زيارة اخرى للتاريخ: من الانحطاط الهيجلي الى دورة حضارية جديدة (١)
د. عمرو محمد عباس محجوب
28 June, 2023
28 June, 2023
في اخر جمعة لتحركات ٢٠١٣ شاركت في موكب بدأ من الثورات ماراً بالشهداء امدرمان للعرضة وشارع الاربعين. لم يكن هناك هدف محدد ولا احد يعلم لاين يذهب الموكب. حوصرنا بين ارتكاز بجوار الكهرباء امدرمان وخور ابو عنجة والقي وابل من البمبان وتفرق الجمع بالدخول بين المنازل والازقة. عندما عدت راجعاً بشارع الاربعين وتوقفت مع ارتكاز ابو عنجة وتحدثت مع افرادها. قالوا انهم حضروا من شندي ويبدوا عليهم انهم من ابناء منطقة نهر النيل، من تعارف على تسميتهم "الاحجار الكريمة" من مناطق حجر الطير وحجر العسل وحتى شندي.
هناك كان لقائي لاول مرة بمجموعة من افراد سحنتهم مختلفة عن هؤلاء ولغتهم مختلفة وسلوكهم مختلف، فافراد مجموعة نهر النيل تتسم بالادب مع شخص مسن مثلي واساريرهم هادئة عكس المجموعة الاخرى التي تبدو عليهم الشراسة والضياع في انهم بعيدين عن مضاربهم. كان هذا اول التقاء لي مع ما عرفوا بالجنجويد. وبعدها كتبت عنهم في استعراض رواية بركة ساكن مسيح دارفور: انتهت مسيرة مليشيا بدأت من بوادي النيجر ومالي وتشاد للعاصمة. وصفهم عبد العزيز بركة ساكن في رواية مسيح دارفور "وتعرفهم أيضًا بلغتهم الغريبة "الضجر" وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية. ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى دولة، ليست لديهم منازل يحنُّون للعودة إليها في نهاية اليوم".
كتبت عن الجنجويد ضمن كتاب "التنوع في السودان" وسوف تكون جزءاً من المقالات ورأيت في يونيو ٢٠١٩ ان: مهما حاول حميدتي انكار تورطه في الجرائم ضد الانسانية من دارفور والدبة وحتى العاصمة، فقد التف الحبل حول عنقه وظهر بوضوح أن أي دولة مدنية وتحول ديقراطي لن تقوم لها أساس بوجوده كقوى مليشيا منظمة. الحركة الشعبية عليها انهاك وانهاك وانهاك الجنجويد حتى انهيارهم وحتى يقبلوا أن يتم التعامل معهم كمليشيا وفق الإجراءات المعيارية الدولية (تسليم السلاح، تقديم المجرمين للعدالة، تطبيق مباديء العدالة الإنتقالية ومن ثم التعامل مع الافراد من العودة لأوطانهم أو الدمج في المجتمع إذا كانوا مواطنين).
اربعة اعوام كاملة مرت قبل ان تتبنى الحركة الجماهيرية شعار الجنجويد ينحل، لكن كان الاوان قد فات. فقد تنازعت الثورة السودانية بين قحت من جهة والتغيير الجذري من جهة اخرى وشقت جسم الثورة وسمح هذا بكل العالم سواء الاقليم او العالم ان تجد موطيء قدم لتمزيق وتفتيت وتحطيم ثورة ارتعدت فرائصهم جميعا منها. ثورة تبناها الجميع ولم يقبل بها الجميع.
وجدت نفسي في هجرة ثالثة بعد هجرة ديكتاتورية النميري وديكتاتورية الانقاذ وهجمة تتار افريقيا الساحل والصحراء لعقر ديارنا وغرف نومنا ومطابخنا وسياراتنا وكل جغرافيتنا. ورغم تعودي على الهجرات فقد كانت الاخيرة مختلفة في الكم والنوع. اخذت مني الوقت وكل امكانيات التاقلم العصبي والنفسي والثقافي لاستعادة التوازن والتأمل بروية وموضوعية في زيارة معمقة للتاريخ لفهم ماحدث.
في هذه الرحلة الشاقة استمعت وقرات وسمعت ما يقال من حكايات مرعبة وتجارب انسانية ومن يحاولون اثارة الذعر والتخويف وممن يزرعون الامل وتابعت باهتمام من يحاولون ان يعيدوا نسج المنوال نفسه من بناء ما فشل في ان ينجح من قبل. لقد سقط نموذجنا الاسترشادي -البرادايم- لطرق تناولنا للشأن العام باكمله ومن المهم ان نصل لشاطيء برادايم جديد.
