سودنة دار فور قبل أن يتدرفر السودان

 


 

طاهر عمر
23 February, 2023

 

تاريخ السودان الضارب في القدم يجعل الشعب السوداني دوما جزء من نبض العالم القديم و مهما حاول العالم تناسي السودان و شعبه إلا أن جلال هذا الشعب العظيم يجعل العالم على إستعداد لمد يد العون له و مساعدته في عبور كبواته التي تعترض طريق تطوره و تقدمه حتى يستطيع مواصلة سيره مع مواكب البشرية و هي تسير مستشرفة مستقبل يحقق ما يرضي طموح البشر و معلوم أن الانسان كما يقول ألبرت كامو المخلوق الوحيد الذي لا يرضى بوضعه الذي عليه أي أن طموحه بلا سقف دوما يسعى للأحسن رافضا لوضعه القائم و في سبيل تحقيق مستوى أعلى يركب الصعاب.
روح الشعب السوداني دوما تجعله مصارعا لجبار الصدف الذي يحول ما بيننا و بين أن يكون للسودان مكانة مرموقة بين شعوب العالم و قد كان ذات يوم أكبر بنك قد أقرض البشرية من جميل قيمه و لهذا إستلافنا اليوم من مخزون البشرية ما هو إلا رد جميل لهذا الشعب الجبار الذي أقرض البشرية من جميل طباعه عبر آلاف السنيين حيث نجد مدح أشعيا النبي لشعب السودان حيث يصفه بأنه أمة ذات قوة و شدة و دوس قد خرقت الأنهار أرضها.
بالمناسبة وجود أحرار العالم و وقوفهم بجانب الشعب السوداني من أجل إكمال مسيرة التحول الديمقراطي حيث نجد أمريكا قد أجبرت كل من السعودية و الامارات و مصر بعد وقوفهم خلف إنقلاب البرهان الفاشل و حجمت تدخلهم في الشأن السوداني حيث كانت تخطيطاتهم لعرقلة التحول الديمقراطي حتى لا يصل الشعب السوداني للإستقرار السياسي و بالتالي الإزدهار المادي الذي ينعكس في إرتفاع مستوى المعيشة.
هذا الوقوف المشرف لأحرار العالم و منعهم للسعودية و الامارات و مصر من التدخل السالب في شأن الشعب السوداني يعتبر إنعكاس لتاريخ هذا الشعب الذي قد ساهم في تطور البشرية ذات يوم و يستحق أن يقف أحرار العالم بجانبه لكي ينهض و لكن نجاحه أي مجهود أحرار العالم مرهون بعودة الوعي لنخب هذا الشعب العظيم الذي تخزله نخبه الفاشلة.
نضرب مثلا أن فرنسا و مفكريها ذات يوم كانت تحت سيطرة الفلسفة و الفكر الألماني و لكن بفضل نخب فرنسية واعية حددوا المشكل و عملوا على حله الى لحظة إستقلال الفكر الفرنسي و وصل الى ما وصل إليه.
لهذا نقول للنخب السودانية يمكنكم ترتيب صفوفكم و تحديد مكامن الضعف و العمل من أجل نهضة فكرية تجعل للسودان خطه الفكري الواضح الذي يقود لنهضة السودان الفكرية و إزدهاره المادي.
و قطعا هذا يحتاج لجهد فكري سوف تظهر نتائجه في أجيال قادمة مثلما ظهرت جهود مدرسة الحوليات الفرنسية بعد ثلاثة عقود من المثابرة و العمل المضني حتى بلغت أفكارها أرقى الجامعات و بعدها قد أصبحت أس مراكز بحوث قد ساعدت على تغيير قيم و أدت لنهاية حقبة الجمهورية الثالثة.
لهذا أن الوضع الذي يرثى له لوعي النخب السودانية و هي غير قادرة للمشاركة في عرس ثورة ديسمبر المجيدة أنها لم تكن على مستوى وعي رواد مدرسة الحوليات حيث كانت جهودهم الفكرية تستهدف تغيير الجمهورية الثالثة من خلال جهدهم الفكري الذي قد أعلن أن مدرسة الوثيقة المقدسة قد مضى و حلى محله دراسة التاريخ الاجتماعي و التاريخ الاقتصادي للشعوب.
أعني أن فكر رواد مدرسة الحوليات الفرنسية كان هدفه راكز في مفهوم الشرط الانساني أي السياسة و كانت من أهدافهم توضيح نهاية الجمهورية الثالثة من خلال رفضهم لمنهج المنهجية التاريخية و وثيقتها المقدسة التي ما زالت تخلب لب المؤرخ التقليدي السوداني و بسبب المؤرخ التقليدي السوداني غابت المشاريع النقدية للمفكريين السودانيين و ظهرت في أسمالهم البالية يوم عرس ثورة ديسمبر المجيدة.
