سياحة الاشباه والنظائر في عقل البروفيسور عبد الله حمدنا الله
خالد موسى دفع الله
25 October, 2022
25 October, 2022
استبطأت قلمي حتي تنسج مغازل الشموس من قوافي التفجع و الغياب مشهدا ملحميا، نلعق فيه جراحنا علي خط الهزيمة اذ تكسرت نصال الحزن علي جلال الموقف حتي خُنَّ صبري عن اصطباري لأن عبد الله كان معنيً متعدياً في وجوده وجوهره استكن في ضمير الثقافة والادب حتي صار عنوانها الابرز في هذا العصر.
لعل مشهد الزعيم الراحل محمد ابراهيم نقد وهو يدخل الي بيت البروفيسور عبد الله حمدنا الله تختزن حالة إنسانية نادرة وهو يداعبه بالقول ( العربي ده أديناهو دونقلاوية جاب اولاد ناجحين كان عرس عربية كان جاب راعي)
وتمتد القفشات و المسامرات بينهما وعبد الله الذي جاء من أقصي اليمين يقول في نعي محمد ابراهيم نقد أنه كان عميق الإيمان لان تدين الجوهر غلب علي شكلانية المظهر حيث كانت تتداخل عنده الأشياء و لكنها لا تتقاطع. و التقط بروف عبد الله بحسه الانساني الشفيف هذه السماحة الممتدة في شخصية زعيم الحزب الشيوعي الراحل و هو يقدم شهادته علي صفحات التاريخ لان كليهما كان سودانيا صميما و مثقفا عضويا اشتغل بقضية الوعي في مجتمعه و ان فرقت بينهما الرؤي و الأفكار.
و البروفيسور الراحل عبد الله حمدنا الله كان فوق الأيدلوجيا لانه كان مهتما بوقائع التاريخ وسنن التطور الاجتماعي والفكري و الثقافي و ليس الحتميات المطلقة، و اختط لنفسه منهجا فريدا عُرف به و تسمي بإسمه لانه صاحب مشروع فكري متفرد، إذ كان مهتما بتطور الحياة العقلية للمجتمع السوداني وهو لم يكن في الوقت نفسه مؤرخا سياسيا كما كان يحب منصور خالد ان يصف نفسه لكنه كان موثقا للتطور الفكري و الثقافي و الاجتماعي للسودان الحديث، لم يعتمد في منهجه علي التحقيب السياسي و لا الاهتمام بظواهر الصراع و النزاع بين النخب علي مقاليد السلطة و الثروة لكنه كان معنيا بتاريخ الأفكار.
جعل من الفنون القولية وثائق تاريخية ناطقة، كما كانت تعبر عنها خواطر القصيد و المقامات و البديع، و جعل من الصحافة اهم وثيقة اجتماعية لتاريخ الأفكار.
جعل عبد الله حمدنا الله جوهر مشروعه الثقافي البحث في جذور الوطنية السودانية لأنها الشفرة التي تختزن جينات التاريخ و ديناميكيات التطور الاجتماعي و الفكري في السودان. و عندما اختار الباحثون دراسة الوطنية السودانية من خلال الصراع السياسي مع الإمبريالية كما فعل محمد عمر بشير ومدثر عبد الرحيم وغيرهما تعمق بروفيسور عبد الله في بناء مشروع موازي تميز بالأصالة الفكرية وهو البحث في جذور الوطنية السودانية من خلال تطور الجمعيات المدنية والتراث الإبداعي للسودانيين الذي أنتجته قرائح النخبة و مقالات المبدعين من ابنائه.
