هذا المقال كُتب بعد أقل من أسبوعين من انتفاضة إبريل 1985 ونُشر في صحيفة الوطن الكويتية بتاريخ 19/4/1985 وهو يُعبِّر عن وضعنا الراهن، بعد خمسة وثلاثين عاماً بالتمام والكمال. يقولون إن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن إن فعل ففي المرة الأولى يكون ملهاة وفي الثانية يُصبح مأساة. وقد صدق طرفة بن العبد القائل. كلهم أروغ من ثعلب...ما أشبه الليلة بالبارحة. فتحي الضو 30/4/2019
بعد أن طويت صفحة سوداء من تاريخ السودان، وفُتحت صفحة بيضاء من غير سوء إلى الآن، نقول آن الأوان لكي يسمعنا من تولى زمام الأمور من قادة المرحلة الانتقالية، وكل القوى الوطنية داخل السودان وخارجه وذلك بعد أن انتصرت الإرادة السودانية في الثورة التي قيل عنها ثورة غوغاء وشماسة"! وكانت في واقع الحال ثورة وقودها الناس والحجارة! وذلك من بعد ما انتصرت الثورة التي نعتت فئاتها المخلصة بالخيانة والعمالة والارتزاق.
انتصرت الصورة التي قيل عن أقلام مثقفيها أنها أقلام مأجورة.. نقول من بعد كل ذلك.. فلنسمع أنفسنا أولاً.. بوقفة عصماء مع الذات.. وتسمعونا أنتم بتجرد وطني غيور على "قارة" المليون ميل مربع! إذ أنه تخاطبكم نفس الأقلام التي كان لها شرف حمل "معاول" الهدم في نعش نظام سابق.. واليوم يحدوها أمل عظيم في حمل "معاول" البناء.. لسودان حضاري يتوق بشغف لغدٍ مشرق! نخاطبكم أيها الأخوة لأن الترق الممزوج بالمخاوف يحاصرنا من كل حدب وصوب.. الترقب يعني الحذر لما آتٍ.. والخوف على وليد خرج من صلب الأمة السودانية الصابرة! ولأننا في مرحلة بناء صعبة المسالك.. لا نقل طمحاً عن شعوب أباطرتها.. فشدت سواعدها تصلح ما أفسده حكامها، واليوم هي في مصاف الدول الكبرى.. لأننا في مرحلة بناء طموحة لن نكون من لاطمي الخدود على نظام تنازل عن كل القيم والأخلاقيات السودانية.. وآل مصيره إلى ركن متعفن في التاريخ! لا نريد أن نشبعه تنكيلاً أكثر مما فعلنا وهو بين ظهرانينا، لأننا لا نريد أن نضيع الوقت ثرثرة فالوقت الآن في ذاكرة السودان المتوثبة ولسنا في حاجة للمزيد من الإدراك عن عهود الظلم التي أرجعت السودان قروناً للوراء.. فما جدوى الوقوف على أطلال نظام.. آل حاله إلى تلك النهاية الدرامية!! إن الصفحة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه – بأكتوبر الثانية – في صبيحة 6 أبريل.. أورثتنا مسؤوليات جمّة من بعد ما انتهى الجهاد الأصغر وشرعنا في الجهاد الأكبر! إذن السمع الآن ضرورة حتمية.. فالرأي الآخر كانت قد أوصدت منافذه من بعد ما جعل النظام السابق من جسده آذاناً صاغية تسمع قول الذين يسبحون بحمد "الإمام" فقط ... ومن بعد ما جعل حرية النشر والتعبير قاصرة على الاشتراكي وصحفه ومن بعد ما امتلأت زنازينه وسجونه بالمخلصين من الشعب.. ومن بعد ما مشى مشية الطاؤوس بخيلاً على رؤوس المناضلين.. كل هذه الممارسات الضارة كانت نبتة شيطانية أفرزت حقداً اجتماعيا يحتاج لقادة من "صنو الملائكة" لترميمها واجتثاثها! من أجل كل هذا نقول أهفوا لنا السمع! سلاح الإضراب السياسي والعصيان المدني.. هذا السلاح المتميِّز الذي تفرّد به الشعب السودانية في الوطن العربي ... كان سلاحاً فعالاً خلخل أركان النظام.. إلى ساندتكم الجماهير بترجيحكم كفتها.. وضربتم بكل شيء دونها عرض الحائط ... وتوليتم زمام الإمور بعبارة ثمينة قلتم فيها "حقناً للدماء ليتجنب السودان ويلات الدماء تقف قوات شعبه المسلحة إلى جانب الجماهير" إنه حديث العقل في ظروف كتلك.. وبرغم مخاوفنا سعدنا أكثر بالبيان الذي حدد الفترة الانتقالية لحكومة مدنية بستة أشهر ذلك لأننا شعب صدوق جُبلنا على المعاملة فيما بيننا بحسن النوايا وإلا لما جثم مارد على صدورنا ستة عشر عاماً ... صدقناه حينما