخلق المهاجر في الإنسان حنيناً دافقاً للعودة إلى وطن مثالي متخيل و منزّه عن العيوب ، لذا فإن الأخبار التي تصل إلى المرء عبر البريد من بلده في سنوات الغربة تعتبر نافذة مطلّة على أخبار الأهل و البلد خاصة في الماضي حيث لم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي مثل التي نتمتع بخيرها هذه الأيام ، تلك كانت حالتنا و نحن مغتربون مع والدنا في ليبيا الذي ارتحل إليها منذ الستينيات وعاصرتها معه طفلاً و مراهقاً خلال السبيعنيات و إلى منتصف الثمانينيات طالباً في المراحل الابتدائية و المتوسطة و جزء من المرحلة الثانوية و التي اختتمتها في مدرسة المؤتمر الثانوية في أمدرمان ، كونت تلك الفترة لدي شخصياً شغفاً بالقرأة و الكتابة خاصة بالبريد حيث جمعت طوابعاً من بلدان عديدة و راسلت الأهل في السودان مراراً و كانت الردود شحيحة للغاية باستثناء خالنا الراحل عبد الرحمن عبّاس (رحوم) عليه شآبيب الرحمة و الذي كانت لي معه مودة خاصة رغم فرق السن الكبير بيننا حيث كان يبرّني برسائل خاصة في ليبيا بين الفينة و الأخرى ، كانت تشعرني بتميّز من نوع ما ، و لا زلت أحتفظ ببعض رسائله المكتوبة بخط يده. و للغرابة لا زلت أذكر عن ظهر قلب رقم صندوق بريدنا في مدينة الزاوية إلى الآن و هو 15411 و الذي احتفظ به والدي طيلة 31 عاما بين العام 1965 و العام 1996 أمضاها في تلك البلاد الطيب أهلها.
في أكتوبر من العام 1988 ارتحلت إلى دولة بولندا طالباً للعلم ، و في نهايات دراستي الطبية و بالتحديد في ديسمبر من العام 1995 ، كانت دولة بولندا حينها قد أكملت انتخاباتها الرئاسية الثانية في 19 نوفمبر 1995 , و فاز حينها مرشح اليسار الإجتماعي الرئيس ألكساندر كفاشنيفسكي متغلباً على الرئيس العمّالي ليش فاليسا (بالبولندية ليخ فاونسا) ، و قد كان فاليسا رئيس أول حكومة ينتخب ديمقراطيا بعد سقوط النظام الشيوعي في بلدان شرق أوروبا ، و هو القائد التاريخي لنقابة العمّال البولندية "تضامن" (سوليدارنوشت) التي كانت رأس الرمح في الإطاحة بالنظام الشيوعي القاهر و هي تجمع مهني أقرب إلى تجمع المهنيين السودانيين الذي قام بدور مشابه في إسقاط نظام البشير ، بعيد تلك الانتخابات كانت هناك حوارات عميقة حول نضوج التجربة الديمقراطية في تلك البلاد بحيث أن سكانها قنطوا من شعبوية اليمين و أصابهم الخجل من أن يمثّل بلادهم الديماجوجي ليش فاليسا مع أنه كان بطل التخلص من النظام الشيوعي ، و هي البلاد التي قدمت العديد من العلماء و الأدباء للإنسانية مثل عالم الفلك نيكولاي كوبرنيكوس الذي اكتشف دوران الأرض حول الشمس و ليس العكس و مدام ماري سكوادوفسكا كيري حاملة جائزة نوبل للفيزياء الفرنسية الجنسية البولندية الأصل و الموسيقار العالمي شوبان و غيرهم كثيرون ، و بسبب أخطاء فاليسا الكارثية في الحكم و في مساجلات الانتخابات المتلفزة ، صوّت نفس البولنديون الذين حملوه إلى سدة الحكم لصالح غريمه كفاشنيفسكي ، و حدث له ما حدث لرئيس تيمور الشرقية خوزيه راموس هورتا حيث أنتخب رئيساً في العام 2007 و حرمه شعبه نفسه من فترة رئاسية أخرى بالتصويت لغريمه في العام 2012.