لقد ضرب القرآن الكريم قصص الامم الغابرة في تطورها التاريخي وقرونا قبل ذلك، وقدم هيجل سياقه الجدلي لقراءة التاريخ من الانحطاط الى بداية دورة حضارية جديدة عقبها وهو ما يبعث الامل. مجموعة المقالات هذه هدفها فهم ماحدث والتفرس في مستقبلنا.
--
Dr. Amr M A Mahgoub
omem99@gmail.com
whatsapp: +249911777842
هناك كان لقائي لاول مرة بمجموعة من افراد سحنتهم مختلفة عن هؤلاء ولغتهم مختلفة وسلوكهم مختلف، فافراد مجموعة نهر النيل تتسم بالادب مع شخص مسن مثلي واساريرهم هادئة عكس المجموعة الاخرى التي تبدو عليهم الشراسة والضياع في انهم بعيدين عن مضاربهم. كان هذا اول التقاء لي مع ما عرفوا بالجنجويد. وبعدها كتبت عنهم في استعراض رواية بركة ساكن مسيح دارفور: انتهت مسيرة مليشيا بدأت من بوادي النيجر ومالي وتشاد للعاصمة. وصفهم عبد العزيز بركة ساكن في رواية مسيح دارفور "وتعرفهم أيضًا بلغتهم الغريبة "الضجر" وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية. ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى دولة، ليست لديهم منازل يحنُّون للعودة إليها في نهاية اليوم".
كتبت عن الجنجويد ضمن كتاب "التنوع في السودان" وسوف تكون جزءاً من المقالات ورأيت في يونيو ٢٠١٩ ان: مهما حاول حميدتي انكار تورطه في الجرائم ضد الانسانية من دارفور والدبة وحتى العاصمة، فقد التف الحبل حول عنقه وظهر بوضوح أن أي دولة مدنية وتحول ديقراطي لن تقوم لها أساس بوجوده كقوى مليشيا منظمة. الحركة الشعبية عليها انهاك وانهاك وانهاك الجنجويد حتى انهيارهم وحتى يقبلوا أن يتم التعامل معهم كمليشيا وفق الإجراءات المعيارية الدولية (تسليم السلاح، تقديم المجرمين للعدالة، تطبيق مباديء العدالة الإنتقالية ومن ثم التعامل مع الافراد من العودة لأوطانهم أو الدمج في المجتمع إذا كانوا مواطنين).
اربعة اعوام كاملة مرت قبل ان تتبنى الحركة الجماهيرية شعار الجنجويد ينحل، لكن كان الاوان قد فات. فقد تنازعت الثورة السودانية بين قحت من جهة والتغيير الجذري من جهة اخرى وشقت جسم الثورة وسمح هذا بكل العالم سواء الاقليم او العالم ان تجد موطيء قدم لتمزيق وتفتيت وتحطيم ثورة ارتعدت فرائصهم جميعا منها. ثورة تبناها الجميع ولم يقبل بها الجميع.
وجدت نفسي في هجرة ثالثة بعد هجرة ديكتاتورية النميري وديكتاتورية الانقاذ وهجمة تتار افريقيا الساحل والصحراء لعقر ديارنا وغرف نومنا ومطابخنا وسياراتنا وكل جغرافيتنا. ورغم تعودي على الهجرات فقد كانت الاخيرة مختلفة في الكم والنوع. اخذت مني الوقت وكل امكانيات التاقلم العصبي والنفسي والثقافي لاستعادة التوازن والتأمل بروية وموضوعية في زيارة معمقة للتاريخ لفهم ماحدث.
في هذه الرحلة الشاقة استمعت وقرات وسمعت ما يقال من حكايات مرعبة وتجارب انسانية ومن يحاولون اثارة الذعر والتخويف وممن يزرعون الامل وتابعت باهتمام من يحاولون ان يعيدوا نسج المنوال نفسه من بناء ما فشل في ان ينجح من قبل. لقد سقط نموذجنا الاسترشادي -البرادايم- لطرق تناولنا للشأن العام باكمله ومن المهم ان نصل لشاطيء برادايم جديد.
لقد ضرب القرآن الكريم قصص الامم الغابرة في تطورها التاريخي وقرونا قبل ذلك، وقدم هيجل سياقه الجدلي لقراءة التاريخ من الانحطاط الى بداية دورة حضارية جديدة عقبها وهو ما يبعث الامل. مجموعة المقالات هذه هدفها فهم ماحدث والتفرس في مستقبلنا.
--
Dr. Amr M A Mahgoub
omem99@gmail.com
whatsapp: +249911777842