طرح في بداية سني عهده شعارات القوى التقدمية والثورية والتنموية وأتضح بعد انقشاع سحابة الصيف أنها لم تغن ولم تسمن من جوع! تدركون تماماً إن ثورة 6 أبريل هي إفراز شرعي تبنته جماهير الشعب السوداني فهي صاحبة المصلحة الحقيقية ولولا حسن نواياكم لكانت ثورة حتى تنهد كل صروح "العسكرتاريا" وتعود إلى ثكناتها- ولكن لما كان الطرح فترة انتقالية مؤقتة أصابتنا بعض الطمأنينة – ولكم أن تعرفوا لماذا هي مخاوفنا .. فالنفور والاشمئزاز الذي سكن قلوبنا تجاه الزي "الكاكي" العسكري والبيان رقم واحد له مبرراته.. إذ إنها ستة عشر عاماً نهشت دون كلل أو ملل في جسد السودان البكر.. ما جنينا منها سوى الحقد والدمار النفسي! فمن أجل وطن عزيز كم نتمنى ألا يخدعنكم سحر السلطة ... فإن سحرها جذّاب.. وخيراً لكم أن تسطروا أسماءكم على عتبة تاريخ السودان كمخلصين أنقذوا السودان وبعد أن تهدأ الإمور ... تسلمون السلطة لأصحابها الحقيقيين، فالفترة قصيرة بعمر الزمن ولكنكم يمكنكم أن تنجزوا كثيراً من مهام المرحلة الآنية.. وذلك حتى تكون التركة حينما تستلم الجماهير سلطتها أقل عبئاً.. وأخف عناء.. وأولويات هذه المرحلة.. تتمثل في أننا ما دمنا مقبلين على حياة ديمقراطية رائدة.. إذن فضرورة خلق المناخ الصحي والملائم للديمقراطية وفتح قنوات الثقة للجماهير حتى تستطيع ان تنتهج مبدأ التعبئة الذاتية في إطار من التفاهم والاحترام.. نهج يضع مصلحة السودان العليا فوق كل المصالح. وأحسب أن ما جاء في الميثاق الذي طرح من قبلكم يعزز هذه الأولويات.. فما نحتاجه حقاً كأساس لمرحلة الديمقراطية القادمة هو إطلاق الحريات الأساسية للفرد وحرية النشر والتعبير والفكر وحرية المعتقدات الدينية ولا يخفى عليكم وضع السودان في هذه! يتبع ذلك كل مد جسور من الثقة المتينة مع كل القوى الوطنية حتى يكون هدفها محدداً في إرساء قواعد الديمقراطية في صرح البيت السوداني! ويأتي أيضاً في مهام المرحلة الراهنة إنقاذ الوضع الاقتصادي فلا خير في ديمقراطية.. لا تؤكل خبزاً، وبهذا لا تقع تبعاته عليكم بقدر ما يكون الأمر سواء مع شرائح المجتمع وبخاصة فئاته التي تغرّبت في كل أرجاء المعمورة وهي على استعداد لتفهم دورها في بناء وطنها ما دام أن الأمر يبتعد عن دائرة الأوراق الرسمية من ضريبة وزكاة وغيرها. وأحسب أنكم تفعلون خيراً إن ساعدتم في تكوين الفرد السوداني ذاتياً باعتماده على جهده وثقته في نفسه.. وتوظيف امكانياته المتاحة توظيفاً خلّاقاً في المجلات الزراعية والصناعية وتسخير الكوادر السودانية المخلصة والمؤهلة لتخيط خارطة الاقتصاد السوداني تخطيطاً علمياً دقيقاً وتوجيهها، لخدمة الاقتصاد السوداني ويتدرج في سلم الأولويات وحدة التراب السوداني وهو صداع كل أبناء السودان دون حصر.. فحرب الجنوب قد استنزفت طاقات الوطن فحصدت أرواح بنيه من جراء سياسة رعناء أوقفت البلاد على شفا حفرة من الجحيم إن لم يكن الجحيم ذاته! إن الروائح الكريهة التي نشتمها في تصريحات قادة بعض الدول المجاورة وهي تصريحات ظاهرها الخير وباطنها الشر. فمنها من يدعونا معه للسباحة في تياره الآسن في محيطه الضحل، ومنهم من يريد أن يوهمنا بأنه عرّب هذه الثورة .. ومنهم من أعلنها تصريحات غير مسؤولة توضِّح أساليب الوصاية والاحتواء والهيمنة.. وكل مرفوضة رفضاً باتاً.. ولكم تسوؤنا تلك المناوشات الإعلامية التي تجري بين مصر وليبيا بأساليب التحذير.. كل يحذِّر الآخر إذا ما تدخل في السودان وهي تصريحات ثقيلة على الأذن لأنها تجاوزت الإرادة السودانية في تقرير المصر.. فلا مصر ولا ليبيا لهما موطيء قدم في السوداني.. غير سياسة حسن الجوار التي نحترمها ونقدرها.. فمع الأولى كانت هنالك مواثيق تكامل مع إنها جاءت فوقية وغضّت الطرف عن رأي