و كان الراحل البروفيسور عبد الله شديد الاعتداد بالتراث القديم يجد في كتاب الطبقات لود ضيف الله قاموسا عرفانيا لأعلام و رموز التصوف لا فلكلورا دينيا او توثيقا لتاريخ الجهالات كما زعم كبار المثقفين بل هو اقرب لمنهج البروفيسور يوسف فضل الذي يري انه بعض اهم وثائق تاريخ تطورنا الاجتماعي و الثقافي و الفكري. اذ جزم بالقول ان المستعمر عند جثم بكلكله علي صدور السودانيين وجد دولة و مجتمع من بقايا المهدية، اذ لم يكن السودان خلواً من المدنية و الحضارة كما زعم سلاطين باشا في كتابه الشهير ( السيف و النار).
و لعله اول من نبه الي ان الاستعمار عمق من ازمة المستنيرين السودانيين اذ عاشوا بين نارين. نار مجتمع لا يوافقونه واستعمار يقاومونه. ولعل ابرز مظاهر هذا الازمة تجلت في شخصية معاوية محمد نور الأديب العبقري الذي قال عنه ادوارد عطية" سيموت هذا الفتي بعد عودته من مصر موتا عقليا قبل ان يكون جسديا لانه لن يجد في مجتمعه المتخلف تلك التطلعات النبيلة و الحياة العقلية الرفيعة التي وجدها في دراسة الأدب الانجليزي". ووجد عبد الله في قصيدة الشيخ علي الشامي التي نظمها في مدح كتشنر وهو يدخل دنقلا عام ١٨٩٨ آثار الهزيمة المعنوية لذا لم يستغرب وصف الناقد محمد محمد علي قوله انها قصيدة ( خائرة المعني و المبني) وعبد الله كان شديد الاعتقاد ان التراث القولي وملامح التطور الاجتماعي يحمل شفرة الوطنية السودانية.
عندما يغوص بروفيسور عبد الله عميقا للبحث في جذور الوطنية السودانية يجد ان الرواد الأوائل تأثروا بفكرة الجامعة الاسلامية التي ابرزها جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده و التي تبناها زعيم الوطنية المصرية مصطفي كامل و من ثم تسربت الي الاعمال الأدبية للرواد مثل ( موت دنيا) للدكتور محمد عبد الحليم حليم و محمد احمد المحجوب. و يهدم بروف عبد الله احدي مسلمات التاريخ بقوله ان فكرة الوطنية ليست سودانية المنبت بالأصالة بل انتقلت للسودان تأثرا بمآثر الزعيم المصري سعد زغلول و كانت تتغني بشعارات الوحدة مع مصر. ويستشهد في هذا المقام بأهزوجة بن عمر من الغناء الشعبي
يا سعد قبل ماكدونالد
السودان عرب ما هم هنود
ما بنخشي طيارة وجنود
وسط العراك نسعي ونسود
ويري في هذا الشعر الشعبي وثيقة تاريخية تعبر عن وجدان الشعب وضمير الأمة اكثر من رصد الوقائع السياسية.
لذا كان يري في الشعر مدونات لوثائق التاريخ، حيث كان الشاعر وهو صنو المثقف في مصطلح اليوم هو المعبر عن تطلعات الشعب. و يري عبد الله ان توهجات الوطنية الأولي كانت ارتدادا لأصداء الوطنية المصرية و التي وثقها جمال محمد احمد في كتابه الشهير عن ( الوطنية المصرية) وهو رسالته فوق الجامعية من احدي الجامعات البريطانية.
