سودّان ما بعد الحربِ: ملامحٌ من رؤية !!
د. الواثق كمير
10 December, 2023
10 December, 2023
kameir@yahoo.com
تورونتو، 9 ديسمبر 2023
الجيش الواحد: الركيزة الأولى للرؤية
لدي تسجيل لمقالٍ صوتيٍ في 23 أكتوبر الماضي (متوفر على قناة البلد نيوز ومنصة السوداني بالفيسبوك)، أجبت فيه على سؤالٍ مُهمٍ يطرحه كثيرون عن: كيفية وقف الحرب ومصير مليشيا الدعم السريع، وفي هذا المقال المكتوب أٌحاول الإجابة على سؤالٍ: ما هي ملامح الروية للسودان بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ فالإجابة على السؤال عن الرؤية لا يمكن فصلها أو فهمها بِمعزلٍ عن كيفية إيقاف الحرب ومستقبل الدعم السريع. فرؤيتي لسودان ما بعد الحرب، التي يُشاركني فيها كثيرون استأذنتهم في الحديثٍ عن ملامحها ، ولها ركيزتان، أولاهما: لا أحدٌ يريد لهذه الحرب أن تستمر، بإستثناء تجارها وسماسرتها، ونعم للتفاوض حول الترتيبات الأمنية الذي لا يعيد انتاج المليشيا الموازية للجيش، ويُنهي الحرب بمُخاطبةِ ومُعالجةِ مُسبباتها، ويُحسم قضية تشكيل الجيش الوطني الواحد والقيادة الموحدة، وتكوين جيش مِهني يستبعِد وجود أي تنظيم سياسي داخلة، ويخضع للإصلاح والتطوير، سوياً مع بقيةِ أجهزة القطاع الأمني، ويستوعب التنوع والتعدد اللذين تذخر بهما البلاد قاطبةً. وهذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوالِ الوقوف ضد خيار قيادات المليشيا، ممن ليست موجهة ضدهم اتهامات جنائية أو انتهاكات لحقوق الإنسان، في ممارسة العمل السياسي وفقاً لقانون الأحزاب التنظيمات السياسية المُرتقب.
أما الركيزة الثانية للرؤية تقوم على ضرورة مراجعة منهج القوى السياسية والمدنية في التعامل مع الفترات التي تعقُب الثورات (1954، 1985، 2018) وتغيير الهدف من "انتقال السلطة" إلى هدفِ "تأسيس الدولة".
ففي حقيقية الأمر، ظلت الحروبُ هي السِمة المُميزة للتاريخ السياسي لسودان ما بعد الاستقلال، ولم يُلجِمها حتى انفصال الجنوب في 2011. وترجع الدوافع الرئيسة والأسباب الجوهرية لهذه الحروب إلى الاختلال الهيكلي في دولة ما بعد الاستقلال التى اخفقت في مخاطبة القضايا التأسيسية والمباديء الدستورية وأُسس بناء دولة المواطنة السودانية. أفضى الفشل في التوافق على هذه القضايا إلى نشوب المقاومة المسلحة الأولى في جنوب البلاد قبل إعلان الاستقلال في 1956، وإلى تمدّدِ واتساعِ رقعة الحرب جغرافياً لتعَمّ غرب وجنوب غرب وشرق وجنوب شرق السودان. تتجلى هذه القضايا التأسيسية في: شكل ونظام الحكم (خاصة العلاقة بين المركز والأقاليم (تجسدها الفدرالية الحقيقية) ، قِسمة السلطة والموارد، تعريف المؤسسات السلطوية (الجيش والقوات الأمنية)، العلاقة بين الدين بالدولة، الهوية، النمط التنموي، والعلاقات الخارجية.
صحيحٌ، ولو أنّه لأوَّل مرَّة في التاريخ السودان المُعاصر يدور قتالٌ طويل الأمد وبهذه الكثافة في قلب عاصمة البلاد، إلاّ أنّ حرب أبريل ليست بإستثناء عن سابقاتها من حروب كونها تتصل بأهم القضايا التأسيسة للدولة الحديثة: تشكيل الجيش الوطني الواحد المهني، ومُوحد القيادة.
فمِن جِهةٍ، ظل الجيش السوداني منذ نشأته مستغرقاً في الحروب مع حركات المقاومة المسلحة، في الجنوب وجنوب شرق، وجنوب غرب البلاد، ودارفور والشرق، حتى اعترف نظام الانقاذ رسمياً بالجيش الشعبي لتحرير السودان أُسوةً بالجيش السوداني، وبتشكيل "قوات مُشتركة مُدمجة" JIUS بمثابة نواةٍ للجيش الوطني الواحد في حالة تصويت السودانيين الجنوبيين لصالح الوحدة، وفي حالة اختيارهم للانفصال يصبح الجيش السوداني هو جيش السودان والجيش الشعبي جيش جنوب السودان، وهذا هو ما حدث. ومِن جِهةٍ أخرى، ولعله ربما الأهم، درجت الحكومات المركزية منذ منتصف الثمانيات من القرن الماضي بإنشاء مليشيات مسلحة متعددة، من مكونات عِرقية واثنية، موازية للجيش (القوات الصديقة)، حتى وصل الأمرُ إلى قمته بتأسيس نظام الانقاذ لمليشيا الدعم السريع وتقنين وضعها بالقانون.
إنّ ما جرى للجيش من تجريفٍ و"تسييس" مضطرد خلال فترة ما بعد الاستقلال، خاصة خلال حكم الإسلاميين (1989-2019) شوه صورته في ذهن عامة السودانيين. فما قامت حربُ أبريل إلاّ لتؤكد استحالة استدامة حالة وجود جيشين بقيادتين مستقلتين في دولةٍ واحدةٍ، بدلاً عن جيشٍ واحد تعكس قياداته وأفراده التنوع والتعدد لشعوب وأقوام السودان، فاندلعت هذه الحرب وكأنَّ كل أزمات ومظالم وأخطاء تاريخ السُّودان الحديث قد اجتمعت وعبَّرت عن نفسها في ساعةٍ فاصلةٍ، بين أن يكون السُّودان أو لا يكون. وفى هذا، لا يمكن إغفال دور التدخل الخارجى فى تأجيج الصراع قبل و بعد إندلاع القتال ونشوب الحرب في 15 أبريل 2023، فالحرب حتماً كانت قائمةً لا محالة، بغض النظر عمن اشعلها، الكيزان أم الاتفاق الإطاري.
