سؤال لمُجمَّع الفقه : هل تطبيق الحدود ملائم حالياً في السودان ؟ .. بقلم: بابكر فيصل بابكر
بابكر فيصل بابكر
26 July, 2012
26 July, 2012
boulkea@yahoo.com
هذا سؤال إلتقطتهُ من الحديث الذي أدلى به لقناة "النهار" الدكتور ناجح إبراهيم القيادي المعروف في الجماعة الإسلاميَّة المصريَّة التي شاركت في عملية إغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
الجماعة الإسلاميَّة المصريَّة أكبر الجماعات الجهاديَّة التي كانت تدعو للإنقلاب العنيف على حكومة " الطاغوت " من أجل إقامة الدولة الإسلاميَّة. وقد نشطت الجماعة في أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتي مطلع التسعينيات حيث شكلت تهديداً كبيراً للدولة والمجتمع والإقتصاد في مصر.
في أوج إنتشارها - خصوصاً في الصعيد - كادت الجماعة أن تصبح سلطة مستقلة " دولة داخل الدولة " بفرضها لأفكارها المتعلقة بالمرأة والإختلاط وإطلاق اللحى والغناء, والعلاقة مع الأقباط بالقوة والعنف.
كما أنها ساهمت في العديد من العمليات المسلحة وعمليات التفجير التي إستهدفت أرواح السيَّاح الغربيين, والمسئولين الحكوميين, وراح ضحيتها العديد من المواطنين الأبرياء كما أنها أشاعت أجواء الإرهاب الفكري التي أدت لإغتيال مفكرين كبار مثل الدكتور فرج فودة.
بعد خسارتها لمعركتها في مواجهة الدولة المصرية والتي إنتهت إلى فشل مشروع إقامة الحكم الإسلامي بالقوة والعنف والإنقلاب وجد الآلاف من أبناء الجماعة أنفسهم في السجون والمعتقلات والمنافي حيث قاموا في عام 1997 بإعلان مراجعات كبيرة شملت الأفكار و منهج التغيير وأسلوب الدعوة. و تحولت الجماعة بعد الثورة إلى حركة سياسية تؤمن بالمشاركة في العملية الديموقراطية.
فاجأ الدكتور ناجح إبراهيم أحد الرموز التاريخية للجماعة الإسلاميَّة الأوساط السياسية الإسبوع الماضي بتصريحات جريئة تتعلق بتطبيق الأحكام الشرعية "الحدود" في مصر في الوقت الراهن.
نقلت صحيفة "اليوم السابع" عن ناجح إبراهيم قوله لقناة "النهار" في حوار هاتفي إنَّ ( تطبيق الحدود يتحدَّد حسب طبيعة كل مجتمع ) و أنَّ ( المجتمع المصري لا يتلاءم مع تطبيق الحدود الآن ).
وأكد إبراهيم في حديثه للقناة أنَّ : ( الشعب المصري في الوقت الحالي يحتاج إلى العدل، وإرساء مبادئ العدل السياسي والعدالة الاجتماعية والحريات العامة، ثم البدء في إقرار القانون المدني ومعالجة حالات الفقر وما إلى ذلك).
وأضاف : ( تطبيق الحدود في الإسلام يأتي وفقاً للسعة المجتمعية لتحمل هذه الحدود )، شارحاً أنَّ ( كل أحكام الشريعة الإسلامية مرتبطة بالوسع الاجتماعي على قواعد صحيحة ).
وتابع إبراهيم قائلاً إنَّ ( أحكام الشريعة الإسلامية جاءت متدرجة مثل الخمر والسرقة جاء تحريمها على عدة مراحل قبل الأمر بالعقوبة من خلال القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وهذا هو التركيب الطبيعي للأمم ).
بالطبع لا يستطيع أحد المُزايدة على رموز الجماعة الإسلاميَّة ورميهم بتهمة "العلمانيَّة" فهم بعد إنقضاء أكثر من ثلاثة عقود من التجربة العملية أصبحوا أكثر قدرة على قراءة الواقع والتعامل معه.