سبح عبد الله حمدنا الله في مقارباته التاريخية ضد تيار سدنة التاريخ السياسي الذين جعلوا من ثورة ١٩٢٤ او تأسيس نادي الخريجين هو شرارة الوعي و بداية الحركة الوطنية، كما ذهب احمد خير المحامي في كتابه (كفاح جيل) و ما خطه محمد عمر بشير و مدثر عبد الرحيم في كتابيهما عن الحركة الوطنية و الحركة الوطنية و الاستعمار. بل انتقد غالب مسلمات التاريخ اذ يجعل المثقفون السودانيون جيل الثلاثينات هو جيل التأسيس. و يري عبد الله ان العام ١٩٢٠ تحديدا هو تاريخ ميلاد ابرز ملامح الحركة الوطنية، اذ تكونت جمعية الاتحاد السرية والتي يراها بروف عبد الله انها اهم كيان سياسي وثقافي قاد السودان نحو التحرر رغم التشويش عليها علي النحو الذي عبر عنه مدثر البوشي وهو القائل ( لا يمكن تنطلق جمعية وطنية من خمارة). و يحتج بروف عبد الله بحس المؤرخ علي الهجاء و التشويش الذي اصاب الجمعية لأن الناس لم يقرأوا وثائقها بل نقلوا اتهامات الخصوم عنها. فقد جمعت افضل نخبة اهل السودان في وقتها. كما كتب في ذات العام ١٩٢٠ الصحفي الشهير حسين شريف اهم مقالاته التي اعتبرها الميلاد الحقيقي لتاريخ الفكر السياسي في السودان اذ انه اول من نادي ببقاء الإنجليز الي اجل معلوم حتي يتعلم السودانيون فنون الادارة وضرورة مغادرة المصريين للبلاد. و رغم ما اثارته هذه الآراء من ردود فعل عنيفة الا ان حسين شريف يعتبر اول من قدم أطروحة في الفكر السياسي لما يجب ان يكون عليه مستقبل السودان. و يفرق الدكتورعبد الله بين محمود القباني اول صحفي سوداني علي الإطلاق وهو اول من اصدر صحيفة سودانية عام ١٨٩٨ بعد أن عمل صحفيا في الأهرام المصرية وبين حسين شريف . اما محمد عبد الرحيم صاحب ( نفثات اليراع) فقد كان كاتبا و ليس صحفيا وأتهمه البعض بسرقة المنتوج الأدبي و الفكري و الكتابي للأديب و الشاعر الكبير التيجاني يوسف بشير نظير دراهم معدودة تسد مسغبة الفقر. اما حسين شريف فقد كان وفقا لتصنيف بروف عبد الله اول من كتب في الفكر السياسي في العصر الحديث. هذا رغم ارتدادات حسين شريف في مقاله الناقد لثورة ١٩٢٤ عندما احتج علي ثورة المنبتين عرقيا حسب وصف الباحثة اليابانية هيثر شاركي. وهو صاحب العبارة الشهيرة محتجا علي الإنجليز عندما اغلقوا صحيفته ( شعب بلا جريدة قلب بلا لسان).
ينتقد بروف عبد الله خفافيش الأدب و المتسولين علي التاريخ باهمال اهم مصدر في ذلك الوقت وهو الصحف المصرية التي احتلت فيها اخبار السودان مساحات بارزة ومقدرة و بأقلام أميز مثقفي السودان. وقال ان ما وجده في الصحافة المصرية عن ثورة ودحبوبة ١٩٠٨ يفوق في أهميته ما جمعته المصادر السودانية.
و يستخلص بروف عبد الله من دراسته لتاريخ التطور الفكري والثقافي والاجتماعي في السودان منهجا متماسكا ظل ديدنه في الدرس و البحث حتي رحيله وحاول ان يغرسه في تلامذته وهو الاعتماد علي المصادر المعاصرة للحدث المنشورة في الصحف و الوثائق مع الاستعانة بمصادر ثانوية من التراث القولي المبدع الذي يلخص الموقف ولا يقدم التفاصيل. كما دعا الي ما اسماه. ( الخيال المؤسس) و التأمل و التدبر في مآلات الاحداث والربط المنطقي بينها. و يستدل علي ذلك بالصحفي محمود القباني و يتساءل عن المصدر الملهم الذي دفعه للصحافة. فقاده التأمل لمتابعة النشاط التعليمي للاستاذ الشهير رفاعة رافع الطهطاوي احد آباء الصحافة في مصر، عندما جاء منفيا الي السودان، فوجد ان القباني تتلمذ عليه في مدرسة الخرطوم الابتدائية فغرس فيه حب الصحافة فكان اول صحفي سوداني في التاريخ. و مثال آخر عن ( الخيال المؤسس) وهو عن تأثر الأديب حمزة الملك طمبل بالعقاد فقاده التأمل و الربط الموضوعي للتأكد من ان حمزة الملك طمبل تتلمذ كفاحا علي العقاد عندما كان أستاذه في مدرسة أسوان الابتدائية. اما العنصر الثالث في منهجه فهو امتلاك العقلية الناقدة. و عبد الله كان شديد التذمر من العقل التسليمي المذعن و العقل التلقيني الذي يولد التقليد لا الإبداع، فكان ناقدا لماحا يمتلك نقدا عقليا حاذقا وفذا يتجلي في كل منتجه المعرفي و الثقافي.