وبالطبع، فإنه رغماً عن أن الحرب هى حرب بين جيشين إلاّ أنها أيضاً تُخلِقُ إنقساماً سياسياً مجتمعياً وأهلياً بدأت إرهاصته تتجلىى في دارفور وكردفان، وفي ولايات شمال ووسط وشرق البلاد. فمظاهر التفرقة والظلم والتهميش، والمساوة والعدل والعدالة، بين السودانيين هي أُموررٌ تتم مُخاطبتها ومُعالجتها في سياق العملية السياسية التأسيسية للدولة السودانية التي تشكل الركيزة الثانية من الرؤية، كما ذكرت في المُقدِمة، والتي سأحاول طرحَ ملامحها الرئيسة في هذا المقال.
الرؤية: الركيزة الثانية
وتقوم على أنّ صراع القوى السياسية على "سلطة الانتقال"، في كل الفترات التي أعقبت الثورات والانتفاضات الشعبية، كان على حساب "تأسيس الدولة"، مما فاقم ووسع رقعة الحرب، وافشل التحول الديمقراطي. أضربُ مثلاً، كُنت شاهداً عليه، في الصراع حول سلطة الانتقال بين التجمع النقابي والأحزاب السياسية بعد سقوط نميري في مارس/أبريل 1985، ودخول الحركة الشعبية لتحرير السودان في حلبة الصراع. فقد دعا زعيم الحركة الراحل جون قرنق إلى عقد المؤتمر الدستوري ومخاطبة القضايا التأسيسية التي قادت للحرب إبتداءاً، ولكن انشغلت القوى السياسية بالصراع على سلطة الانتقال، حتى سطت عليها الجبهة الإسلامية القومية، وها نحن نعود إلى ما قبل المربع الأول، بعد أرواحٍ صعدت ودماءٍ سُفِكت. حقيقةً، لا أرى في الأُفقِ إي إكتمالٍ لعِقد التحول الديمقراطي إلا بعد تأسيس دولة متماسكة، وهو الهدف الذي من المفترض أن تحققه النخبة التي قادت عملية استقلال البلاد. فتأسيس الدولةِ يسبِقُ الديمقراطية كآليةٍ ونظامِ حُكمٍ يقوم على التداول السلمي للسلطةِ في هذه الدولة.
فالمنهج المُتبع للانتقال، والروشتة المعهودة كانت تقوم على التوافق بين الأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني، التي اختصرت على النقابات المهنية والعمالية، واتحادات المزارعين، المنتخبة قياداتها من قواعدها، من الفرعيات إلى الجمعية العمومية إلى الهيئة التنفيذية للنقابة وفق قانونٍ مُحكم. تحالفت هذه القوى النقابية في ما عُرف بجبهةِ الهيئات في 1964 والتجمع النقابي في 1985، مع قيادة الجيش في شراكةٍ بدون استخدام المصطلح الذي أُستعمِل لاحقاً في ترتيبات انتقال ما بعد ثورة ديسمبر 2018. اتفقت كل هذه القوى السياسية والنقابية على مهام ومدة الفترة الانتقالية قصيرة الأجل وصولاً لانتتخاب جمعية تأسيسية تطلِّعُ بكتابة الدستور الدائم، وهو الهدف الذي لم يتحقق أبداً. فبالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية للانتقال في 2019، وتمديد فترة الانتقال من عامٍ واحدٍ إلى أربعة أعوام، إلاّ أنه تم اعتماد نفس المنهج والروشتة بتنظيم الانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية لنفس الغرض: إجازة الدستور الدائم للبلاد.
فمثلا: في 1964 و1985 لم يكن الاستقطابُ حاداً بين القوى السياسية الفاعلة في الساحة فاقتصر الصراع على سلطة الانتقال بين ما كنا نسميه "القوى التقليدية" (الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة) وحركة الإسلاميين، من جهة، و"القوى الحديثة" (الحركة النقابية، الحزب الشيوعي، وما نُطلق عليها "القوى الديمقراطية"، من جهة أخرى. وبالرغم من خلافات هذه القوى على شكل وصلاحيات هياكل الانتقال وقانون الانتخابات، إلا أنّ قدراً من التوافقِ بينها سمح بنهاية فترةٍ انتقاليةٍ قصيرةٍ تمت بعدها انتخاب "الجمعية التاسسية" كهيئة تشريعية مهمتها الرئيسة صياغة وإجازة الدستور الدائم للبلاد، (والذي لم تفلح في إجازته أيٌ من الجمعيتين).
ومع ذلك، نجحت القوى السياسية في هاتين التجرتين السابقتين في تحقيق توافق شبه كامل على ميثاق الانتفاضة ضم حتى الإسلاميين حلفاء الرئيس نميري قبل أن ينقلب عليهم قبل شهرٍ واحدٍ فقط من سقوطه، والذين قبلوا بعدم المشاركة رسمياً في هياكل الانتقال، وتركوها للتجمع النقابي والأحزاب السياسية، ولو كان باب المُشير رئيس المجلس العسكري الانتقالي مُشرعاً لهم.
ولكن بالرغم من ذلك كُلِهِ، ظل الصراع على سلطة الانتقال (طبعا بغض النظر عن درجة ومدى حدة هذا الصراع خلال التجربتين الانتقاليتين السابقتين) بين الأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني النقابية، يعود مجدداً بعد الانتخابات ونهاية الفترة الانتقالية. فما أن تستلم الحكومة المنتخبة السلطة إلا وعادت خلافات الانتقال بين نفس هذه القوى، فتوغِلُ القوى الحديثة في المعارضة ضد القوى التقليدية والإسلامية. وقد كنت حينذاك ناشطاً ومشاركاً، بصفتي السكرتير المالي للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، وشاهداً على ما أسميته شد الحبل العنيف tug of war بين التجمع النقابي ورئيس الوزراء، الإمام الراحل، وتنظيم سلسلة من الإضرابات عن العمل، مما اضطره لتشكيل ثلاث حكومات حلال فترةٍ وجيزةٍ، بما ساهم في إضعاف الحكومة المنتخبة. وهكذا، ينقلب الجيش (بإيعازٍ سياسيٍ أو بطموح عسكري) على الحكم ما أسميناها "الدائرة الخبيثة"، بينما تظل البلاد تفتقد إلى دستورٍ دائمٍ يؤسس للدولة السودانية ويفتح الطريق للتحول الديمقراطي الحقيقي.
