boulkea@gmail.com
في حوار مع المذيع الأمريكي اللامع "شارلي روز" في برنامجه على قناة (بي بي إس) أواخر الشهر الماضي قال سفير دولة الإمارات في واشنطون "يوسف العتيبة" أنَّ خلاف بلاده مع دولة قطر ليس ديبلوماسياً بقدر ما هو خلافٌ فلسفي حول رؤية الإمارات والسعودية ومصر والأردن والبحرين لمستقبل الشرق الأوسط.
وأضاف العتيبة ( إذا سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين ما هو الشرق الأوسط الذي يريدون رؤيته بعد 10 سنوات من الآن، فسيكون متعارضاً في الأساس لما أعتقد أن قطر تريد رؤيته بعد 10 سنوات من الآن. ما نريد أن نراه هو حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية ). إنتهى
واجه تصريح العتيبي إنتقادات شديدة, خصوصاً من قبل السلفيين الوهابيين والأخوان المسلمين, حيث قال البعض أنه "مؤامرة ضد الدين" ومضى آخرون للقول بأنه "محاولة لنزع عقيدة إستقرت منذ مئات السنين".
درج أهل الإسلام السياسي على إستغلال الدين مطيَّة لتحقيق المآرب السياسية, وهو المأخذ الأساسي الذي يجعل مخالفيهم يدعون للمطالبة بفصل الدين عن السياسة, وليس "إبعاد الدين عن الحياة" كما يحاولون تصويره زوراً, ذلك لأنه من المستحيل نفي الدين عن الحياة لأنَّ الناس يتصرفون تجاه مختلف القضايا الإجتماعية من نظرة أخلاقية هى لدى غالبيتهم نابعة من الدين.
إنَّ أسطع مثال لإستغلال جماعات الإسلام السياسي للدين من أجل المكاسب السياسية ينعكسُ في الحملة الشعواء التي قاموا بشنها على السفير العتيبة, والتي أعتقد جازماً أنهم لا يستهدفون من ورائها سوى تحقيق نقاط لصالح قطر في معركتها "السياسية" مع الدول المقاطعة, ودليلي على ذلك صمتهم عن تصريحات أكثر وضوحاَ وتفصيلاً أدلى بها الرئيس التركي أردوغان حول مفهوم العلمانية.
في زيارته الشهيرة لمصر عام 2011 دافع أردوغان عن الدولة العلمانية وقال أنها ( لا تعنى دولة اللادين، و أنَّ العلمانية الحديثة لا تتعارض مع الدين), ونصح الذين يُعدِّون الدستور المصري بالحرص على ضمان وقوف الدولة على مسافةٍ متساويةٍ من جميع الأديان والفئات, وقال ( فإذا بدأت الدولة بهذا الشكل فإنَّ المجتمع كلهُ سيجد الأمان، المسلمون والمسيحيون وغيرهما من أديان أخرى واللا دينيون، فحتى الذي لا يؤمن بالدين يجب على الدولة أن تحترمهُ, إذا تم وضع تلك الضمانات فهذه هي الدولة العلمانية ). إنتهى
هذه التصريحات المؤيدة بشدة للعلمانية لم يتعامل معها الأخوان المسلمين مثلما تعاملوا مع تصريح السفير العُتيبة, ولم يقولوا أن حديث أردوغان يُمثل مؤامرة على الإسلام أو محاولة لنزع العقيدة المستقرة من قرون, وهو ما يوضح إزدواجية خطابهم الذي لا تُحرِّكه المواقف الدينية بل توجهه خدمة المصالح السياسية .
لم يترك أهل الإسلام السياسي للسفير العتيبة فرصة توضيح التصوُّر الذي يحمله للعلمانية والذي قال أنه يتمنى أن يسود في منطقة الشرق الأوسط, ذلك لأنَّ العلمانيِّة ليست نسقاً واحداً نهائياً, فهى تنشاُ متأثرة بمعطيات كل مجتمع, وتختلف بإختلاف السياقات الإجتماعية والتجربة التاريخية, وبالتالي فإنَّ خصائصها تختلف من بلدٍ لآخر.
فإذا كانت العلمانية الفرنسية نشأت في تضادٍ مع الكنيسة بسبب تسلط الأخيرة ووقوفها ضد الثورة ففي العلمانية البريطانية لم تدخل الدولة المدنية في صراع مع الكنيسة بل إنَّ الملك في بريطانيا يظلُّ رمزياً رأساً للكنيسة, أمَّا في الولايات المتحدة الأميركية فإنَّ الدولة المدنيَّة حرصت على حماية الدين من أي عُدوان عليه.
كذلك فإنَّ الأخوان المسلمين لم يشنوا حملة شعواء مثل التي شنوها على السفير العتيبي ضد حركة النهضة التونسية بزعامة راشد الغنوشي عندما وافقت على إجازة دستور لا ينصُّ على تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بل وعندما أعلنت مؤخراً فصلها الكامل بين الشأنين السياسي والدعوي, وهو الأمر الذي يبدو أنَّ سفير الإمارات قد عناه عندما تحدث عن العلمانية (عدم إستغلال الدين في السياسة).
مأزق الأخوان المسلمين, وتيار الإسلام السياسي على وجه العموم, يتمثل في عجزهم عن بلورة مفاهيم واضحة لشعارات فضفاضة من شاكلة "الإسلام دين ودولة" و "الشريعة الإسلامية", وقد أثبتت تجربة حكمهم الممتدَّة لثلاثة عقود في السودان الفشل الذريع لتلك الشعارات التي لم تنتج سوى دولة مستبدة وفاسدة تنكر لها معظم دعاتها ومؤسسيها.