وصف البعض بروفيسور عبد الله بأنه ابرز ناقد للمسلمات التي لا تقف علي قاعدة صلبة من الحقائق و الموضوعية، و انه صاحب مقولات حركت ساكن الثقافة و يستدلون علي ذلك بقوله المشهور ان ( ام درمان مدينة مصنوعة) مما حرك كوامن وأشجان ومدافعات اهل ام درمان. و يقول عن نفسه انه لا يبتغي تحريك الجدل لكن هدفه تسليط الضوء علي الظواهر علي غير الوجه المألوف و السائد. اذ يقدر الفرق بين المجتمع التلقائي و المقصود مثل مدينة بورتسودان التي أوجدها الميناء. ووجدت شبيها بقول بروفيسور عبد الله عن ام درمان ما أورده الأكاديمي الغربي بول كرامر في كتابه المشهور ( ام درمان مدينة مقدسة علي النيل).
و بروفيسور عبد الله شديد الاعتقاد بتأثر الرواد الأوائل من الأدباء السودانيين بمنهج العقاد في النقد، و الاعتقاد في ركيزته الأولي وهي محاربة التقليد وهو ما نقله عنه حمزة الملك طمبل و الامين علي مدني و ابناء عشري صديق و حتي الشاعر و الناقد الكبير محمد محمد علي. و خلص في بحثه الي نتيجة هامة وهي ان الأدباء السودانيين لم يتأثروا بمنهج العقاد في المناداة بالوحدة العضوية مقابل التفكك، بل سار الرواد الأوائل علي نهج مغاير يطلبون الوحدة الفنية و الموضوعية و ليست العضوية وذلك لان الشعر السوداني اغلبه شعر غنائي و ان الوحدة العضوية تناسب الشعر الملحمي. والسودانيون حسب ظنه مولعون بالجواهر دون الاعراض، كما اخذوا منه منهج الدراسات النفسية كما اشتهرت في كتبه عن بن الرومي وأبو نواس وغيره علي عكس المدرسة التاريخية التي عُرف بها طه حسين. كما اخذ منه الرواد الأوائل من الأدباء في السودان معيار الصدق الفني علي النحو الذي عبر عنه حمزة الملك طمبل والذي قال عنه البروفيسور الراحل احمد ابراهيم الشوش ان طمبل اخذ من العقاد "تتبع الحجة حتي تنزف دما" . كما تأثر أدباء السودان بقوة الأسلوب و القسوة في الالفاظ ، وهو ما عبر عنه الشاعر والأديب الدكتور الراحل محمد الواثق انه بقصائد هجاء المدن يحارب ميوعة العاطفة امام ظاهرة القصائد الهلامية. كما انحاز ابرز أدباء السودان وهو معاوية محمد نور للعقاد في هجومه القاسي علي رموز مدرسة ابولو وهم محمود طه المهندس وإبراهيم ناجي. ورثاه العقاد عندما زار قبره في منتصف أربعينات القرن الماضي في مقبرة حمد النيل في ام درمان في زيارته الشهيرة للسودان عندما قال ان معاوية كان نجما مفردا في سماء الأدب، و هو يلقي قصيدته الشهيرة وا لهفي علي معاوية من مقلة ما شوهدت قط باكية.