أما عملية انتقال السلطة عقب الثورة في 2019 فلم تبلُغ نهايتها بقيام الانتخايات، وبالرغم من ذلك أفضى الصراع بين هذه القوى، ولو اختلفت أشكالها ومظاهرها، من جِهةٍ، وبينها وبين الجيش والدعم السريع (وهو عامل جديد)، من جِهةٍ أخرى، إلى الانقلاب في 25 أكتوبر 2021، خلال الفترة الانتقالية بل وأعقبته حرب 15 أبريل لأول مرة في تاريخ الانتقالات. ففي هذه المرة، فإنّ تغيُّر طبيعة القوى السياسية والمدنية، وغياب التنظيمات النقابية المنتخبة، وتعدد أطياف كل هذه القوى، وبروز الحركات المسلحة وتصاعُد المقاومة الشبابية، وفوق ذلك كله تصدر مليشيا الدعم السريع للمشهد، كلها عوامل وقفت في طريق ثورة ديسمبر 2018 لتحقيق قدرٍ معقول من التوافق (من خلال قوى إعلان الحرية والتغيير). فلم تنتهِ الفترة الانتقالية كسابقتيها بانتخابات، فوقع الانقلاب هذه المرة خلال الفترة الانتقالية نفسها حيث الانقلابات عادة كانت تقوم ضد الحكومات المنتخبة، وذاد الطين بلة اندلاع حرب 15 أبريل والتي ما زالت مستمرة، والتي انقسم على إثرها المجتمع السياسي والأهلي.
فخلافاً للتجربتين السابقتين، فإنّ العجز في الوصول على توافقٍ سياسي عريض لإدارة الفترة الانتقالية حتى بين القوى التي كانت تقود المعارضة ضد نظام الإنقاذ من قوى سياسية وحركات مسلحة، وقوى مجتمعية ونقابية، أبرزَ وأشاع مفهوم "الحاضنة السياسية" لحكومة الانتقال المكونة من قوى بعينها تعارضها قوى أخري، سواء كانت هذه القوى مشاركة أم لم تكن مشاركة في الثورة، ومفهوم الحاضنة أصلاً لم يكن متداولاً على الإطلاق في الفترتين الانتقاليتين السابقتين. وفي أعقاب انقلاب 25 أكتوبر، حاولت هذه الحاضنة توسيع قاعدتها السياسية بتجميع القوى التي وقعت على الاتفاق الإطاري والذي لم يصل إلى نهايته المنطقية حتى قامت حرب الخامس عشر من أبريل.
فبعد الحرب، إلى جانب بعض القوى السياسية، انضمت ما يعرف ب "القوى المدنية" (وهو مفهوم مُلتبٍس) إلى حلبة هذا الصراع حول سلطة الانتقال، عبر مبادرات من مجموعات مدنية مختلفة هدفها العام هو المشاركة الفعالة في المفاوضات حول العملية السياسية المقبلة، وأن يكون لها دور في تصميم الهياكل الانتقالية لمرحلة ما بعد الحرب، وهدفها المحدد هو إنشاء تحالف واسع للحصول على "شرعية توافقية" لتمثيل هذه القوى في أي حكومة انتقالية قادمة.
هكذا، بنفس المنهج والروشتة، بالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية، وبعد انقلاب أعقبته حربٍ، تسعي القوى السياسية والمدنية للمشاركة في سلطة الانتقال القادمة بحسب هذا التصور، فهل نتوقع نتائج مغايرة أم سنعود للدائرة الأكثر شراً أو خبثاً هذه المرة، وستعود البلاد للمربع ما قبل الأول؟
خُلاصة الأمر، أنه إذا كان هدف كل فترات الانتقال هو نقل السلطة من نظام استبدادي وشمولي إلى نظام انتخابي تعددي، فهدف ما بعد الحرب هو الشروع في عملية تأسيس الدولة يشارك فيها جميع السودانيين، بما في ذلك الجيش والقوات النظامية، دون إقصاء، إلا حزب المؤتمر الوطني (بشخصيته الإعتبارية)، ومن أجرم وأفسد.
حقيقةً، أتمنى أن تكون دروس وعِبر هذه الحرب هي الباعث والحافز للقوى السياسية والمدنية والمجتمعية لتفادي نهجها السابق والقطيعة مع منهجها القديم في التعاطي مع أزمات البلاد خلال الفترات الاتتقالية التي تعقب الثورات الشعبية تحت عنوان: الصراع على سلطة وإدارة الانتقال، مما أفشل كل التجارب الانتقالية، وأن تنخرط جميع هذه القوى في حوارٍ موسعٍ حول القضايا التأسيسية للدولة السودانية.
في رأيي، أنه في واقعنا الماثل لا يمكن المرور من الشرعية "الثورية"، التي تأسست على إثرها هياكل السلطة الانتقالية، إلى الشرعية الانتخابية "الدستورية" دون المرور بمرحلة الشرعية "التوافقية". فالشرعية الثورية كفرصة لتمثيل الشارع واللحظة والنُطق بإسم الثورة قد تناقصت أوتادها في سياق التطورات السياسية خلال فترة الانتقال، بينما الشرعية الانتخابية تحتاج إلى حيزٍ زمنيٍ معتبرٍ حتى تكتمل عملية التأسيس، وأي استعجال في الانتخابات هو استعجال للمكاسب والغنائم السياسية، مما يقدحُ في مصداقية الانتخابات وشرعية نتائجها. ولذلك، ينبغي أن يتجاوز الصراع بين القوى السياسية مرحلة التناقض والاستقطاب، وأن تسمو هذه القوى فوق حسابات السياسة وصراعات السلطة، والتحول من "شرعية الحاضنة السياسية" إلى "الشرعيةٍ التوافقيةٍ" يذهب إليها كل الفاعلين في المشهد السياسي، ومحروسة من قوى المقاومة الشبابية والشارع العريض، وفق رؤية الكل فيها منتصر، مما يرسُم الأحرف الأولى من سيرورة تأسيس الدولة السودانية.