أبناء القطرين؛ مع كل هذا نجد أنه لزاماً علينا احترام تركة "ثقيلة" وضع النظام السابق أغلالها حول أعناقها.. وريثما تهدأ الأمور في تقديري لكل حادثة حديث! ومع الثانية.. هنالك خلافات مزمنة وهي تركة النظام السابق أيضاً، ولا أعتقد أنه يهمنا أن نسير في نفس النهج بهذه الصورة السمجة، ولا أعتقد أنه يهمنا أن نسير في نفس النهج بهذه الصورة السمجة، فليهدئ النظام الليبي من ورعه، ويترك السودان وشأنه.. وليدرك أن السودان ليس نميري أو نظامه السابق. وأخيراً تأتي الأولويات.. السياسة الأمريكية ... وما أدراك ما السياسة الأمريكية، دعونا ننسى أو نتناسى الوجه القذر في كل بقاع الدنيا للسياسة الأمريكية.. ولنتناسى كذلك الدور الأمريكي الرديء في تثبيت عملائه طيلة ستة عشر عاماً ولنجعل الموقف الأمريكي المتذبدب الآن نصب أعيننا. أفلا تدعو تلك القوة "الطرزانية" الهائلة في تحوّلات الموقف الأمريكي للعجب فهو الذي كان بالأمس القريب السند الحقيق للنظام الديكتاتوري المايوي.. والآن.. الآن فقط يعتقد النظام الأمريكي أنه قادر على التهام أي نظام يمر على السودان.. وما داموا في حاجة ماسة للمعونة الأمريكية ... إنه حقاً لشيء يثير الأعصاب.. ماذا جنينا من أمريكا سوى الدمار والخراب، ماذا جنينا منها سوى تلويث أجواء السودان بقذارة مشينة. هذا الخبث وصل لدرجة الاستخفاف.. فحينما كان السودان يغلي غلي المرجل.. كان الهم الأوحد للإدارة الأمريكية، الاطمئنان على "شوارب" رعاياها!! إن قادة المرحلة الانتقالية إذا ما مدوا أي يد هشة للنظام الأمريكي يكونون قد أورثوا سلطة الجماهير القادمة هما ثقيلاً.. إن قادة المرحلة الانتقالية اذا ما مدوا أي يد هشّة للنظام الأمريكي يكونون قد أورثوا سلطة الجماهير القادمة هما ثقيلاً .. ومن أجل ذلك نقول ان الاستجابة الفورية للمناورات الأمريكية يجب ان لا تكون ذات بال الآن.. فلا بارك الله في معونة نريق من ورائها الحياء السوداني في ساحات البيت الأبيض!!
ولا بارك الله في سبعة وستين مليوناً أفرجوا عنها ووعدها "بتسليمها" لكأن الأمر مجرد "طعم" لا أكثر ولا أقل .. فإذا كان من أجل هذه صمتكم تجاه المواقف الأمريكية.. نذكركم بأن تسع مليارات هي ديون السودان يمكن استعادتها من أركان النظام السابق وأعوانه ومنافقيه.. لأنه ملك للشعب السودان ذلك خير وأجدى من الركض وراء السراب الأمريكي.. ومن هذا المنطلق من قبل أن تجئ برودة الشتاء ... نقول لكم افتحوا ملف الثراء الحرام.. ونقبوا شواطئ الدنيا بحثاً عن المنتجعات و"الفلل" والقصور.. وبنوك العالم أجمع السرية منها والعلنية.. وفي بطون الذين مازالوا في الداخل.. ولأن الأحداث في السودان أصبحت سريعة الإيقاع.. فوجئنا من قبل ان يجف مداد هذا القلم.. بأول المتناقضات ونحن ندق جرس الإنذار.. وإلا لأفسحنا المجال لمخاوفنا لتصبح حقيقة.. فالميثاق الذي طرحتموه عزّز الحريات العامة من نشر ورأي وفِكر، ولكن النظام الذي يناقض نفسه، ويناقض الحقائق السياسية والاجتماعية في قطر كالسودان يصبح عُرضة للانزواء بين غمضة عين وانتباهتها.. فلماذا لم توجّه تهمة الخيانة العُظمى للرئيس " المزمن" وأركان نظامه حتى الآن؟ هذا الصمت يدعو للدهشة والريبة. إن الوعي السياسي السوداني الذي نضج على نار ديكتاتورية طاغية جعله يحل فوازير السياسة حتى وإن كان بين اليقظة والأحلام.. فعين التاريخ بالمرصاد.. وكلنا زائلون والوطن باقٍ.. وفي الختام إن كنا صفقنا لكم مرة؛ فعشرات المرّات مثلها إن سارعتم باختصار الفترة الزمنية وسلمتم القيادة لحكومة مدنية فنحن اليوم أشد شغفاً وولعاً لذلك!! والله ما ضلّت قيادة جعلت من شعبها عينه التي ترى بها، وأذنه التي تسمع بها، ولسانها الذي ينطق به ... وها نحن قد بلغنا.. اللهم فاشهد!!