سجناء العقلية القديمة في كل شيء

 


 

 

السياسيين السودانيين الذين يتمسكون بالأفكار والممارسات القديمة التي لا تتناسب مع الواقع الحالي والمطالب الشعبية, لا اعلم لماذا هذا التكلس والغيبوبة عن الأحداث علي الساحة السياسية, السودان مر بعدة تحولات سياسية واجتماعية منذ استقلاله عام 1956، ولكن بعض السياسيين لم يتغيروا مع التغييرات، وظلوا يعتمدون على الأيديولوجيات والمناهج والتحالفات القديمة التي أثبتت أخفق تحقيق الاستقرار والتنمية والديمقراطية في البلاد, هؤلاء السياسيين يعانون ممّا يسمى بـ"سجناء العقلية القديمة"، وهو مصطلح يعني أنهم لا يستطيعون التفكير خارج الصندوق، ولا يقبلون بالتجديد والتحديث والتعلم من التجارِب والأخطاء، عدّ أنفسهم أصحاب الحق والحكمة، ويحاولون فرض رؤيتهم على الآخرين بالقوة أو الخداع أو الإقصاء, هذه العقلية تؤدي إلى الجمود والتخلف والانحطاط والانقسام والصراع في المجتمع السوداني، وتعرقل عملية الانتقال الديمقراطي الذي بدأت بعد ثورة ديسمبر 2019 التي أطاحت بنظام البشير الديكتاتوري، والتي تهدف إلى بناء دولة مدنية وحديثة ومتعددة الألوان والثقافات والمعتقدات , لذلك، يجب على السياسيين السودانيين السجناء تحرير أنفسهم من العقلية القديمة، والتخلي عن المفاهيم والممارسات التي لم تعد صالحة للزمن والمكان، والانفتاح على الأفكار والمبادرات الجديدة التي تلبي حاجات وتطلعات الشعب السوداني، والمشاركة بإيجابية ومسؤولية في عملية البناء الوطني، والتعاون مع القوى السياسية والمدنية والعسكرية والإقليمية والدولية التي تدعم السودان في مسيرته نحو السلام والحرية والعدالة ماهي أسباب فشل السودان في بناء دولة مؤسسات وقانون تحترم حقوق المواطنين وتضمن العدالة والمساواة
هنا نجد الموضوع واسع ومعقد، ويمكن النظر إليه من زوايا مختلفة السودان هو بلد متنوع جغرافيًا وعرقيًا وثقافيًا ودينيًا، ولكنه لم يتمكن من تشكيل هُوِيَّة وطنية موحدة تجمع بين مختلف مكوناته، ولم يتمكن من إقامة نظام سياسي شامل وديمقراطي يظهر تعددية المجتمع ويحقق التمثيل العادل للجميع السودان عانى من تاريخ طويل من الاستعمار والاستبداد والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، والتي أثرت سلبًا على تطور مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وأدت إلى تفكك النسيج الاجتماعي والوطني، وانتشار الفساد والمحسوبية والمناطقية والعنصرية في الحياة العامة السودان شهد عدة محاولات للتحول إلى الديمقراطية، ولكنها كانت دائمًا قصيرة الأمد وغير مستقرة، ولم تتمكن من حل المشاكل الأساسية التي تعيق التنمية والسلام، مثل قضية الجنوب ودارفور والمناطق المهمشة، وقضية العلاقة بين الدين والدولة، وقضية توزيع السلطة والثروة بين المركز والأقاليم و السودان تعرض للتدخلات والتأثيرات الخارجية من قبل الدول الإقليمية والدولية، والتي لعبت دورًا في تشكيل مسار السياسة والصراع في البلاد، ولم تكن دائمًا تخدم مصالح الشعب السوداني وتطلعاته نحو الحرية والكرامة والعيش الكريم كنت أقرأ في مدونة لعالم أسلامي عزير الثقافة الاسلامية منطقي الطرحى وواقعي المقارنة في أمر عن سلفية الفكر أذا أبتدر حديثه عن مبدأ السفلية أذا كتب (ما هي السلفية؟ هي تاريخياً رواية ومشروع للإصلاح العقائدي والاجتماعي، كانت في البداية رداً على ما اعتبرته انحرافاً في فهم العقيدة الإسلامية وفي تأويلالنصوص بداية مع الإمام أحمد بن حنبل، مؤسس أحد المذاهب الأربعة السنية الأساسية، ثم تبلورت وتقعّدت مع الفقيه الحنبلي ابن تيمية وابن قيم الجوزية. بعد ذلك بقرون استعادت حيويتها على يد محمد بن عبد الوهاب لتقاوم أشكال الوثنية والانحراف التي تسربت فعلاً لعقيدة التوحيد وقواعد التعبد. ثم تحولت إلى أرضية فكرية لمعظم حركات الإصلاح الفكري والسياسي التي شهدها العالم الإسلامي سواء على أيدي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أو في مرحلة لاحقة، وفي سياق مختلف مع حسن البنا وحركة الأخوان المسلمين
وما تفرع عنها وتأثر بها من تيارات واتجاهات متعددة) وأنطلق الي لمراحل التي انتعشت فيها السلفية، فهي تحركت على الدوام ضمن مربع معرفي رسم أصول التفكير وقواعد السلوك ضمن أضلاعه تمثلت بـالتاريخ، النص، العقيدة، والآخر, التاريخ وبما أن السلفية هي اشتقاق من السلف فهي أحاله إلى (أفضل العصور وأولاها بالاقتداء والاتباع) فالماضي هو المنطلق والمرجع لسببين الأول إن التاريخ هو ذاكرة الشعوب ومستودع تجاربها وخبراتها ووعيها ولا يجوز بالتالي الانقطاع عنه، لأننا لو أردنا ذلك لن نستطيع، فهو كامن فينا حتى ولو لم نع به، مهما بالغنا في الحديث عن أهمية القطيعة المعرفية، والابيستيمولوجية و الثاني نزول الوحي على محمد –ص – في تاريخ ومجتمع محدد له لغته ومقاييسه، بحيث لا يمكن فهم الإسلام وتمثل مقاصده إلا من طريق الرجوع ودراسة تلك المرحلة التأسيسية في حياة الأمة وما نتج عنها من تحولات
عند ما نتكلم عن العقيدة لا شك أن السلفية في نشأتها كانت دعوة للدفاع عن نقاوة العقيدة وصفائها، بدءًا بعقيدة التوحيد وكل ما له عَلاقة بالغيب، وبالرسول اتباعًا واقتداء، وصولًا إلى كيفية التعبد بعيدًا عن البدع وكل مظاهر الشرك, وهي بهذا لعبت دوراً تحرريًا هامًا من خلال مواجهتها لشرسة لكل مظاهر التخلف والجهل التي سادت في مراحل متطاولة، كعبادة القبب والتبرك بالموتى والاعتقاد في السحر والخوارق والخرافات وتشويه صورة العلاقة بالله وبالرسول، وهي مظاهر لا يزال الكثير منها سائداً حتى اليوم، يسطح الذهن ويقدم أنماط لا عقلانية من السلوك والنظر للعقائد والظواهر الطبيعية والاجتماعية عملت السلفية على إزالة كل الوسائط التي صنعها الناس ومعتادوها في علاقتهم بالله، وإعادة الدين إلى بساطته وأصوله , وصراع السلفية مع الصوفية قديم، وما حصل في المغرب في الحرب التي خاضها عبد الكريم الخطابي، وفي الجزائر مع عبد الحميد بن باديس كشف عن العُلاقة القوية التي ربطت مشايخ الصوفية