تبدأ الفترة التأسيسية بعد تشكيل حكومة مدنية لتسيير الأعمال من أكفاءٍ وشخصياتٍ وطنيةٍ مُستقِلةٍ عن الحزبية السياسية، وتكون من أولويات أهدافها تحقيق مُهمتين رئيسيتين: 1) وضع خطط إعادة البناء والتعمير، ومتابعة القضايا الإنسانية، وعلى رأسها توفير الأمن وحماية المواطنين المدنيين، وعودة النازحين واللاجئين إلى مواقعهم الأصلية، وإعادة تفعيل الخدمات الحكومية من صحة وتعليم، وقضايا المعيشة اليومية، وكل ما من شأنه عودة الحياة الطبيعية، و2) اتخاذ كل التدابير اللازمة لتهيئة المناخ للعملية السياسية التأسيسية واتاحة الحريات العامة للعمل السياسي.
هذه الحكومة لا تشكِلُها أوتُحدد مدة الفترة التأسيسية أي حاضنة من قوى سياسية ومدنية بعينها، بل تقوم باختيارها (هيئة قومية تناقش القضايا التأسيسة للدولة)، تتداعى إليها وتنخرط فيها كافة القوى السياسية والمجتمعية والأهلية والشبابية (وأن يكون تمثيل الشباب ُمضمنا في هذه القوى) ولجان المقاومة والتنظيمات النسائية، ومُمثلين للولايات، (باستثناء من أجرم أو أفسد)، وحركات الكفاح المسلح، ومن الشخصيات الوطنية وقيادات الرأي العا م، والمغتربون و رجال وسيدات الاعمال والقوات النظامية، بهدف مشاركة وإشراك الجميع في تصميم العملية السياسية التأسيسية حتى الوصولِ إلى عقد المؤتمر القومي الدستوري، الذي يخاطب قضايا التأسيس، بما في ذلك المباديء فوق الدستورية، وهو الطريق الأمثل الذي يكفل "الشرعية التوافقية" لهذه العملية. وتكُون هذه الهيئة القومية لجنة من قانونيين أكفاء لصياغة مسودة الدستور وعرضها في استفتاء شعبي عام. وتقوم هذه الهيئة القومية بكل المهام المتصلة بقضايا التأسيس حتى الوصول للمؤتمر الدستوري، والتي لا تجُب ولا تتناقض مع أهداف ثورة ديسمبر، إضافة إلى مهام التشريع الخاص بهذه القضايا، وترشيح رئيس الووراء المدني، وتقييم وتقويم الحكومة، وتشكيل المؤسسات والآليات اللازمة لتنفيذ هذه المهام.
وتمتد الفترة التأسيسية حتى الوصول لعقد المؤتمر القومي الدستوري والاستفتاء على مسودة الدستور الصادرة منه، وقيام الانتخابات وتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنيةٍ مُنتخبةٍ، تُدشن مرحلة التحول الديمقراطي الحقيقي.
قبل أن أختم حديثي، أتفهم وأفهم ما يطرحه كثيرون من أسئلةٍ وتساؤلات عن جدوى المؤتمر الدستوري، وكيفية جمع واجتماع الأطراف المختلفة ليتفقوا، وكيف يتم حسم الأمور بالتصويت أم التوافق. لا شك هذه عقبات موضوعية لا يمكن تجاوزها بدون إدراك ٍوإرادة حقيقة من القيادات السياسية والمجتمعية على أن الجلوس على طاولة للحوار حول قضايا التأسيس، والتي لم يجلسوا عليها منذ مؤتمر الدائرة المستديرة في النصف الثاني من سيتينات القرن الماضي، هو الحل الوحيد لأزمة البلاد المُستفحِلة. فببساطةٍ، إن اختاروا الصراع حول سلطة الانتقال، وهي عملية أكثرُ تعقيداً، بديلاً عن ذلك، فعلى السودان السلام.
ختاماً
لأكون موضوعياً وبعيداً عن التمنيات والرغائب، فإنّه لا مكان من الإعراب لهذه الرؤية التأسيسية إذا فشلنا في مجابهة ومواجهة التحديات الجسام والعقبات العظام في حال تمدُد واستمرار الحرب لمدة طويلة. فالفشل في تحقيق الهدف الرئيس بتشكيل الجيش الوطني الواحد، موحد القيادة، بما يعني الحفاظ على الدعم السريع كفاعلٍ عسكريٍّ سياسيٍّ مستقل عن، وموازٍ للجيش، لا شكّ سيُعيد انتاج الأزمة التي قادت إبتداءاً لهذه الحرب. في هذه الحالة، ستدخل البلادُ في حربٍ جديدةٍ قد تكون أوسعَ نطاقاً وأفظعُ مدىً من الاقتتال الجاري، يصعبُ التكهُنِ بمساراتها ومآلاتها من تقسيمٍ للبلاد أو تفكُك للدولةِ. السيناريو الأسوأ، ولو يبدو بعيد الاحتمال، هو تواصل الحرب لصالح قوى إقليمية ودولية تكون دارفور محطة انطلاقها لاخضاع باقي السودان باستلام مليشيا الدعم السريع للسلطة المركزية، مما سيوقِعُ أكبر قدرٍ من الضرر والدمار يوسِّع رقعة، ويطوِّل أمد هذه الحرب، قبل أن يترجلوا من السلطة شأنهم شأن معظم الجماعات الرعوية التي اندفعت لاقتلاع السلطة في المراكز الحضرية الكبرى، فطغوا وعاثوا في الأرضِ فساداً لسنوات طويلة، حتى تفككوا بعد ذلك، كمثال القبائل الجرمانية، الفايكنج، المغول ... الخ. ومع ذلك، يظلُ تداعي السودانيبن لتأسيسُ وبناء دولة المواطنة، القائمة على العدالة والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، هو الموضوع الأساس.