في أمسية ديسمبرية من بدايات العام 1995 كنت أتابع برنامجاً تلفزيونياً حول نتائج انتخابات بولندا و كان الضيوف يمثلون عدة أطياف من الأحزاب السياسية ، في تلك الليلة لفت نظري سياسي و برلماني بولندي اسمه أندريه اوربانتشيك (بالبولندية ينطق اسم أندريه ، آندجي)، حيث كان يحاور ممثلاً لحزب يميني اسمه (الجبهة المسيحية القومية) ، و كنّا كطلاب سودانيين نسخر من اسم ذلك الحزب و ممارساته في التجارة بالدين حيث كنا نطلق عليه اسم كيزان بولندا (كان اسم حزب الاخوان في السودان في ذلك الزمن الجبهة الاسلامية القومية) ، و بعد أن أرغد و أزبد ممثل اليمين الشعبوي رد عليه النائب البرلماني أوربانتشيك رداً مرتبا و متماسكاً مفنداً دعاويه الضعيفة ، و لشدة إعجابي برده قمت في اليوم التالي بكتابة رسالة مطولة له عبرت فيها عن تقديري لطريقة ممارسة حزبه السياسة باحترافية بعيداً عن الغوغائية و الهتاف الأجوف ، و تمنيت له و لبلاده بولندا و لرئيسها المنتخب حديثاً كل التوفيق و التقدم ، و عنونت الرسالة له مستخدماً اسمه و صفته البرلمانية و عنوان البرلمان البولندي في العاصمة وارسو. من نافلة القول أن حزب الجبهة المسيحية القومية البولندي تم حلّه رسمياً في العام 2010.
بعد عدة أيام و أنا أدخل السكن الطلابي متجهاً إلى المصعد أن أستوقفني موظف الاستقبال ليخبرني بوجود رسالة مهمة في صندوق بريدي ، أخذت منه الرسالة على عجل و قرأت العنوان فوجدت أنها رسالة رسمية من البرلماني البولندي أوربانتشيك بتاريخ 28 ديسمبر 1996 (صورة الظرف و مرفقة) ، لأول وهلة لم أصدق أن الرجل الذي لا تجمعني به سابق معرفة و مع مسئولياته البرلمانية المتعددة يمكن أن يكلّف نفسه عناء أن يكتب لي بخط يده رسالة بهذه الصيغة الودودة و اللغة الرفيعة فإلى ترجمة الرسالة ، (صورة الرسالة مرفقة لمن يتقنون اللغة البولندية).
"سيدي المحترم جدًا
أشكرك جزيل الشكر على رسالتك و على كلماتك اللطيفة ، رأي سيادتكم عن أسلوب ممارسة الحوار من قبل الجماعة السياسية التي أنتمي إليها يعتبر في تقديري رأياً قيّماً للغاية ، يبدو لي و بما أنك تنتمي فكرياً لتيار الديمقراطية الاجتماعية ، و لأنك و كمتابع للشأن البولندي دون أن يؤثر عليك المحمول التاريخي النفسي لخلافاتنا الموروثة فإنني أعتقد أن تقييمك السياسي سيكون موضوعياً لحد بعيد.
أتمنى لسيادتكم التوفيق في الدراسة و التوفيق في مستقبلكم المهني في موطنكم الأم . إنه لمن دواعي سروري أنه في تلك البلاد البعيدة سيكون لرئيسنا وحزبه السياسي في شخصكم متعاطفا حقيقياً ومتابعاً حصيفاً.