يقول البروفيسور عبد الله حمدنا الله في مقال ادبي شهير: ماذا بقي من العقاد؟ ويقول بقي منه كل شيء ليس من خلال تلاميذه فحسب بل من خصومه الذين اشهروا منهجه. لذا لا غرو ان يصنف الدكتور محمد وقيع الله البروفيسور الراحل عبد الله بأنه احد ابرز ما اسماهم (العقاديون العشر في السودان). و بروف عبد الله حسب اعترافاته متأثر بمدرسة الدراسات النفسية في الأدب التي أشهرها العقاد لا المدرسة التاريخية التي قام عليها طه حسين. و كان عبد الله طوال سنوات دراسته فوق الجامعية في مصر احد أعضاء ندوة العقاد الأدبية . قابل فيها أدباء و شعراء مصر الذين لم ينقطعوا عن ندوة العقاد بعد وفاته وله مداخلات و مساجلات مع عامر العقاد و غيره.
للبروفيسور عبد الله حمدنا الله ايادٍ سابغات علي الثقافة و الأدب في السودان فقد تتلمذ علي يديه المئات ممن حملوا لواء الدراسات السودانية و التوثيق لتاريخ التطور الثقافي و الفكري و الاجتماعي و التعريف برموز السودان من المبدعين والأدباء والشعراء و المصلحين. و ُطبعت تحت إشراقه عشرات الكتب مما تفيض به المكتبة السودانية. وله مقولات خرائد سارت بذكرها الركبان وسابلة الأسافير. ، و تصدي لهدم المسلمات مثل ما ورد في تقديمه لكتاب حسن الجزولي عن (دار فوز) و التي شبهها الكاتب بصالون الأديبة المصرية مي زيادة. ولم تكن فوز أديبة بل كانت ملهمة لسيد الغناء السوداني خليل فرح. فقد انتهت مي زيادة الي برلين تحت اوجاع حبها لجبران خليل جبران، اما فوز فقد تزوجها احد أفاضل مدينة ام درمان وانزوت بعد رحيل خليل فرح وفي أصداء المكان أغنيته الدامعة ( ما هو عارف قدمو المفارق) كما قال عنها حسن نجيلة في روايته عن جمال ابوسيف وهو ما كشفه الاستاذ شوقي بدري بأنه تزوجها اكبر ابرز رموز أسرته.
واختط البروف وصفا تليدا لما اسماه مدرسة الرباطاب التاريخية متكئاً علي ما كتبه بابكر بدري في كتابه ( حياتي) و كتاب مذكرات العميد ليوسف بدري ثم كتاب ( قطار العمر) للراحل محمد محمد خير البدوي حيث وجد ان منهج الشفافية في التدوين التاريخي خصيصة يكاد يتميز بها الرباطاب دون غيرهم. وكان الراحل عضوا في معظم المشروعات الثقافية القومية و برامج الأحياء الثقافي ، وكانت له بصمة في كل مجال في مقامات الثقافة و المعرفة، كما في فصول الدراسة حيث نهل من ينابيع علمه الدفاقة آلاف الطلاب من مختلف الدول العربية والإفريقية و الآسيوية وفي الندوات التي طالما هزها بجميل قوله وغزير علمه و نقضه الجهير للمسلمات و المنقولات و محاربته القوية للعقل الاذعاني التسليمي و تكريسا للعقل النقدي المتأمل. كما ظل مشاركا نشطا البرامج الثقافية و في القنوات و الإذاعات و الجمعيات الأدبية و المشروعات القومية و طباعة و تقديم الكتب مما تفيض به مكتبات السودان.