إنَّ الدعوة لفصل الديني عن السياسي هى دعوة حتمية يؤدي تجاهلها لخلق مشاكل لا يُمكن حلها, ذلك لأنَّ الدين بطبيعته معنىٌ بالحقائق "المطلقة" بينما السياسة في أصلها "نسبية", وهذا التناقض يقود بدوره إلى خلق أعظم الأدواء في ممارسات وخطاب وتوجهات معتنقيه, وفي مقدمتها الإقصاء والإنغلاق وغياب الديموقراطية, وهذه بلا شك تؤدي لفشل كل التجارب التطبيقية للنموذج الذي يدعو له أهل الإسلام السياسي.
كذلك فإنَّ التماهي والإشتباك العضوي بين السياسي والديني يعفي أصحاب ذلك التوجه من السعي لإستحداث البرامج و الحلول التفصيلية للقضايا المرتبطة بالسياسة, ولذلك فإنهم يكتفون "بالشعارات" بإعتبار أنَّ الدين يملك حلاً لجميع المشاكل, وبمُجرَّد وصولهم للسطة يكتشفون مدى العجز والقصور في مفاهيمهم و تصوراتهم لشئون الحكم وإدارة الدولة.
الدولة في الأساس أداة "إكراه", بينما لا أكراه في الدين, وكذلك فإنَّ مشروع السلطة "السياسة" يقوم على المساومة والحلول الوسط والإختيار بين البدائل بينما الدين يقوم على الحقيقة المطلقة والحق الواحد, ولذا فإنَّ التصادم بينهما أمرٌ حتمىٌ ولا بدَّ أن يسود في النهاية منطق الدولة : "القوة والإستبداد".
ومن ناحية أخرى فإنَّ مُجرَّد ربط الدين بالسلطة يعني إهدار معناه, ذلك لأنَّ السلطة تفسد الآيديولوجيا (العقيدة) وهو إفساد – كما يقول جمال البنا – في طبيعة السلطة ولا يُمكن أن تتخلص منه, وكل نظام يحاول الإقتران بالسلطة بقصد اصلاحها وتطويعها لا بُدَّ أن يقع فريسة لها وبدلاً من أن يكون سيدها يصبحُ تابعها.
وكما ذكرت في مناسبة سابقة فإنَّ حركة النهضة قد أدركت هذه "العُقدة" الرئيسية والخلل البنيوي في أفكار الإسلام السياسي, فقرَّرت الفصل بين المجالين , بمعنى أنها لم تعُد تُعوِّل على "الدولة" كأداة لإعمار النفوس بل جعلت "المجتمع" هو مجال العمل للإصلاح الأخلاقي, بينما الدولة هى أداة التغيير ومجال التنافس في السياسة, وبذلك فإنَّها تتلافى الأخطاء الحتمية التي تقع فيها منظمات الإسلام السياسي وتؤدي لفشلها.
هذا ما كان من أمر الطريقة الإنتهازية التي تعامل بها الأخوان المسلمين مع تصريحات السفير العتيبة, وحتمية فشل أي محاولة للخلط بين الدين والسياسة في شؤون الحكم, ولكن الكلمة المفتاحية التي يعتقد كاتب هذه السطور أن الدبلوماسي الإماراتي قد أغفلها في حديثه عن مستقبل الشرق الأوسط , ومنطقة الخليج على وجه التحديد, هى "الديموقراطية".
إنَّ أية حديث عن الرغبة في رؤية دول "قوية ومستقرة ومزدهرة" في عموم المنطقة مستقبلاً لا يُمكن النظر إليه إلا عبر السعي لإقامة و ترسيخ أنظمة ديموقراطية تلبي رغبات الشعوب وتطلعاتها في الحرية والعدالة.
صحيحٌ أنَّ منطقة الخليج العربي قد إنفتحت عليها كنوز الأرض متمثلة في موارد النفط والغاز الطبيعي مما مكنها من إحداث نقلة نوعية كبيرة في دولها ومجتمعاتها التي شهدت تحولات تنموية مذهلة في زمن قياسي.
وصحيح أيضاً أن الإنسان في تلك الدول قد تمتع بمستويات عالية من الرفاهية الإقتصادية والمعيشية, مما جعل سؤال الحرية السياسية يتوارى قليلاً, إلا أنَّ الشواهد تقول أنَّ إستدامة هذه الأوضاع غير ممكن ما لم تصاحبها نقلة كبيرة في إصلاح أنظمة الحكم بحيث تسمح بالمشاركة السياسية وترسخ لتداول السلطة وتمكين الحريات.
ختاماُ نقول : إنَّ الحديث عن ضرورة النأي بالدين عن الإستخدام السياسي لا ينفي ضرورة قيام نظم ديموقراطية بديلة ترسخ للحرية كمبدأ حاكم, ولإعمال العقل في الطرح السياسي, فقد رأينا – على سبيل المثال - نظام الحكم في ظل دولة مثل الإتحاد السوفيتي السابق, وهو نظام علماني ذو صبغة متطرفة, ولكنه في ذات الوقت شكل نموذجاً للدولة "المستبدة" التي تقمع و تصادر الحريات وتحارب الدين, رغماً عن أنه إستند إلى نظرية في الفكر والفلسفة كانت تُمني الناس بقيام الفردوس الأرضي الذي تسوده العدالة والحرية.