تورونتو، 9 ديسمبر 2023
الجيش الواحد: الركيزة الأولى للرؤية
لدي تسجيل لمقالٍ صوتيٍ في 23 أكتوبر الماضي (متوفر على قناة البلد نيوز ومنصة السوداني بالفيسبوك)، أجبت فيه على سؤالٍ مُهمٍ يطرحه كثيرون عن: كيفية وقف الحرب ومصير مليشيا الدعم السريع، وفي هذا المقال المكتوب أٌحاول الإجابة على سؤالٍ: ما هي ملامح الروية للسودان بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ فالإجابة على السؤال عن الرؤية لا يمكن فصلها أو فهمها بِمعزلٍ عن كيفية إيقاف الحرب ومستقبل الدعم السريع. فرؤيتي لسودان ما بعد الحرب، التي يُشاركني فيها كثيرون استأذنتهم في الحديثٍ عن ملامحها ، ولها ركيزتان، أولاهما: لا أحدٌ يريد لهذه الحرب أن تستمر، بإستثناء تجارها وسماسرتها، ونعم للتفاوض حول الترتيبات الأمنية الذي لا يعيد انتاج المليشيا الموازية للجيش، ويُنهي الحرب بمُخاطبةِ ومُعالجةِ مُسبباتها، ويُحسم قضية تشكيل الجيش الوطني الواحد والقيادة الموحدة، وتكوين جيش مِهني يستبعِد وجود أي تنظيم سياسي داخلة، ويخضع للإصلاح والتطوير، سوياً مع بقيةِ أجهزة القطاع الأمني، ويستوعب التنوع والتعدد اللذين تذخر بهما البلاد قاطبةً. وهذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوالِ الوقوف ضد خيار قيادات المليشيا، ممن ليست موجهة ضدهم اتهامات جنائية أو انتهاكات لحقوق الإنسان، في ممارسة العمل السياسي وفقاً لقانون الأحزاب التنظيمات السياسية المُرتقب.
أما الركيزة الثانية للرؤية تقوم على ضرورة مراجعة منهج القوى السياسية والمدنية في التعامل مع الفترات التي تعقُب الثورات (1954، 1985، 2018) وتغيير الهدف من "انتقال السلطة" إلى هدفِ "تأسيس الدولة".
ففي حقيقية الأمر، ظلت الحروبُ هي السِمة المُميزة للتاريخ السياسي لسودان ما بعد الاستقلال، ولم يُلجِمها حتى انفصال الجنوب في 2011. وترجع الدوافع الرئيسة والأسباب الجوهرية لهذه الحروب إلى الاختلال الهيكلي في دولة ما بعد الاستقلال التى اخفقت في مخاطبة القضايا التأسيسية والمباديء الدستورية وأُسس بناء دولة المواطنة السودانية. أفضى الفشل في التوافق على هذه القضايا إلى نشوب المقاومة المسلحة الأولى في جنوب البلاد قبل إعلان الاستقلال في 1956، وإلى تمدّدِ واتساعِ رقعة الحرب جغرافياً لتعَمّ غرب وجنوب غرب وشرق وجنوب شرق السودان. تتجلى هذه القضايا التأسيسية في: شكل ونظام الحكم (خاصة العلاقة بين المركز والأقاليم (تجسدها الفدرالية الحقيقية) ، قِسمة السلطة والموارد، تعريف المؤسسات السلطوية (الجيش والقوات الأمنية)، العلاقة بين الدين بالدولة، الهوية، النمط التنموي، والعلاقات الخارجية.
صحيحٌ، ولو أنّه لأوَّل مرَّة في التاريخ السودان المُعاصر يدور قتالٌ طويل الأمد وبهذه الكثافة في قلب عاصمة البلاد، إلاّ أنّ حرب أبريل ليست بإستثناء عن سابقاتها من حروب كونها تتصل بأهم القضايا التأسيسة للدولة الحديثة: تشكيل الجيش الوطني الواحد المهني، ومُوحد القيادة.
فمِن جِهةٍ، ظل الجيش السوداني منذ نشأته مستغرقاً في الحروب مع حركات المقاومة المسلحة، في الجنوب وجنوب شرق، وجنوب غرب البلاد، ودارفور والشرق، حتى اعترف نظام الانقاذ رسمياً بالجيش الشعبي لتحرير السودان أُسوةً بالجيش السوداني، وبتشكيل "قوات مُشتركة مُدمجة" JIUS بمثابة نواةٍ للجيش الوطني الواحد في حالة تصويت السودانيين الجنوبيين لصالح الوحدة، وفي حالة اختيارهم للانفصال يصبح الجيش السوداني هو جيش السودان والجيش الشعبي جيش جنوب السودان، وهذا هو ما حدث. ومِن جِهةٍ أخرى، ولعله ربما الأهم، درجت الحكومات المركزية منذ منتصف الثمانيات من القرن الماضي بإنشاء مليشيات مسلحة متعددة، من مكونات عِرقية واثنية، موازية للجيش (القوات الصديقة)، حتى وصل الأمرُ إلى قمته بتأسيس نظام الانقاذ لمليشيا الدعم السريع وتقنين وضعها بالقانون.
إنّ ما جرى للجيش من تجريفٍ و"تسييس" مضطرد خلال فترة ما بعد الاستقلال، خاصة خلال حكم الإسلاميين (1989-2019) شوه صورته في ذهن عامة السودانيين. فما قامت حربُ أبريل إلاّ لتؤكد استحالة استدامة حالة وجود جيشين بقيادتين مستقلتين في دولةٍ واحدةٍ، بدلاً عن جيشٍ واحد تعكس قياداته وأفراده التنوع والتعدد لشعوب وأقوام السودان، فاندلعت هذه الحرب وكأنَّ كل أزمات ومظالم وأخطاء تاريخ السُّودان الحديث قد اجتمعت وعبَّرت عن نفسها في ساعةٍ فاصلةٍ، بين أن يكون السُّودان أو لا يكون. وفى هذا، لا يمكن إغفال دور التدخل الخارجى فى تأجيج الصراع قبل و بعد إندلاع القتال ونشوب الحرب في 15 أبريل 2023، فالحرب حتماً كانت قائمةً لا محالة، بغض النظر عمن اشعلها، الكيزان أم الاتفاق الإطاري.