لك تحياتي ، أندريه أوربانتشيك "
ظللت أتابع بعد سفري من بولندا أتابع أخبارها و تطور تجربتها الديمقراطية الوليدة ، خلال السنوات التي تلت ، و قد رسّخت دولة بولندا الممارسة الديمقراطية فيها عبر عدة انتخابات برلمانية ، حكمت فيها تيارات سياسية مختلفة من حكومات اليسار الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء جوزيف أوليكسي في منتصف التسعينات إلى حكم الليبراليين البولنديين بقيادة السياسي المحنك دونالد توسك و الذي وصل إلى درجة ترأس مجلس الاتحاد الأوروبي لمدة 5 سنوات 2014 - 2019 ، و عاد مرة أخرى لرئاسة حكومة بلاده في 13 ديسمبر 2023 بعد أن أبحرت في بحار الشعبوية الخطرة بقيادة الإخوة كاتشينسكي.و ذلك للعودة بها إلى جادة الصواب و المعقولية الديمقراطية . و لتسليط بعض الضوء على أهمية الديمقراطية في رفعة شأن البلاد و العباد ، فإن حجم إقتصاد بولندا انتقل من 65 مليار دولار في العام 1989 إلى 1.8 تريليون دولار في العام 2023، ما يجعلها قريبة جداً من حجم الأقتصاد السعودي الذي يبلغ 2.3 تريليون دولار ، وقد نمى الاقتصاد البولندي بنسبة 826% خلال الفترة ما بين 1989 و 2018 مما رفع البلاد لأن تصل إلى الاقتصاد رقم 21 في العالم اليوم ، و هذا يوضح أهمية الاستقرار السياسي و الاجتماعي في تحقيق التنمية ، وأهمية بناء دولة المؤسسات و ترسيخ التداول السلمي للسلطة.
بالعودة إلى النائب آندريه أوربانتشيك و الذي علمت بمحض الصدفة قبل بضعة سنوات أنه فارق الحياة غرقاً أثناء عطلته الصيفية في إحدى الجزر اليونانية يوم 7 أغسطس من العام 2001 ، و أوربانتشيك المولود يوم في مدينة لوبلينيتس في الجنوب البولندي درس الاقتصاد في جامعة كراكوف و هي من أعرق الجامعات الأوروبية متخرجا في العام 1972 و عمل صحفياً لعدة سنوات ، وكان عضواً في حزب العمال البولندي الموحد (الحزب الشيوعي الحاكم آنذاك) منذ تخرجه من الجامعة ، الحزب الذي تحول بعد حلّه إلى تحالف اليسار الديمقراطي بعد سقوط النظام الشيوعي ، و تم انتخاب أوربانتشيك نائباً برلمانيا عن ذلك الحزب عن مدينة كراكوف في جنوب البلاد منذ العام 1993 و حتى رحيله المبكر في العام 2001 ، في خطابات نعيّه نقرأ أنه كان مفكراً سياسياً متميزاً و منفتحاً على متغيرات العصر ، و كان من المتوقع له مستقبلاً سياسياً و فكرياً مشرقاً لكن يد المنون كانت أسبق فأنهت حياته غرقاً بعيداً عن بلاده التي أحب.
عندما نتأمل مسيرة العديد من دول العالم حولنا في طموحها المشروع نحو التقدم و الاستقرار ، نجد أن الحكم المدني و الحرية و الديمقراطية و النزاهة هي مفتاح النمو ، و أن الحكم الديمقراطي المدني ليس ترفاً نخبوياً بل هو ضرورة أساسية لوضع أي بلاد في المسار الصحيح في تلمّس ملامح المستقبل ، و رغم أن بلادنا ترزح حالياً تحت ألم جنجويد دمويين متفلتين و جنرالات محدودي الأفق و التفكير السياسي ، جنرالات يحركهم كالأراجوزات أغنياء حروب (مثل علي كرتي) من قيادات الإخوان المسلمين المهووسين بالعودة إلى السلطة عبر تأجيج الحروب ، إلا أن بلادنا ستخرج من وهدتها هذه قويّة و مفعمة بالحيوية مهما طال الزمن ، لأن بذور الحرية و الديمقراطية التي غرستها ثلاثة ثورات مجيدة تمد جذورها عميقاً في تربة بلادنا الخصبة فإنها ستثمر أشجاراً ستستوي على عودها قريباً ، و إنني أرى حكماً رشيداً قادماً رغم قتامة المشهد و حالة اليأس التي تنتابنا جميعاً ، فالشعوب لا تموت ، يذهب معذبوها و طغاتها إلى أضابير التاريخ مثل موسوليني في إيطاليا و هتلر في المانيا و فرانكو في أسبانيا ، و تشارلس تايلور في ليبيريا و غيرهم كُثُر.. بينما تعود شعوبهم أقوى و بلادهم أنضر، تساهم بصدق مع رصفائها في الدولة الديمقراطية في رفعة الحضارة الإنسانية.