بالاستعمار الفرنسي، وأدى إلى مواجهة شملت المجالين الثقافي والسياسي، مما سحب الشرعية عن عدد كبير من الزوايا والمشايخ المؤثرين في مشاعر أغلبية سكان الأقاليم وبعض المدن, و لكن المأزق تبلور عندما وقفت السلفية عند حد الدفاعات العقائدية، فمَا حصل هو نوع من الفرز العقائدي لم يتطور باتجاه إعادة إنتاج علوم متجددة للدين وأصول الفقه والتربية في ضوء حركة الواقع المتغير والمعاش وقوانين الطبيعة والمجتمع كذا أصبح التفكير السلفي حبيس الفكر العقائدي الضيق، مما ضخم الحساسية العقدية لبعض السلفيين فجعلهم أسرى لشكليات التدين وقضايا الغيب كالزي واللحية وأسلوب الكلام وحدود العَلاقة بالمرأة وكيفية دخول البيوت وطريقة
الحياة عبر تصميم قالب محددها , وبدل أن تنتج الحالة السلفية كعملية لتطهير وتبسيط العقائد، وحالة تحرر وانطلاق، أنتجت عقلية إقصائية نمت بشكل مطرد، وأدخلت الفرز العقائدي إلى جانب الفرز الحاصل سياسياً واجتماعياً، الأمر الذي أدى إلى تعميق التجزئة، في الوقت الذي رمت المقاصد السلفية إلى التوحيد ، فظهرت فرق وطوائف تدعو للمفاصلة والتميز بكل الوسائل لأن النتيجة الطبيعية للفرز العقائدي ، أن ينقسم الناس إلى فسطاتين ، الكفر والإيمان ، ولا منزلة وسطى بينهما إشكالية الآخر كانت البداية مواجهة مع رواسب المعتقدات المنحدرة عبر الديانات الأخرى التي امتزج معتنقوها في الفضاء الإسلامي ، وكانت الدعوة في هذا الوسط الجديد تقتضي مقاربة معرفية تعتمد مناهج جديدة في الجدل الديني ، فظهرت تيارات إسلامية تعتمد البرهان العقلي والاستدلال المنطقي كالمعتزلة والفلاسفة ، بدل المنهج النصوصي ، في مناخ هذا الحراك الفكري استشعر السلفيون الخطر ، فتحول الآخر هنا إلى خصم ، ولأن السلفية حركة دفاع عن صفاء العقيدة ضد آخرين ينوون تحريفها وتوظيفها في آفاق فكرية أخرى مغايرة لطبيعة الدين ومناقضة لظاهره ، تحول المعتزلة والفلاسفة ثم أهل التصوف والشيعة إلى خصوم و” آخر قوم من جلدتنا ويتكلمون لغتنا ” هكذا اتسعت دائرة الخصوم لتشمل عند بعضهم حتى أصحاب المواقف الوسط كالأشاعرة
وفي العصر الحديث كان للحركات السلفية فضل السبق في تفجير الثورات الأولى ضد الاستعمار الغربي الأوروبي والتي بدأت كنضال مسلح ثم استقرت كنضال سياسي أخذ طابع المقاومة العقائدية التي تقوم على التعارض الكامل بين عقيدة الإسلام وعقيدة الغرب، وبالتالي فهي جهاد بين معسكري الإيمان والكفر، وهكذا تكونت عقيدة الولاء والبراء سياسياً واكتست المعركة بينهما صبغة الحرب الدينية الحضارية
من ابرز نتائج هذا الصراع إبراز التناقض المعرفي والثقافي مع المشروع الغربي وتعزيز الروح الجهادية وتحصين الأمة ضد محاولات التغريب والتنميط الثقافي باسم وحدة الحضارة وتفوق المركز الأوروبي ولكن المشكلة أن الآخر الخارجي اتسع أيضاً لتشمل دائرته الكثير من قوى الداخل ضمن الدائرة الإسلامية من ليبراليين وعلمانيين ويساريين وقوميين ، بل وحتى إسلاميين متنورين ، ونتج عن ذلك حالة من التجاذب داخل الساحة الإسلامية بين التيار السلفي وجميع القوى المختلفة بطروحاتها وأفكارها واجتهاداتها والتي أصبحت ترمى بشتى التهم التكفيرية ، مما سوغ للبعض أن يتجه نحو العنف واستخدام السلاح ضدهم