وبالطبع، فإنه رغماً عن أن الحرب هى حرب بين جيشين إلاّ أنها أيضاً تُخلِقُ إنقساماً سياسياً مجتمعياً وأهلياً بدأت إرهاصته تتجلىى في دارفور وكردفان، وفي ولايات شمال ووسط وشرق البلاد. فمظاهر التفرقة والظلم والتهميش، والمساوة والعدل والعدالة، بين السودانيين هي أُموررٌ تتم مُخاطبتها ومُعالجتها في سياق العملية السياسية التأسيسية للدولة السودانية التي تشكل الركيزة الثانية من الرؤية، كما ذكرت في المُقدِمة، والتي سأحاول طرحَ ملامحها الرئيسة في هذا المقال.
الرؤية: الركيزة الثانية
وتقوم على أنّ صراع القوى السياسية على "سلطة الانتقال"، في كل الفترات التي أعقبت الثورات والانتفاضات الشعبية، كان على حساب "تأسيس الدولة"، مما فاقم ووسع رقعة الحرب، وافشل التحول الديمقراطي. أضربُ مثلاً، كُنت شاهداً عليه، في الصراع حول سلطة الانتقال بين التجمع النقابي والأحزاب السياسية بعد سقوط نميري في مارس/أبريل 1985، ودخول الحركة الشعبية لتحرير السودان في حلبة الصراع. فقد دعا زعيم الحركة الراحل جون قرنق إلى عقد المؤتمر الدستوري ومخاطبة القضايا التأسيسية التي قادت للحرب إبتداءاً، ولكن انشغلت القوى السياسية بالصراع على سلطة الانتقال، حتى سطت عليها الجبهة الإسلامية القومية، وها نحن نعود إلى ما قبل المربع الأول، بعد أرواحٍ صعدت ودماءٍ سُفِكت. حقيقةً، لا أرى في الأُفقِ إي إكتمالٍ لعِقد التحول الديمقراطي إلا بعد تأسيس دولة متماسكة، وهو الهدف الذي من المفترض أن تحققه النخبة التي قادت عملية استقلال البلاد. فتأسيس الدولةِ يسبِقُ الديمقراطية كآليةٍ ونظامِ حُكمٍ يقوم على التداول السلمي للسلطةِ في هذه الدولة.
فالمنهج المُتبع للانتقال، والروشتة المعهودة كانت تقوم على التوافق بين الأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني، التي اختصرت على النقابات المهنية والعمالية، واتحادات المزارعين، المنتخبة قياداتها من قواعدها، من الفرعيات إلى الجمعية العمومية إلى الهيئة التنفيذية للنقابة وفق قانونٍ مُحكم. تحالفت هذه القوى النقابية في ما عُرف بجبهةِ الهيئات في 1964 والتجمع النقابي في 1985، مع قيادة الجيش في شراكةٍ بدون استخدام المصطلح الذي أُستعمِل لاحقاً في ترتيبات انتقال ما بعد ثورة ديسمبر 2018. اتفقت كل هذه القوى السياسية والنقابية على مهام ومدة الفترة الانتقالية قصيرة الأجل وصولاً لانتتخاب جمعية تأسيسية تطلِّعُ بكتابة الدستور الدائم، وهو الهدف الذي لم يتحقق أبداً. فبالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية للانتقال في 2019، وتمديد فترة الانتقال من عامٍ واحدٍ إلى أربعة أعوام، إلاّ أنه تم اعتماد نفس المنهج والروشتة بتنظيم الانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية لنفس الغرض: إجازة الدستور الدائم للبلاد.
فمثلا: في 1964 و1985 لم يكن الاستقطابُ حاداً بين القوى السياسية الفاعلة في الساحة فاقتصر الصراع على سلطة الانتقال بين ما كنا نسميه "القوى التقليدية" (الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة) وحركة الإسلاميين، من جهة، و"القوى الحديثة" (الحركة النقابية، الحزب الشيوعي، وما نُطلق عليها "القوى الديمقراطية"، من جهة أخرى. وبالرغم من خلافات هذه القوى على شكل وصلاحيات هياكل الانتقال وقانون الانتخابات، إلا أنّ قدراً من التوافقِ بينها سمح بنهاية فترةٍ انتقاليةٍ قصيرةٍ تمت بعدها انتخاب "الجمعية التاسسية" كهيئة تشريعية مهمتها الرئيسة صياغة وإجازة الدستور الدائم للبلاد، (والذي لم تفلح في إجازته أيٌ من الجمعيتين).
ومع ذلك، نجحت القوى السياسية في هاتين التجرتين السابقتين في تحقيق توافق شبه كامل على ميثاق الانتفاضة ضم حتى الإسلاميين حلفاء الرئيس نميري قبل أن ينقلب عليهم قبل شهرٍ واحدٍ فقط من سقوطه، والذين قبلوا بعدم المشاركة رسمياً في هياكل الانتقال، وتركوها للتجمع النقابي والأحزاب السياسية، ولو كان باب المُشير رئيس المجلس العسكري الانتقالي مُشرعاً لهم.
ولكن بالرغم من ذلك كُلِهِ، ظل الصراع على سلطة الانتقال (طبعا بغض النظر عن درجة ومدى حدة هذا الصراع خلال التجربتين الانتقاليتين السابقتين) بين الأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني النقابية، يعود مجدداً بعد الانتخابات ونهاية الفترة الانتقالية. فما أن تستلم الحكومة المنتخبة السلطة إلا وعادت خلافات الانتقال بين نفس هذه القوى، فتوغِلُ القوى الحديثة في المعارضة ضد القوى التقليدية والإسلامية. وقد كنت حينذاك ناشطاً ومشاركاً، بصفتي السكرتير المالي للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، وشاهداً على ما أسميته شد الحبل العنيف tug of war بين التجمع النقابي ورئيس الوزراء، الإمام الراحل، وتنظيم سلسلة من الإضرابات عن العمل، مما اضطره لتشكيل ثلاث حكومات حلال فترةٍ وجيزةٍ، بما ساهم في إضعاف الحكومة المنتخبة. وهكذا، ينقلب الجيش (بإيعازٍ سياسيٍ أو بطموح عسكري) على الحكم ما أسميناها "الدائرة الخبيثة"، بينما تظل البلاد تفتقد إلى دستورٍ دائمٍ يؤسس للدولة السودانية ويفتح الطريق للتحول الديمقراطي الحقيقي.