أمجد إبراهيم سلمان
الجمعة 21 يونيو 2024
amjadnl@yahoo.com
whatsapp 0031642427913
تخلق المهاجر في الإنسان حنيناً دافقاً للعودة إلى وطن مثالي متخيل و منزّه عن العيوب ، لذا فإن الأخبار التي تصل إلى المرء عبر البريد من بلده في سنوات الغربة تعتبر نافذة مطلّة على أخبار الأهل و البلد خاصة في الماضي حيث لم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي مثل التي نتمتع بخيرها هذه الأيام ، تلك كانت حالتنا و نحن مغتربون مع والدنا في ليبيا الذي ارتحل إليها منذ الستينيات وعاصرتها معه طفلاً و مراهقاً خلال السبيعنيات و إلى منتصف الثمانينيات طالباً في المراحل الابتدائية و المتوسطة و جزء من المرحلة الثانوية و التي اختتمتها في مدرسة المؤتمر الثانوية في أمدرمان ، كونت تلك الفترة لدي شخصياً شغفاً بالقرأة و الكتابة خاصة بالبريد حيث جمعت طوابعاً من بلدان عديدة و راسلت الأهل في السودان مراراً و كانت الردود شحيحة للغاية باستثناء خالنا الراحل عبد الرحمن عبّاس (رحوم) عليه شآبيب الرحمة و الذي كانت لي معه مودة خاصة رغم فرق السن الكبير بيننا حيث كان يبرّني برسائل خاصة في ليبيا بين الفينة و الأخرى ، كانت تشعرني بتميّز من نوع ما ، و لا زلت أحتفظ ببعض رسائله المكتوبة بخط يده. و للغرابة لا زلت أذكر عن ظهر قلب رقم صندوق بريدنا في مدينة الزاوية إلى الآن و هو 15411 و الذي احتفظ به والدي طيلة 31 عاما بين العام 1965 و العام 1996 أمضاها في تلك البلاد الطيب أهلها.
في أكتوبر من العام 1988 ارتحلت إلى دولة بولندا طالباً للعلم ، و في نهايات دراستي الطبية و بالتحديد في ديسمبر من العام 1995 ، كانت دولة بولندا حينها قد أكملت انتخاباتها الرئاسية الثانية في 19 نوفمبر 1995 , و فاز حينها مرشح اليسار الإجتماعي الرئيس ألكساندر كفاشنيفسكي متغلباً على الرئيس العمّالي ليش فاليسا (بالبولندية ليخ فاونسا) ، و قد كان فاليسا رئيس أول حكومة ينتخب ديمقراطيا بعد سقوط النظام الشيوعي في بلدان شرق أوروبا ، و هو القائد التاريخي لنقابة العمّال البولندية "تضامن" (سوليدارنوشت) التي كانت رأس الرمح في الإطاحة بالنظام الشيوعي القاهر و هي تجمع مهني أقرب إلى تجمع المهنيين السودانيين الذي قام بدور مشابه في إسقاط نظام البشير ، بعيد تلك الانتخابات كانت هناك حوارات عميقة حول نضوج التجربة الديمقراطية في تلك البلاد بحيث أن سكانها قنطوا من شعبوية اليمين و أصابهم الخجل من أن يمثّل بلادهم الديماجوجي ليش فاليسا مع أنه كان بطل التخلص من النظام الشيوعي ، و هي البلاد التي قدمت العديد من العلماء و الأدباء للإنسانية مثل عالم الفلك نيكولاي كوبرنيكوس الذي اكتشف دوران الأرض حول الشمس و ليس العكس و مدام ماري سكوادوفسكا كيري حاملة جائزة نوبل للفيزياء الفرنسية الجنسية البولندية الأصل و الموسيقار العالمي شوبان و غيرهم كثيرون ، و بسبب أخطاء فاليسا الكارثية في الحكم و في مساجلات الانتخابات المتلفزة ، صوّت نفس البولنديون الذين حملوه إلى سدة الحكم لصالح غريمه كفاشنيفسكي ، و حدث له ما حدث لرئيس تيمور الشرقية خوزيه راموس هورتا حيث أنتخب رئيساً في العام 2007 و حرمه شعبه نفسه من فترة رئاسية أخرى بالتصويت لغريمه في العام 2012.
