سعودي دراج: الدنيا الجميلة لو تعرف معناها
د.عبد الله علي ابراهيم
30 October, 2024
30 October, 2024
عبد الله علي إبراهيم
(قضيت نهاية الأسبوع أحرر كتاباً عن سيرتي في الحزب الشيوعي الذي خصصت فيه باباً لزملاء تآخينا في تلك السكة الخطرة. وغلبني الدمع أذكر كثيرهم وقد غادرنا بعد عمر مبذول لقضية الكادحين. وأعشوشب نظري برقائق الدمع وأنا أطالع النص أدناه عن الرفيق سعودي دراج، النقابي وعضو مركزية الحزب الشيوعي. رحمه الله.
السيد سعودي دراج، النقابي العمالي الوطيد، رجل مسكون بفن لا حصر له. وهذا الفن هو الذي أبقاه على رقة الجانب ودماثة الإنسانية في خضم مسؤوليات شاقة قديمة، وطويلة أثقلت كاهل آخرين وشردت عذوبتهم الأصل.
أذكره في زنزانات الشرقيات بكوبر في 1971 وقد تعلقت روحه بطائرَيْ ود أبرق كانا يحطان على باحة أمام زنزانته يؤانسان وحشته. وكان سعودي إذا فرغ من تدوين ملاحظاته الذهنية عنهما في يومه نقل إلىّ لاحقاً حديث الطائر إلى الطائر: إلفتهما، وشغبهما، وشغفهما. ومن أميز ما رأيت من فن سعودي أنه كان يتقمص شخصية كثيرة الفكاهة يدخل في دور منها ويخرج كما شاء. وهي شخصية الأب الذي يتأبط عصاه ويسوق ولده إلى المناسبات الاجتماعية من عقد ونحوه. وكان سعودي بارعاً في استنباط دقائق هذه الشخصية التي اكتملت بها سعادة الدنيا: عصا وولد وأهل ومناسبات. وكنت أضحك لمنظر الرجل في أداء سعودي وهو يمشي نحو المناسبة الاجتماعية، يتأبط عصاه، ويتحدث إلى ابنه عن صلة الرحم التي بينهما وبين صاحب العزومة. أو المنظر الآخر الذي يأخذ فيه الرجل قطعة حلوى من الصحن المار ويحشو جيب ولده حشواً بالحلوى.
في مرة في سجن شالا بالفاشر اشتقنا للحرية جداً. سئمنا المحاضرات والرياضة وشائعات إطلاق السراح وانتظار الذي يأتي من الأهل والذي لا يأتي. وتذاكرنا الغناء مقطعاً من هنا وهناك. وجاء ذكر إبراهيم عوض وتصفحنا بعض أغنياته. ثم إذا بسعودي، وله صوت عذب، يتغنى:
الذكرى الجميلة لو تعرف معناها
لا دنيا بتزيلها لا آخرة بتمحاها
وكانت تلك الأغنية هي ما ظللنا نبحث عنه (تحديداً) ونحن في ذروة السأم. وهرعنا بأصواتنا: أجشها وأنكرها وأعذبها نغني أو نشيل مع سعودي نشق عنان السجن. وغنيناها، واستعدناها حتى رطبت حلوقنا. وأزالت أكثر الصدأ من أرواحنا ثم تفرقنا. لقد شيدنا منطقة محررة في جغرافيا السجن. كأن مرهماً مس الجراح. وكأن النيل مد لنا سرباً من موجه وغسل درن الروح.
ibrahima@missouri.edu
(قضيت نهاية الأسبوع أحرر كتاباً عن سيرتي في الحزب الشيوعي الذي خصصت فيه باباً لزملاء تآخينا في تلك السكة الخطرة. وغلبني الدمع أذكر كثيرهم وقد غادرنا بعد عمر مبذول لقضية الكادحين. وأعشوشب نظري برقائق الدمع وأنا أطالع النص أدناه عن الرفيق سعودي دراج، النقابي وعضو مركزية الحزب الشيوعي. رحمه الله.
السيد سعودي دراج، النقابي العمالي الوطيد، رجل مسكون بفن لا حصر له. وهذا الفن هو الذي أبقاه على رقة الجانب ودماثة الإنسانية في خضم مسؤوليات شاقة قديمة، وطويلة أثقلت كاهل آخرين وشردت عذوبتهم الأصل.
أذكره في زنزانات الشرقيات بكوبر في 1971 وقد تعلقت روحه بطائرَيْ ود أبرق كانا يحطان على باحة أمام زنزانته يؤانسان وحشته. وكان سعودي إذا فرغ من تدوين ملاحظاته الذهنية عنهما في يومه نقل إلىّ لاحقاً حديث الطائر إلى الطائر: إلفتهما، وشغبهما، وشغفهما. ومن أميز ما رأيت من فن سعودي أنه كان يتقمص شخصية كثيرة الفكاهة يدخل في دور منها ويخرج كما شاء. وهي شخصية الأب الذي يتأبط عصاه ويسوق ولده إلى المناسبات الاجتماعية من عقد ونحوه. وكان سعودي بارعاً في استنباط دقائق هذه الشخصية التي اكتملت بها سعادة الدنيا: عصا وولد وأهل ومناسبات. وكنت أضحك لمنظر الرجل في أداء سعودي وهو يمشي نحو المناسبة الاجتماعية، يتأبط عصاه، ويتحدث إلى ابنه عن صلة الرحم التي بينهما وبين صاحب العزومة. أو المنظر الآخر الذي يأخذ فيه الرجل قطعة حلوى من الصحن المار ويحشو جيب ولده حشواً بالحلوى.
في مرة في سجن شالا بالفاشر اشتقنا للحرية جداً. سئمنا المحاضرات والرياضة وشائعات إطلاق السراح وانتظار الذي يأتي من الأهل والذي لا يأتي. وتذاكرنا الغناء مقطعاً من هنا وهناك. وجاء ذكر إبراهيم عوض وتصفحنا بعض أغنياته. ثم إذا بسعودي، وله صوت عذب، يتغنى:
الذكرى الجميلة لو تعرف معناها
لا دنيا بتزيلها لا آخرة بتمحاها
وكانت تلك الأغنية هي ما ظللنا نبحث عنه (تحديداً) ونحن في ذروة السأم. وهرعنا بأصواتنا: أجشها وأنكرها وأعذبها نغني أو نشيل مع سعودي نشق عنان السجن. وغنيناها، واستعدناها حتى رطبت حلوقنا. وأزالت أكثر الصدأ من أرواحنا ثم تفرقنا. لقد شيدنا منطقة محررة في جغرافيا السجن. كأن مرهماً مس الجراح. وكأن النيل مد لنا سرباً من موجه وغسل درن الروح.
ibrahima@missouri.edu