أما عملية انتقال السلطة عقب الثورة في 2019 فلم تبلُغ نهايتها بقيام الانتخايات، وبالرغم من ذلك أفضى الصراع بين هذه القوى، ولو اختلفت أشكالها ومظاهرها، من جِهةٍ، وبينها وبين الجيش والدعم السريع (وهو عامل جديد)، من جِهةٍ أخرى، إلى الانقلاب في 25 أكتوبر 2021، خلال الفترة الانتقالية بل وأعقبته حرب 15 أبريل لأول مرة في تاريخ الانتقالات. ففي هذه المرة، فإنّ تغيُّر طبيعة القوى السياسية والمدنية، وغياب التنظيمات النقابية المنتخبة، وتعدد أطياف كل هذه القوى، وبروز الحركات المسلحة وتصاعُد المقاومة الشبابية، وفوق ذلك كله تصدر مليشيا الدعم السريع للمشهد، كلها عوامل وقفت في طريق ثورة ديسمبر 2018 لتحقيق قدرٍ معقول من التوافق (من خلال قوى إعلان الحرية والتغيير). فلم تنتهِ الفترة الانتقالية كسابقتيها بانتخابات، فوقع الانقلاب هذه المرة خلال الفترة الانتقالية نفسها حيث الانقلابات عادة كانت تقوم ضد الحكومات المنتخبة، وذاد الطين بلة اندلاع حرب 15 أبريل والتي ما زالت مستمرة، والتي انقسم على إثرها المجتمع السياسي والأهلي.
فخلافاً للتجربتين السابقتين، فإنّ العجز في الوصول على توافقٍ سياسي عريض لإدارة الفترة الانتقالية حتى بين القوى التي كانت تقود المعارضة ضد نظام الإنقاذ من قوى سياسية وحركات مسلحة، وقوى مجتمعية ونقابية، أبرزَ وأشاع مفهوم "الحاضنة السياسية" لحكومة الانتقال المكونة من قوى بعينها تعارضها قوى أخري، سواء كانت هذه القوى مشاركة أم لم تكن مشاركة في الثورة، ومفهوم الحاضنة أصلاً لم يكن متداولاً على الإطلاق في الفترتين الانتقاليتين السابقتين. وفي أعقاب انقلاب 25 أكتوبر، حاولت هذه الحاضنة توسيع قاعدتها السياسية بتجميع القوى التي وقعت على الاتفاق الإطاري والذي لم يصل إلى نهايته المنطقية حتى قامت حرب الخامس عشر من أبريل.
فبعد الحرب، إلى جانب بعض القوى السياسية، انضمت ما يعرف ب "القوى المدنية" (وهو مفهوم مُلتبٍس) إلى حلبة هذا الصراع حول سلطة الانتقال، عبر مبادرات من مجموعات مدنية مختلفة هدفها العام هو المشاركة الفعالة في المفاوضات حول العملية السياسية المقبلة، وأن يكون لها دور في تصميم الهياكل الانتقالية لمرحلة ما بعد الحرب، وهدفها المحدد هو إنشاء تحالف واسع للحصول على "شرعية توافقية" لتمثيل هذه القوى في أي حكومة انتقالية قادمة.
هكذا، بنفس المنهج والروشتة، بالرغم من اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية، وبعد انقلاب أعقبته حربٍ، تسعي القوى السياسية والمدنية للمشاركة في سلطة الانتقال القادمة بحسب هذا التصور، فهل نتوقع نتائج مغايرة أم سنعود للدائرة الأكثر شراً أو خبثاً هذه المرة، وستعود البلاد للمربع ما قبل الأول؟
خُلاصة الأمر، أنه إذا كان هدف كل فترات الانتقال هو نقل السلطة من نظام استبدادي وشمولي إلى نظام انتخابي تعددي، فهدف ما بعد الحرب هو الشروع في عملية تأسيس الدولة يشارك فيها جميع السودانيين، بما في ذلك الجيش والقوات النظامية، دون إقصاء، إلا حزب المؤتمر الوطني (بشخصيته الإعتبارية)، ومن أجرم وأفسد.
حقيقةً، أتمنى أن تكون دروس وعِبر هذه الحرب هي الباعث والحافز للقوى السياسية والمدنية والمجتمعية لتفادي نهجها السابق والقطيعة مع منهجها القديم في التعاطي مع أزمات البلاد خلال الفترات الاتتقالية التي تعقب الثورات الشعبية تحت عنوان: الصراع على سلطة وإدارة الانتقال، مما أفشل كل التجارب الانتقالية، وأن تنخرط جميع هذه القوى في حوارٍ موسعٍ حول القضايا التأسيسية للدولة السودانية.
في رأيي، أنه في واقعنا الماثل لا يمكن المرور من الشرعية "الثورية"، التي تأسست على إثرها هياكل السلطة الانتقالية، إلى الشرعية الانتخابية "الدستورية" دون المرور بمرحلة الشرعية "التوافقية". فالشرعية الثورية كفرصة لتمثيل الشارع واللحظة والنُطق بإسم الثورة قد تناقصت أوتادها في سياق التطورات السياسية خلال فترة الانتقال، بينما الشرعية الانتخابية تحتاج إلى حيزٍ زمنيٍ معتبرٍ حتى تكتمل عملية التأسيس، وأي استعجال في الانتخابات هو استعجال للمكاسب والغنائم السياسية، مما يقدحُ في مصداقية الانتخابات وشرعية نتائجها. ولذلك، ينبغي أن يتجاوز الصراع بين القوى السياسية مرحلة التناقض والاستقطاب، وأن تسمو هذه القوى فوق حسابات السياسة وصراعات السلطة، والتحول من "شرعية الحاضنة السياسية" إلى "الشرعيةٍ التوافقيةٍ" يذهب إليها كل الفاعلين في المشهد السياسي، ومحروسة من قوى المقاومة الشبابية والشارع العريض، وفق رؤية الكل فيها منتصر، مما يرسُم الأحرف الأولى من سيرورة تأسيس الدولة السودانية.