وعندما يُرتِّب الدكتور ناجح إبراهيم الأولويات التي يحتاجها المُجتمع المصري على النحو التالي : العدل, العدالة الإجتماعيَّة, الحُريَّات العامة, القانون المدني, معالجة الفقر, ولا يضع بينها أولوية تطبيق الحدود فهذا يعني أنّ الجماعة الإسلاميَّة إنتقلت إلى خانة أكثر عصرية ومواكبة, وأنها باتت أكثر وعياً بمقاصد الشريعة, وأكثر بُعداً من طرح الشعارات الفضفاضة الخالية من المضامين.
السعة المُجتمعيَّة التي يتحدث عنها الدكتور ناجح تعني مدى تهيؤ المجتمع وقدرته على تقبل الأحكام الشرعية "الحدود", وهذا يشمل النواحي الإقتصادية والسياسية والإجتماعية, فلا يمكن على سبيل المثال قطع يد السارق في بلد تستشري فيه الأميَّة و الفقر والجوع, وتتسِّع فيه الفوارق الطبقية.
حديث الدكتور ناجح حول ترتيب الأولويات والسعة المُجتمعيَّة يقودنا مباشرة إلى موقف الحكومة السودانية التي بنت شرعيتها في الحُكم على تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميَّة وفي مقدمتها "الحدود".
واقع المُجتمع المصري أفضل كثيراً ً من المُجتمع السوداني من حيث العدل والعدالة الإجتماعية والحُريَّات العامة وإنتشار الفقر والحياة المدنية, ومع ذلك نجد أنَّ هناك عقوبات حديَّة تصدر في السودان بالجلد والرجم, و كان آخرها إصدار محكمة "أمبدة" حكماً بالموت رجماً على إمرأة تدعى انتصار شريف عبد الله في 22 أبريل الماضي.
تقول معظم الإحصاءات الإقتصادية أنَّ 90 % من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر, وأنَّ نسب العطالة تفوق ال 60 %, وقد بلغ التضخم في الشهر الماضي 37 % مع إرتفاع حاد في جميع أسعار السلع والخدمات يقابله تدهور كبير في دخل الأفراد, ومع ذلك فإنَّ الحكومة تقول أنها ستبدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية " الحدود " بدرجة أشد صرامة بعد انفصال جنوب السودان, فأين هو ترتيب الأولويات في هذا الخصوص ؟
كان النائب الأول للرئيس قد قال في خطابه أمام دورة الإنعقاد الرابعة لمُجمَّع الفقه الإسلامي أنَّ الرئيس عمر البشير يحرص على أن يمضي المُجمَّع في طريق النهج العلمي وتحري الموضوعيَّة و " ترتيب الأولويات وإستخلاص الأحكام الشرعية دون محاباة".
يجدر بنا في هذا المقام أن نتساءل عن المقصود بترتيب الأولويات, هل هى أولويات الشعب أم أولويات الحكومة ؟ لإنه في الوقت الذي تطبق فيه الحكومة الحدود على المواطنين لا تتوَّرع في أن تجد العذر لنفسها في إباحة الربا عبر " فقه الضرورة " الذي سمح لمُجمَّع الفقه الإسلامي بإصدار فتوى تبيح تعامل الحكومة في القروض "الربوية" و قال الدكتور عصام البشير رئيس المجمع أنهم أباحوا تعامل الحكومة بالربا ( نظراً لعدم كفاية موارد الدولة المالية واحتياجها للتمويل الخارجي ).
أولويات الشعب والمواطنين لا تتمثل في تطبيق الحدود بصرامة, ولكنها تتمثل في توفير الحُريات و الغذاء والدواء والتعليم, ومثلما وجدت الحكومة لنفسها مخرجاً من قضية الربا عبر فقه الضرورة فلماذا لا تطبِّق ذات الفقه لوقف تطبيق الحدود على المواطنين الذين تنطبق عليهم ذات الأوضاع التي جعلت الحكومة تبيح لنفسها التعامل بالربا ( عدم كفاية الموارد المالية ).
مُجمَّع الفقه الإسلامي معني بالإجابة عن السؤال الذي صدَّرنا به هذا المقال لأنه أصدر فتوى تبيح للحكومة التعامل بالربا بينما صمت عن أمر الحدود الذي يهم كل الشعب. وكذلك فإنَّ من واجب دعاة تطبيق الحدود في الظروف الحالية النظر في إجتهادات الجماعة الإسلاميَّة المصرية التي قال بها الدكتور ناجح إبراهيم والتعاطي معها بإيجابية تستهدف غايات الشريعة ومقاصدها الكبرى.