كان دينه عليَّ شخصيا يزيد و لا ينقص حيث قابلته و انا في هفهفة الشباب ارتقي مدارج النقد الأدبي وانا شاب حدث علي اعتاب التخرج الجامعي، وقدمت له باكورة إنتاجي كتاب ( اللامنتمي في أدب الطيب صالح) وقد اتيت به محمولا علي قراءات من شارع المتنبيء ببغداد. و كان الدكتور غالي شكري حينها يحاول ان يجد في مشروع نجيب محفوظ وقصص الحارة المصرية ما يسقطه علي كولون ويلسون و اللامنتمي كأحد ابرز مظاهر الفكر الوجودي بعد الحرب العالمية. فأخذني بلطف المشفق عليّ من وعثاء الطريق و غفر لي جهلي و قدمني للقراء وكنت حينها مجهول النسب الأدبي وقال ( في الكتاب الذي بين يديك فكرة و بشارات.. البشارة فيه ان كاتبه من الجيل الحفيد الذي شب ليكتشف أدب الطيب صالح عن ثقة ووعي يعود معها كل شيء مغفورا، اما الفكرة فكانت استخلاص معايير موضوعية من شخصية اللامنتمي التي قدمها كولن ويلسون)
لم يعرف عن البروفيسور الراحل عبد الله حمدنا الله كثرة التآليف و النشر، ولكن تأثيره الثقافي اعمق ذيوعا وانتشارا من اصحاب المنقولات الذين يسرهم التزي بقشيب المبني دون جوهر المعني، وهو بذلك قد كسر مقدسات الأكاديميين الركينة publish or perish اذ ان التأليف و النشر هو أكسجينهم للحياة، لكن بروفيسور عبد الله تحول الي مثقف عام public intellectual وهو ان خبراته العلمية وإسهاماته المعرفية تجاوزت قاعات الدرس و صارت جزء من ديناميكيات تشكيل الوعي العام في الفضاء الاجتماعي و الثقافي و الفكري.
كان عبد الله يقول في قاعات الدرس وسوح الانتداء الجهير : ماذا تبقي من ارث العقاد؟ و يستطرد، تبقي كل العقاد اذ نشر أدبه خصومه اكثر من حواريه وتلاميذه. اما عبد الله
فقد ترك إرثا لا ينضب معينه و نبعا من المعرفة و الثقافة لا تجف مصادره ووداً انسانيا مفعما لا يغيب صهيله وان غاب الفرس و النهر. ينشر تراثه المعرفي و الثقافي و مآثره تلامذته و محبيه و عارفي فضله اذ كان رجلا دون خصوم لأنه جعل من العلم و المحبة و التسامح منهجا انسانيا يزيد كلما انفق منه.
أتطلع ان تنهض مؤسسة ثقافية للإعتناء بمشروعه الثقافي و بذله للناس و ان توظف مكتبته العامرة بالذخائر و النفائس و الوثائق للفائدة العامة، وهي حسب معرفتي اكبر مكتبة في الثقافة و الدراسات السودانية يملكها شخص مفرد في السودان، و اتمني ان تشيد مكتبة باسمه تضم كتبه ومقتنياته الثقافية في احدي الجامعات السودانية حتي تكون صدقة جارية لروحه ووصلاً و احياءً لمشروعه الثقافي الذي استعرضنا النذر اليسير منه في هذه المقالة عساها تبلغ مقامه الرفيع.
khmudad@gmail.com
لعل مشهد الزعيم الراحل محمد ابراهيم نقد وهو يدخل الي بيت البروفيسور عبد الله حمدنا الله تختزن حالة إنسانية نادرة وهو يداعبه بالقول ( العربي ده أديناهو دونقلاوية جاب اولاد ناجحين كان عرس عربية كان جاب راعي)
وتمتد القفشات و المسامرات بينهما وعبد الله الذي جاء من أقصي اليمين يقول في نعي محمد ابراهيم نقد أنه كان عميق الإيمان لان تدين الجوهر غلب علي شكلانية المظهر حيث كانت تتداخل عنده الأشياء و لكنها لا تتقاطع. و التقط بروف عبد الله بحسه الانساني الشفيف هذه السماحة الممتدة في شخصية زعيم الحزب الشيوعي الراحل و هو يقدم شهادته علي صفحات التاريخ لان كليهما كان سودانيا صميما و مثقفا عضويا اشتغل بقضية الوعي في مجتمعه و ان فرقت بينهما الرؤي و الأفكار.