وعلى الرغم من أن التيار النهضوي الذي بدأت إرهاصاته الأولى مع الطهطاوي وخير الدين التونسي، ثم الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي، اتخذ نهجاً إصلاحياً وعقلانياً إلا أنه يمكن القول انه بقي في الإطار العام سلفي الاتجاه، فهو يتمسك بضرورة العودة إلى الكتاب والسنة كإطارين مرجعيين لا يجوز الاستغناء عنهما، وهو أيضاً بقي يولي الاهتمام للمسألة العقائدية وضرورة تطهير المعتقدات من مظاهر الشرك والخرافة، وخاض مواجهات فكرية مع الغرب تشككاً في نواياه تجاه الثقافة الإسلامية وقيمها
تمكن هذا التيار الذي يمكن تصنيفه بالسلفي الإصلاحي المتنور من تقديم قراءة مغايرة لما قدمته السلفية التاريخية التقليدية، قامت على نوع من التنظير التوفيقي بين العقل والنص، على عكس العداء التاريخي الذي استحكم بين أهل النص وأهل الرأي، أدت في بعض المجالات إلى تقديم الاستدلال العقلي على الاستدلال النقلي يعتبر الإمام رشيد رضا في هذا المجال شخصية مميزة، فهو جسد بالفعل نموذج المثقف القلق في ذلك العصر وهذا ايضا فهو بدأ حياته متبنياً لأطروحات السلفية الإصلاحية المتنورة تلميذاً مخلصاً لأراء أستاذه الإمام محمد عبده، لكنه ومع تصاعد التحديات الاستعمارية أخذ اتجاه التشدد والمحافظة والانحياز الصريح إلى التفكير السلفي التقليدي وانتهى إلى تبني طروحات ابن تيمية والوهابيين عامة باعتبارهم من الحنابلة الذين عزفوا عن كل تأويل ومغالاة في استعمال العقل وآمنوا بالتنزيه عند البحث في الصفات الألوهية، معتبراً الوهابيين يمثلون الامتداد التاريخي لتيار أهل السنة والجماعة قديماً، خاصة بعدما أعلن ابن سعود عن عقد مؤتمر إسلامي عام بمكة سنة 1926م للتباحث في قضايا الدين وواقع الأمة الإسلامية , هنا نري التمزق الفكري ما بين ما تحمل أفكار من جديد العلوم وذلك للمعاصرة والتمكن من التعايش مع صراع الصراع
الحضارة والمجايلة أو قل أحداث أثر تنويري ويشهد التاريخ السوداني دوما فشل التجارب الديمقراطية بسبب قيام فصيل مدني بدعوة الجيش صراحة إلى الانقلاب كي يُزيح فصيلا بعينه مناوئا له, فقد شهدت أول ديمقراطية في السودان عقب الاستقلال إجهاضها على يد المدنيين أنفسهم، عقب الصراع الذي نشب داخل الحزب الحاكم ودعوة العسكريين للانقلاب وانتهى بانشقاق ، علاوة على أن بقية الأحزاب السياسية التي انشغلت بالمناصب حينها فشلت في حسم الملفات المصيرية للبلاد، وهي نفسها الأزمات التي واجهت تجمُّع المهنيين وقوى الحرية والتغيير خلال فترة الانتقال وتعقيدات الاوضاع السياسية , لذلك نجد أن أغلب الساسة سجناء لعقلية قديمة في التعاطي مع قضايا الشأن العام وبل غرقوا في عالم المقولات القديمة والتجارب الفاشلة .

zuhairosman9@gmail.com
//////////////////

 

آراء