و أوضح صور لأسمالهم البالية وثيقة الشراكة مع العسكر في وقت كان يمكن أن يكون شعار العسكر للثكنات و الجنجويد ينحل هو أساس الثورة من أول يوم لسقوط البشير و لكن غياب المشاريع النقدية جعلت النخب الفاشلة ترضى بالشراكة مع العسكر و أعقبها تكاسل النخب و قراءتهم الناعسة التي يقودها القانونيين السودانيين كأضعف حلقة في سلسلة النخب السودانية و ظهرت في كتابات عبدة النصوص و بسببهم قد تأخر حل الجهاز القضائي الكيزاني و بالتالي تعطلت مسيرة الثورة.
المهم في الأمر أن مسألة التحول الديمقراطي ليست بهذه السهولة التي تفتكرها النخب السودانية الفاشلة فهي تحتاج لنهضة فكرية يقودها أصحاب مشاريع نقدية لا يقوى على حملها غير عباقرة الرجال و في الغالب تأتي مصادمة لقيم سائدة و لكن قد مضى زمانها و قد أصبحت أمام الرياح هباء و تحتاج لفكر الشخصيات التاريخية التي تتخطاها كقيم قد أصبحت بالية و هذا هو الغائب أي المشاريع النقدية الهائلة.
و لهذا نجد بدلا عنها ألاعيب النخب السودانية و هروبهم من وجه المسؤولية التاريخية و هم يتخفون بطرح أقل ما يقال عنه فكر رث كما رأينا طرح المساومة التاريخية بين يسار سوداني رث و يمين غارق في وحل الفكر الديني و رأينا مهادنة الطائفية و النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية و رأينا المؤالفة بين العلمانية و الدين و قبلهم رأينا علمانية محابية للأديان و قبلها بحث دور للدين في السياسة السودانية و كلها مشاريع لا ترتقي لمستوى المشاريع النقدية التي تساعد على النهضة الفكرية.
كالعادة أن الذي يقوم بالتغيير هو الشعب و ليس النخب و لا المفكريين. عندما قام الشعب بثورة ديسمبر المجيدة كتغيير فضح النخب السودانية بأنها كانت غير مستعدة لعرس ثورة ديسمبر و ظهرت بأسمالها البالية و شراكتها مع العسكر و الآن وجب تكرار القول لهم من جديد و في ظل غياب مشاريعهم النقدية عليهم أن يدركوا أن الديمقراطية صيرورة و أن الدولة مفهوم حديث و أن السلطة كمفهوم حديث قد كرست مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و كلها تعتبر تحول هائل في المفاهيم كانت النخب السودانية ساهية و لاهية عنه و وجب تغيير فكرها حتى تستطيع بناء صروح التحول و بناء أسس المجتمع الجديد في السودان و هو سودنة دار فور قبل أن يتدرفر السودان.
و بالمناسبة عندما نقول سودنة دار فور قبل درفرة السودان نجدها في شعار ثورة ديسمبر كل البلد دار فور حيث كان شعار عطبرة العبقري و هو يوضح الشعور الأخلاقي للشعب السوداني الحي المختلف عن نخبه الميتة. شعار كل البلد دار فور تجسيد لنظرية المشاعر الأخلاقية حيث أبسط تعبيراتها في الوقوف بجانب الضحية.
و هذه هي روح الشعب السوداني في مشاعره الأخلاقية حيث رفض الحرب الدائرة في دار فور حيث راح ضحيتها المواطن المسكين في دار فور و لكن في غياب المشاريع النقدية للنخب السودانية نجد إتفاقية جوبا قد جاءت نتيجة طرح نخب بائسة كان مشروع فكرها الهامش و المركز و قد فشل في تقديم نخب واعية من الجانبين.
لذلك وجب القول أن طرح الهامش و المركز طرح بائس و هو لا يختلف عن بؤس طرح النخب السودانية للهوية و إهمالهم للحرية عبر سبعة عقود حيث وضح عبرها عجز النخب السودانية في إستيعاب التحول الهائل في المفاهيم و بسببه غاب مفهوم الدولة الحديثة و غابت طرق الوصول إليها و ظهر في المسرح أمثال حميدتي كممثل لمجتمع رعوي لم يصل بعد لمستوى المجتمعات التقليدية و المضحك يقول أنه مستعد لخدمة التحول الديمقراطي و نادم على مشاركته في الإنقلاب الفاشل الذي قاده البرهان.
و قصة حميدتي و إنقلاب البرهان الفاشل مثل علاقة الخليفة عبد الله التعايشي مع مهدية المهدي المزعومة حيث كانت حقبة الخليفة عبد الله و حروبها قد كادت أن تقضي على نصف سكان السودان و كذلك حروب حميدتي ضد أهل دار فور و هو صنيعة الكيزان.