في أمسية ديسمبرية من بدايات العام 1995 كنت أتابع برنامجاً تلفزيونياً حول نتائج انتخابات بولندا و كان الضيوف يمثلون عدة أطياف من الأحزاب السياسية ، في تلك الليلة لفت نظري سياسي و برلماني بولندي اسمه أندريه اوربانتشيك (بالبولندية ينطق اسم أندريه ، آندجي)، حيث كان يحاور ممثلاً لحزب يميني اسمه (الجبهة المسيحية القومية) ، و كنّا كطلاب سودانيين نسخر من اسم ذلك الحزب و ممارساته في التجارة بالدين حيث كنا نطلق عليه اسم كيزان بولندا (كان اسم حزب الاخوان في السودان في ذلك الزمن الجبهة الاسلامية القومية) ، و بعد أن أرغد و أزبد ممثل اليمين الشعبوي رد عليه النائب البرلماني أوربانتشيك رداً مرتبا و متماسكاً مفنداً دعاويه الضعيفة ، و لشدة إعجابي برده قمت في اليوم التالي بكتابة رسالة مطولة له عبرت فيها عن تقديري لطريقة ممارسة حزبه السياسة باحترافية بعيداً عن الغوغائية و الهتاف الأجوف ، و تمنيت له و لبلاده بولندا و لرئيسها المنتخب حديثاً كل التوفيق و التقدم ، و عنونت الرسالة له مستخدماً اسمه و صفته البرلمانية و عنوان البرلمان البولندي في العاصمة وارسو. من نافلة القول أن حزب الجبهة المسيحية القومية البولندي تم حلّه رسمياً في العام 2010.
بعد عدة أيام و أنا أدخل السكن الطلابي متجهاً إلى المصعد أن أستوقفني موظف الاستقبال ليخبرني بوجود رسالة مهمة في صندوق بريدي ، أخذت منه الرسالة على عجل و قرأت العنوان فوجدت أنها رسالة رسمية من البرلماني البولندي أوربانتشيك بتاريخ 28 ديسمبر 1996 (صورة الظرف و مرفقة) ، لأول وهلة لم أصدق أن الرجل الذي لا تجمعني به سابق معرفة و مع مسئولياته البرلمانية المتعددة يمكن أن يكلّف نفسه عناء أن يكتب لي بخط يده رسالة بهذه الصيغة الودودة و اللغة الرفيعة فإلى ترجمة الرسالة ، (صورة الرسالة مرفقة لمن يتقنون اللغة البولندية).
"سيدي المحترم جدًا
أشكرك جزيل الشكر على رسالتك و على كلماتك اللطيفة ، رأي سيادتكم عن أسلوب ممارسة الحوار من قبل الجماعة السياسية التي أنتمي إليها يعتبر في تقديري رأياً قيّماً للغاية ، يبدو لي و بما أنك تنتمي فكرياً لتيار الديمقراطية الاجتماعية ، و لأنك و كمتابع للشأن البولندي دون أن يؤثر عليك المحمول التاريخي النفسي لخلافاتنا الموروثة فإنني أعتقد أن تقييمك السياسي سيكون موضوعياً لحد بعيد.
أتمنى لسيادتكم التوفيق في الدراسة و التوفيق في مستقبلكم المهني في موطنكم الأم . إنه لمن دواعي سروري أنه في تلك البلاد البعيدة سيكون لرئيسنا وحزبه السياسي في شخصكم متعاطفا حقيقياً ومتابعاً حصيفاً.