و البروفيسور الراحل عبد الله حمدنا الله كان فوق الأيدلوجيا لانه كان مهتما بوقائع التاريخ وسنن التطور الاجتماعي والفكري و الثقافي و ليس الحتميات المطلقة، و اختط لنفسه منهجا فريدا عُرف به و تسمي بإسمه لانه صاحب مشروع فكري متفرد، إذ كان مهتما بتطور الحياة العقلية للمجتمع السوداني وهو لم يكن في الوقت نفسه مؤرخا سياسيا كما كان يحب منصور خالد ان يصف نفسه لكنه كان موثقا للتطور الفكري و الثقافي و الاجتماعي للسودان الحديث، لم يعتمد في منهجه علي التحقيب السياسي و لا الاهتمام بظواهر الصراع و النزاع بين النخب علي مقاليد السلطة و الثروة لكنه كان معنيا بتاريخ الأفكار.
جعل من الفنون القولية وثائق تاريخية ناطقة، كما كانت تعبر عنها خواطر القصيد و المقامات و البديع، و جعل من الصحافة اهم وثيقة اجتماعية لتاريخ الأفكار.
جعل عبد الله حمدنا الله جوهر مشروعه الثقافي البحث في جذور الوطنية السودانية لأنها الشفرة التي تختزن جينات التاريخ و ديناميكيات التطور الاجتماعي و الفكري في السودان. و عندما اختار الباحثون دراسة الوطنية السودانية من خلال الصراع السياسي مع الإمبريالية كما فعل محمد عمر بشير ومدثر عبد الرحيم وغيرهما تعمق بروفيسور عبد الله في بناء مشروع موازي تميز بالأصالة الفكرية وهو البحث في جذور الوطنية السودانية من خلال تطور الجمعيات المدنية والتراث الإبداعي للسودانيين الذي أنتجته قرائح النخبة و مقالات المبدعين من ابنائه.
و كان الراحل البروفيسور عبد الله شديد الاعتداد بالتراث القديم يجد في كتاب الطبقات لود ضيف الله قاموسا عرفانيا لأعلام و رموز التصوف لا فلكلورا دينيا او توثيقا لتاريخ الجهالات كما زعم كبار المثقفين بل هو اقرب لمنهج البروفيسور يوسف فضل الذي يري انه بعض اهم وثائق تاريخ تطورنا الاجتماعي و الثقافي و الفكري. اذ جزم بالقول ان المستعمر عند جثم بكلكله علي صدور السودانيين وجد دولة و مجتمع من بقايا المهدية، اذ لم يكن السودان خلواً من المدنية و الحضارة كما زعم سلاطين باشا في كتابه الشهير ( السيف و النار).
و لعله اول من نبه الي ان الاستعمار عمق من ازمة المستنيرين السودانيين اذ عاشوا بين نارين. نار مجتمع لا يوافقونه واستعمار يقاومونه. ولعل ابرز مظاهر هذا الازمة تجلت في شخصية معاوية محمد نور الأديب العبقري الذي قال عنه ادوارد عطية" سيموت هذا الفتي بعد عودته من مصر موتا عقليا قبل ان يكون جسديا لانه لن يجد في مجتمعه المتخلف تلك التطلعات النبيلة و الحياة العقلية الرفيعة التي وجدها في دراسة الأدب الانجليزي". ووجد عبد الله في قصيدة الشيخ علي الشامي التي نظمها في مدح كتشنر وهو يدخل دنقلا عام ١٨٩٨ آثار الهزيمة المعنوية لذا لم يستغرب وصف الناقد محمد محمد علي قوله انها قصيدة ( خائرة المعني و المبني) وعبد الله كان شديد الاعتقاد ان التراث القولي وملامح التطور الاجتماعي يحمل شفرة الوطنية السودانية.