و هو أي حميدتي الآن في إنقلاب البرهان الفاشل كمعرقل للتحول الديمقراطي. و حميدتي لا يختلف عن جبريل و مناوي و كلاهما يزعمان تمثيل دار فور و قد رأينا كيف كان دعمهما للإنقلاب الفاشل و كذلك بقية حركات دار فور الأخرى و هنا يجر السؤال السؤال لماذا تقف نخب دار فور دوما مع من يعرقل الديمقراطية أو قل لماذا يقفون مع الدكتاتور؟
كما وقف عبد الله مسار مع ترشيح البشير كرئيس أبدي للسودان و رأينا حسبو نائب البشير كيف كان منفوخ و خادم للدكتاتور. وقوف نخب دار فور مع الدكتاتور نتيجة ثقافة الأسرة الجذعية المتجذرة في مجتمع دار فور و ثقافة الأسرة الجذعية لا تنتج غير من يقف مع الدكتاتوريات لأنها ثقافة مهيمنة عليها سلطة الأب و روح التسلط.
أضف إليها أي ثقافة الأسرة الجذعية روح نزعة الهيمنة أي أن تهيمن مجموعة على مجموعة أخرى و هذا هو سر إرتفاع ضحايا حروب دار فور بسبب مساعدة الكيزان للقبائل العربية ضد الزرقة و معروف نزعة الهيمنة التي تسود في ثقافة القبائل الرعوية الدارفورية و هي أي نزعة الهيمنة مثل ما دعت الى قيام النازية في ألمانيا و زعمهما على أنها تستطيع الهيمنة على بقية الأعراق لهذا وجب تغيير ثقافة الأسرة الجذعية في دار فور.
و لهذا وجب القول سودنة دار فور قبل درفرة السودان أى أن تسود فيه حرب الكل ضد الكل كما حدث في دار فور و كانت النتيجة محزنة. لهذا وجب على النخب السودانية إستيعاب التحول الهائل في المفاهيم بدلا من طرح مركز و هامش لم يقدم غير بائس النخب من الجانبيين.
لكن في هذه المعادلة نجد مثقف دار فور صورة مشوهة لنخب الشمال الفاشلة بسبب غياب مشاريعهم النقدية التي تقدم فكر يجسر ما بيننا و بقية شعوب العالم المتحضر حيث تكون العلاقة مباشرة بين الفرد و الدولة و تقوم على معادلة الحرية و العدالة و ليس على العرق و الدين و الجهة.
و في الختام نقول أن وجود أحرار العالم كضامن لتطبيق الإتفاق الاطاري فرصة نادرة تخلص السودانيين من إنقلاب البرهان الفاشل و تخلصهم من تدخل السعودية و الامارات و مصر في شؤوننا كما خلص جيش كتشنر السودانيين من أوهام المهدي و ظلم الخليفة عبد الله التعايشي.
و يبقى الفرق أن نهاية المهدية الظالمة كحقبة مظلمة عقبها إستعمار و وجود أجنبي أما وجود أحرار العالم كضامن لتطبيق الإتفاق الاطاري لم يعقبه إستعمار و وجود أجنبي بل يخلصنا من تطفل السعودية و الامارات و مصر و عملائهم من السودانيين و رأينا كيف كان البرهان خادم ذليلا مطيع للسيسي بشكل يجلب العار لأي سوداني.
في الختام كما قلت في أول المقال أن الشعب السوداني ذو تاريخ ضارب في القدم و قد كان كبنك قد أقرض البشرية من جميل طباعه لذلك على الشعب السوداني ألا يستحي من أن يستلف من البشرية التحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة الحديثة و مفهوم السلطة حيث تصبح الديمقراطية صيرورة و عندما نقول صيرورة الديمقراطية نعني أنها قد أصبحت بديلا لوحل الفكر الديني الذي سيطر على أحزاب اللجؤ الى الغيب و لا يمكن أن نتحدث عن ديمقراطية في ظل قيم مجتمع تقليدي يقوده رجال الطرق الصوفية و أتباع الادارة الاهلية و أتباع المرشد و الامام و مولانا.
و لهذا نكرر ما قاله أرنولد توينبي ذات يوم أن مسؤولية قيام سودان موحد و قوي و متحضر تقع على عاتق المثقف الشمالي بما يحتمه التاريخ و أضف إليها بشرط أن تكون له مشاريع نقدية تخرجنا من الكساد الفكري الذي قد ساد في السودان في السبعة عقود الأخيرة و فيها قد إندثرت ملامح الدولة و قد عاد المجتمع لعناصره الأولى.

taheromer86@yahoo.com
///////////////////////////

 

آراء