لك تحياتي ، أندريه أوربانتشيك "
ظللت أتابع بعد سفري من بولندا أتابع أخبارها و تطور تجربتها الديمقراطية الوليدة ، خلال السنوات التي تلت ، و قد رسّخت دولة بولندا الممارسة الديمقراطية فيها عبر عدة انتخابات برلمانية ، حكمت فيها تيارات سياسية مختلفة من حكومات اليسار الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء جوزيف أوليكسي في منتصف التسعينات إلى حكم الليبراليين البولنديين بقيادة السياسي المحنك دونالد توسك و الذي وصل إلى درجة ترأس مجلس الاتحاد الأوروبي لمدة 5 سنوات 2014 - 2019 ، و عاد مرة أخرى لرئاسة حكومة بلاده في 13 ديسمبر 2023 بعد أن أبحرت في بحار الشعبوية الخطرة بقيادة الإخوة كاتشينسكي.و ذلك للعودة بها إلى جادة الصواب و المعقولية الديمقراطية . و لتسليط بعض الضوء على أهمية الديمقراطية في رفعة شأن البلاد و العباد ، فإن حجم إقتصاد بولندا انتقل من 65 مليار دولار في العام 1989 إلى 1.8 تريليون دولار في العام 2023، ما يجعلها قريبة جداً من حجم الأقتصاد السعودي الذي يبلغ 2.3 تريليون دولار ، وقد نمى الاقتصاد البولندي بنسبة 826% خلال الفترة ما بين 1989 و 2018 مما رفع البلاد لأن تصل إلى الاقتصاد رقم 21 في العالم اليوم ، و هذا يوضح أهمية الاستقرار السياسي و الاجتماعي في تحقيق التنمية ، وأهمية بناء دولة المؤسسات و ترسيخ التداول السلمي للسلطة.
بالعودة إلى النائب آندريه أوربانتشيك و الذي علمت بمحض الصدفة قبل بضعة سنوات أنه فارق الحياة غرقاً أثناء عطلته الصيفية في إحدى الجزر اليونانية يوم 7 أغسطس من العام 2001 ، و أوربانتشيك المولود يوم في مدينة لوبلينيتس في الجنوب البولندي درس الاقتصاد في جامعة كراكوف و هي من أعرق الجامعات الأوروبية متخرجا في العام 1972 و عمل صحفياً لعدة سنوات ، وكان عضواً في حزب العمال البولندي الموحد (الحزب الشيوعي الحاكم آنذاك) منذ تخرجه من الجامعة ، الحزب الذي تحول بعد حلّه إلى تحالف اليسار الديمقراطي بعد سقوط النظام الشيوعي ، و تم انتخاب أوربانتشيك نائباً برلمانيا عن ذلك الحزب عن مدينة كراكوف في جنوب البلاد منذ العام 1993 و حتى رحيله المبكر في العام 2001 ، في خطابات نعيّه نقرأ أنه كان مفكراً سياسياً متميزاً و منفتحاً على متغيرات العصر ، و كان من المتوقع له مستقبلاً سياسياً و فكرياً مشرقاً لكن يد المنون كانت أسبق فأنهت حياته غرقاً بعيداً عن بلاده التي أحب.
عندما نتأمل مسيرة العديد من دول العالم حولنا في طموحها المشروع نحو التقدم و الاستقرار ، نجد أن الحكم المدني و الحرية و الديمقراطية و النزاهة هي مفتاح النمو ، و أن الحكم الديمقراطي المدني ليس ترفاً نخبوياً بل هو ضرورة أساسية لوضع أي بلاد في المسار الصحيح في تلمّس ملامح المستقبل ، و رغم أن بلادنا ترزح حالياً تحت ألم جنجويد دمويين متفلتين و جنرالات محدودي الأفق و التفكير السياسي ، جنرالات يحركهم كالأراجوزات أغنياء حروب (مثل علي كرتي) من قيادات الإخوان المسلمين المهووسين بالعودة إلى السلطة عبر تأجيج الحروب ، إلا أن بلادنا ستخرج من وهدتها هذه قويّة و مفعمة بالحيوية مهما طال الزمن ، لأن بذور الحرية و الديمقراطية التي غرستها ثلاثة ثورات مجيدة تمد جذورها عميقاً في تربة بلادنا الخصبة فإنها ستثمر أشجاراً ستستوي على عودها قريباً ، و إنني أرى حكماً رشيداً قادماً رغم قتامة المشهد و حالة اليأس التي تنتابنا جميعاً ، فالشعوب لا تموت ، يذهب معذبوها و طغاتها إلى أضابير التاريخ مثل موسوليني في إيطاليا و هتلر في المانيا و فرانكو في أسبانيا ، و تشارلس تايلور في ليبيريا و غيرهم كُثُر.. بينما تعود شعوبهم أقوى و بلادهم أنضر، تساهم بصدق مع رصفائها في الدولة الديمقراطية في رفعة الحضارة الإنسانية.
أمجد إبراهيم سلمان
الجمعة 21 يونيو 2024
amjadnl@yahoo.com
whatsapp 0031642427913