“روبنسون كروزو” مهدت الطريق للاستعمار

د. أحمد جمعة صديق

يمكن أن تختلف وجهة نظر القراء حول رواية "روبنسون كروزو" لدانيال ديفو - وخاصة القاريء الافريقي بشكل كبير اعتماداً على التجارب الفردية والخلفيات الثقافية والتفسيرات كرواية عنصرية معقدة. ولكي نتعمق في هذه النقطة الرئيسية، يجب علينا فحص السياق التاريخي وتصوير العرق في الرواية، والتأثير الذي أحدثته على القراء بصورة عامة وعلى القارئ من أصل إفريقي بصورة خاصة.
• السياق التاريخي للرواية:
صدرت "روبنسون كروزو" لمؤلفها الانجليزي دانيال ديفو، في عام 1719، وهي فترة تميزت بالتوسع الاستعماري وتجارة الرق عبر الاطلنطي مع صعود الإمبريالية الأوروبية. كانت تجارة الرق العابرة للقارات على أشدها، حيث تم اختطاف ملايين الأفارقة بالقوة من أوطانهم للعمل في مزارع الأمريكتين واوربا. ويقال ان عدد الافارقة الذين هجّروا من ديارهم في افريقيا حوالي 16 مليون آدمي، رمى تجار الرقيق بنصفهم في البحر خوفاً من فساد البضاعة بسبب مظاهر المرض التي تظهر على شحنة العبيد. وقد أثرت الاتجاهات السائدة المتجذرة بعمق في ذلك الوقت، في العنصرية والأوربية، بلا شك على تصوير ديفو للشخصيات غير الأوروبية في روايته.
صورة العرق في "روبنسون كروزو"
يتم الاستشهاد بتصوير (فرايدي)، الرجل الاسود - الكاريبي الأصل الذي يلتقيه كروزو على الجزيرة، كنقطة مركزية في المناقشات حول العنصرية في الرواية. يُقدم فرايدي على أنه خادم لكروزو، يفتقر إلى الاستقلالية حتى في اختيار اسمه حيث يمنحه كروزو الاسم، ويُصوّر في البداية على أنه بري متوحش، يتكلم لغة غير مفهومة، ويظهر سلوكيات بدائية، لكن يتولى كروزو تعليمه الإنجليزية، وتحويله لتولي طقوس الديانة الميسيحية وهو مربط الفرس، وكان يرى فيه أنه خادم مخلص ومطيع. ونشات علاقة السيد بالخادم من خلال جعل الرجل الاسود البدائي ان يكون في حالة امتنان أبدي اذ قام السيد كروزو من انقاذه من المجموعة القبلية – آكلة لحوم البشر - التي كانت تطارده لتاخذه فريسة. وهذا أيضاً تنميط الجنس الابيض بوصف الغير وخاصة السود بانهم آكلي لحوم البشر وربما لا تزال هذه الصورة مختزنة بحياء في العقل الاوربي والغربي بأن هناك من البشر من يتعاطى أكل لحوم بني جلدته من البشر.
فاذا تاملنا في السردية نجد أن الديناميكية القوية بين كروزو وفرايدي غير متساوية بشكل طبيعي، مما يعكس التفكير الاستعماري السائد خلال فترة نشر الرواية، اذ يتولى كروزو دور السيد الخير، بينما يُخصص لفرايدي موقعه كتابع لهذا السيد، مجرداً من هويته وثقافته وكما قلنا سابقاً حتى من اسمه اذ لم يتحرى السيد من اسم التابع ليعطيه اسماً بديل من عنده، وهذه رمزية في سلب الهوية بصورة كاملة من هذا التابع. هذا التصوير يواصل ترسيخ الصور النمطية الضارة حول الشعوب غير الأوروبية بوسمها بأنها أقل قيمة وبحاجة إلى إرشاد وسيطرة أوروبية على الدوام. ففي كل الاحوال تكون اليد البيضاء هي يد المحسن وهي اليد العليا واليد الأخرى هي السفلى وهي يد الشحاذ. وتأخذ هذه الصورة النمطية مسارها على مدي تاريخ في تأصيل العلاقة بين الاسود والابيض. ويمكن أن نعزز هذه الفرضية باقتباس من البرت شفيايتزر الذي يرى في الاسود كائن يحتاج الى الرعاية الدائمة من الانسان الابيض. ويقول شيفايتزر لابد أن يفهم الاسود هذه الوضعية وهي (أننا أخوان ولكن أنا أخوك الاكبر) وهذا تكريس دائما للتبعية بناء على الفوقية البيضاء والدونية السوداء.