تبدأ الفترة التأسيسية بعد تشكيل حكومة مدنية لتسيير الأعمال من أكفاءٍ وشخصياتٍ وطنيةٍ مُستقِلةٍ عن الحزبية السياسية، وتكون من أولويات أهدافها تحقيق مُهمتين رئيسيتين: 1) وضع خطط إعادة البناء والتعمير، ومتابعة القضايا الإنسانية، وعلى رأسها توفير الأمن وحماية المواطنين المدنيين، وعودة النازحين واللاجئين إلى مواقعهم الأصلية، وإعادة تفعيل الخدمات الحكومية من صحة وتعليم، وقضايا المعيشة اليومية، وكل ما من شأنه عودة الحياة الطبيعية، و2) اتخاذ كل التدابير اللازمة لتهيئة المناخ للعملية السياسية التأسيسية واتاحة الحريات العامة للعمل السياسي.
هذه الحكومة لا تشكِلُها أوتُحدد مدة الفترة التأسيسية أي حاضنة من قوى سياسية ومدنية بعينها، بل تقوم باختيارها (هيئة قومية تناقش القضايا التأسيسة للدولة)، تتداعى إليها وتنخرط فيها كافة القوى السياسية والمجتمعية والأهلية والشبابية (وأن يكون تمثيل الشباب ُمضمنا في هذه القوى) ولجان المقاومة والتنظيمات النسائية، ومُمثلين للولايات، (باستثناء من أجرم أو أفسد)، وحركات الكفاح المسلح، ومن الشخصيات الوطنية وقيادات الرأي العا م، والمغتربون و رجال وسيدات الاعمال والقوات النظامية، بهدف مشاركة وإشراك الجميع في تصميم العملية السياسية التأسيسية حتى الوصولِ إلى عقد المؤتمر القومي الدستوري، الذي يخاطب قضايا التأسيس، بما في ذلك المباديء فوق الدستورية، وهو الطريق الأمثل الذي يكفل "الشرعية التوافقية" لهذه العملية. وتكُون هذه الهيئة القومية لجنة من قانونيين أكفاء لصياغة مسودة الدستور وعرضها في استفتاء شعبي عام. وتقوم هذه الهيئة القومية بكل المهام المتصلة بقضايا التأسيس حتى الوصول للمؤتمر الدستوري، والتي لا تجُب ولا تتناقض مع أهداف ثورة ديسمبر، إضافة إلى مهام التشريع الخاص بهذه القضايا، وترشيح رئيس الووراء المدني، وتقييم وتقويم الحكومة، وتشكيل المؤسسات والآليات اللازمة لتنفيذ هذه المهام.
وتمتد الفترة التأسيسية حتى الوصول لعقد المؤتمر القومي الدستوري والاستفتاء على مسودة الدستور الصادرة منه، وقيام الانتخابات وتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنيةٍ مُنتخبةٍ، تُدشن مرحلة التحول الديمقراطي الحقيقي.
قبل أن أختم حديثي، أتفهم وأفهم ما يطرحه كثيرون من أسئلةٍ وتساؤلات عن جدوى المؤتمر الدستوري، وكيفية جمع واجتماع الأطراف المختلفة ليتفقوا، وكيف يتم حسم الأمور بالتصويت أم التوافق. لا شك هذه عقبات موضوعية لا يمكن تجاوزها بدون إدراك ٍوإرادة حقيقة من القيادات السياسية والمجتمعية على أن الجلوس على طاولة للحوار حول قضايا التأسيس، والتي لم يجلسوا عليها منذ مؤتمر الدائرة المستديرة في النصف الثاني من سيتينات القرن الماضي، هو الحل الوحيد لأزمة البلاد المُستفحِلة. فببساطةٍ، إن اختاروا الصراع حول سلطة الانتقال، وهي عملية أكثرُ تعقيداً، بديلاً عن ذلك، فعلى السودان السلام.
ختاماً
لأكون موضوعياً وبعيداً عن التمنيات والرغائب، فإنّه لا مكان من الإعراب لهذه الرؤية التأسيسية إذا فشلنا في مجابهة ومواجهة التحديات الجسام والعقبات العظام في حال تمدُد واستمرار الحرب لمدة طويلة. فالفشل في تحقيق الهدف الرئيس بتشكيل الجيش الوطني الواحد، موحد القيادة، بما يعني الحفاظ على الدعم السريع كفاعلٍ عسكريٍّ سياسيٍّ مستقل عن، وموازٍ للجيش، لا شكّ سيُعيد انتاج الأزمة التي قادت إبتداءاً لهذه الحرب. في هذه الحالة، ستدخل البلادُ في حربٍ جديدةٍ قد تكون أوسعَ نطاقاً وأفظعُ مدىً من الاقتتال الجاري، يصعبُ التكهُنِ بمساراتها ومآلاتها من تقسيمٍ للبلاد أو تفكُك للدولةِ. السيناريو الأسوأ، ولو يبدو بعيد الاحتمال، هو تواصل الحرب لصالح قوى إقليمية ودولية تكون دارفور محطة انطلاقها لاخضاع باقي السودان باستلام مليشيا الدعم السريع للسلطة المركزية، مما سيوقِعُ أكبر قدرٍ من الضرر والدمار يوسِّع رقعة، ويطوِّل أمد هذه الحرب، قبل أن يترجلوا من السلطة شأنهم شأن معظم الجماعات الرعوية التي اندفعت لاقتلاع السلطة في المراكز الحضرية الكبرى، فطغوا وعاثوا في الأرضِ فساداً لسنوات طويلة، حتى تفككوا بعد ذلك، كمثال القبائل الجرمانية، الفايكنج، المغول ... الخ. ومع ذلك، يظلُ تداعي السودانيبن لتأسيسُ وبناء دولة المواطنة، القائمة على العدالة والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، هو الموضوع الأساس.