تعزز السردية للرواية مفهوم التفوق الأوروبي، حيث يُنسب نجاح كروزو في نهاية المطاف إلى ذكائه، وقدرته على الابتكار، وإيمانه المسيحي. على عكس ذلك، تُصوّر الشعوب الأصلية التي يواجهها كروزو بأنها بدائية وغير متحضرة، موجودة فقط كعقبات يجب التغلب عليها أو القبول بهم كأفرادمحتملين للتحول إلى المسيحية. ويظل الجانب المضئ في هذه الرواية هوالجانب التربوي منها في تلك الجزئية التي تتعلق بقدرة الانسان في التأقلم على البيئة التي يعيش فيها رغم قساوتها وغرابتها.
وتقدم الرواية السيد روبنسون كروزو كانسان ذكي وقوي وشجاع استطاع ان يتدبر امره في ذلك المنفى البعيد عن الحضارة. فقد استطاع أن يسخر الطبيعة ويحتال عليها فبنى مأوى يقيه من غائلات الطقس العدائي للجزيرة من حر وبرد ومطر ويبعد عنه تطفل الحيوانات المفترسة والتي ربما تهاجمه على حين غرة. وتقف رمزية المأوي كرديف لرمزية استعمار المكان وتطويعه لخدمة الفرد. كما استطاع ان يخلق علاقات موازية مع عناصر الطبيعة الاخرى كاستئناس الحيوان كمصدر للغذاء والكساء في الافادة من اللبن واللحوم والجلود. كذلك نجح في استئناس بعض المحاصيل التي تنمو في تربة تلك الجزيرة النائية.
• أثر الرواية على القارئ الاسود:
يمكن لرواية"روبنسون كروزو" أن تثير مشاعر الاستياء والإحباط التي تصيب قراء الرواية من أصل إفريقي. ويُعزى تصوير الرواية لشخصية فرايدي وشخصيات غير أوروبية أخرى إلى تعزيز الصور النمطية الضارة وتعزيز تراث الاستعمار والعنصرية التي لا تزال تؤثر على الأشخاص من أصل إفريقي حتى اليوم.
يمكن ان تقدم الرواية كتذكير مؤلم بالظلم التاريخي الذي ارتكب ضد المجتمعات الأفريقية والأصلية. فمن خلال تقديم استعمار الأراضي الأجنبية كمشروع نبيل قام به أوروبيون شجعان، تُخفي رواية "روبنسون كروزو" العنف والاستغلال والمعاناة التي تعرضت لها الشعوب المستعمرة ولكنها تعطي المبرر باستعمار تلك الشعوب والسيطرة عليها واستغلال اراضيها لصالح الجنس الابيض ذي اليد العليا. شرعنت الرواية للمستعمرين على اتخاذ تلك الخطوة واعطت المبررات الكافية لذلك، في ان مهمة الانسان الابيض ان ينتشل تلك الشعوب من بدائيتها بادخالها الى العالم المتحضر من خلال منظورهم الآحادي لمفهوم الثقافة والحضارة كمضادين للجهل والبدائية في الجانب الآخر من العالم. رواية دانيال ديفو اعطت وثيقة تبرير لكل افعال المستعمرين في العالم.
وبالإضافة إلى طرح تصوراتها العرقية، تعكس "روبنسون كروزو" أيضاً الرؤية الأوروبية المركزية السائدة خلال فترة نشرها، فتُرسخ أسطورة التفوق الأوروبي ومفهوم "المهمة المدنية أو الحضارية" للجنس الأبيض، حيث تبرر للقوى الأوروبية استعمارها للأراضي غير الأوروبية كوسيلة لنشر الحضارة والتنوير للشعوب التي يسمونها بالتخلف والبربرية.
ونستخلص من كل ذلك ان هناك الكثير مما يبرر راي السود في ان "روبنسون كروزو" رواية عنصرية في السياق التاريخي لها، وتصويرها للجنس غير الابيض، وتأثيرها السلبي على قرائئها من أصل إفريقي. يعكس تصوير الرواية للشخصيات غير الأوروبية، وخاصة فرايدي، الصور النمطية الضارة ويعزز تراث الاستعمار والعنصرية. وبالنسبة للقراء من أصل إفريقي، يمكن أن تكون مواجهة "روبنسون كروزو" تجربة مزعجة، حيث تكون تذكيرًا بالظلم التاريخي الذي ارتكب ضد المجتمعات الأفريقية والأصلية. لذا، من الضروري فحص وتحدي السرد العنصري الحاضر في الأدب كما يظهر في روايةمثل "روبنسون كروزو".
• الجوانب التعليميمة
ولكن من زاوية اخرى ينمكن ان نرى الجوانب المضيئة في رواية "روبنسون كروزو" لدانيال ديفو اذ تقدم جوانب تعليمية متنوعة تتفاعل مع القراء من أجيال مختلفة. تتضمن هذه الجوانب مواضيع البقاء والمرونة والاعتماد على الذات والتكيف والاستكشاف والاستعمار وشئ من الروحانيات. ويمكن ان نرى تفاصيل بعض الجوانب التعليمية والتربوية في هذه الرواية:
• البقاء والمرونة
أحد المواضيع المركزية في "روبنسون كروزو" هو القدرة على البقاء ومواجهة كل الصعاب. توضح قدرة كروزو على التكيف والابتكار في التأقلم مع الحياة على جزيرة مهجورة، دروساً قيمة في المرونة وحل المشكلات. فقدرته على التغلب على التحديات العديدة، بما في ذلك الوحدة والعزلة والكوارث الطبيعية، تعلم القراء أهمية الإصرار والعزيمة في مواجهة الصعاب.
• الاعتماد على الذات والاستقلالية:
تسلط الرواية الضوء على تحول كروزو من تاجر اوربي مترف إلى غريق ناج يعتمد على نفسه، مما يعزز فضيلة الاعتماد على الذات والاستقلالية. فمن خلال تجاربه على الجزيرة، يتعلم أن يعتمد على مهاراته وقدراته الخاصة بدلاً من الاعتماد على الآخرين في رفاهيته. تشجع هذا الجانب من الرواية القراء على تحمل المسؤولية والمبادرة في حياتهم الخاصة.
• التكيف والمرونة:
يوضح انتقال كروزو بين تحديات الحياة على الجزيرة، أهمية التكيف والمرونة. فقد تعلم التكيف مع بيئته، واستخدام أدواته وتقنياته لتلبية احتياجاته الأساسية. يؤكد هذا الجانب من الرواية قيمة ان يكون الفرد مستعدًا للتغيير وعلى استعداد لتعديل نهجه من أجل النجاح.
• الاستكشاف والاكتشاف:
يسهم استكشاف كروزو للجزيرة ولقائه بظواهر طبيعية مختلفة في تعزيز الإحساس بالفضول والاكتشاف واكتساب المعرفة. وتعكس مراقباته وتجاربه مع العناصر الطبعية من حوله رغبة الإنسان في استكشاف وفهم العالم. يشجع هذا الجانب من الرواية القراء على اعتناق فضيلة الفضول والانطلاق في رحلات استكشاف واكتشاف خاصة بهم.
• الاستعمار والإمبريالية:
في حين يتم الاحتفاء عادة بـ "روبنسون كروزو" بعناصرها في المغامرة والبقاء، إلا أنها تثير أيضاً أسئلة هامة حول الاستعمار والإمبريالية. يدفع استعمار كروزو للجزيرة وتفاعلاته مع الشعوب الأصلية القراء إلى التفكير في الآثار الأخلاقية للتوسع الأوروبي والسيطرة. يدعو هذا الجانب من الرواية إلى التأمل النقدي في ديناميات السلطة والتبادل الثقافي.
• الروحانية والإيمان:
ظل كروزو في صراعه مع مسائل الإيمان والميثاق الإلهي طوال محنته. كانت معتقداته الدينية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل نظرته إلى الحياة ونهجه في مواجهة التحديات. يستكشف هذا الجانب من الرواية مواضيع الإيمان والتكفير والبحث عن معنى للحياة في وسط الصعاب.
وبصورة عامة، تقدم رواية "روبنسون كروزو" للقراء نسيجاً غنياً من الجوانب التعليمية التي تتجاوز كونها عن المغامرة والبقاء. ومن دروس المرونة والاعتماد على الذات إلى التفكير في استعمار الارض والروحانية، تستمر الرواية في إلهام القراء لاستكشاف أعماق تجربة الإنسان وتعقيدات العالم من حولهم لتعزيز فهم أكثر شمولًا وعادلاً للتاريخ والمجتمع.




aahmedgumaa@yahoo.com