عندما يغوص بروفيسور عبد الله عميقا للبحث في جذور الوطنية السودانية يجد ان الرواد الأوائل تأثروا بفكرة الجامعة الاسلامية التي ابرزها جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده و التي تبناها زعيم الوطنية المصرية مصطفي كامل و من ثم تسربت الي الاعمال الأدبية للرواد مثل ( موت دنيا) للدكتور محمد عبد الحليم حليم و محمد احمد المحجوب. و يهدم بروف عبد الله احدي مسلمات التاريخ بقوله ان فكرة الوطنية ليست سودانية المنبت بالأصالة بل انتقلت للسودان تأثرا بمآثر الزعيم المصري سعد زغلول و كانت تتغني بشعارات الوحدة مع مصر. ويستشهد في هذا المقام بأهزوجة بن عمر من الغناء الشعبي
يا سعد قبل ماكدونالد
السودان عرب ما هم هنود
ما بنخشي طيارة وجنود
وسط العراك نسعي ونسود
ويري في هذا الشعر الشعبي وثيقة تاريخية تعبر عن وجدان الشعب وضمير الأمة اكثر من رصد الوقائع السياسية.
لذا كان يري في الشعر مدونات لوثائق التاريخ، حيث كان الشاعر وهو صنو المثقف في مصطلح اليوم هو المعبر عن تطلعات الشعب. و يري عبد الله ان توهجات الوطنية الأولي كانت ارتدادا لأصداء الوطنية المصرية و التي وثقها جمال محمد احمد في كتابه الشهير عن ( الوطنية المصرية) وهو رسالته فوق الجامعية من احدي الجامعات البريطانية.
سبح عبد الله حمدنا الله في مقارباته التاريخية ضد تيار سدنة التاريخ السياسي الذين جعلوا من ثورة ١٩٢٤ او تأسيس نادي الخريجين هو شرارة الوعي و بداية الحركة الوطنية، كما ذهب احمد خير المحامي في كتابه (كفاح جيل) و ما خطه محمد عمر بشير و مدثر عبد الرحيم في كتابيهما عن الحركة الوطنية و الحركة الوطنية و الاستعمار. بل انتقد غالب مسلمات التاريخ اذ يجعل المثقفون السودانيون جيل الثلاثينات هو جيل التأسيس. و يري عبد الله ان العام ١٩٢٠ تحديدا هو تاريخ ميلاد ابرز ملامح الحركة الوطنية، اذ تكونت جمعية الاتحاد السرية والتي يراها بروف عبد الله انها اهم كيان سياسي وثقافي قاد السودان نحو التحرر رغم التشويش عليها علي النحو الذي عبر عنه مدثر البوشي وهو القائل ( لا يمكن تنطلق جمعية وطنية من خمارة). و يحتج بروف عبد الله بحس المؤرخ علي الهجاء و التشويش الذي اصاب الجمعية لأن الناس لم يقرأوا وثائقها بل نقلوا اتهامات الخصوم عنها. فقد جمعت افضل نخبة اهل السودان في وقتها. كما كتب في ذات العام ١٩٢٠ الصحفي الشهير حسين شريف اهم مقالاته التي اعتبرها الميلاد الحقيقي لتاريخ الفكر السياسي في السودان اذ انه اول من نادي ببقاء الإنجليز الي اجل معلوم حتي يتعلم السودانيون فنون الادارة وضرورة مغادرة المصريين للبلاد. و رغم ما اثارته هذه الآراء من ردود فعل عنيفة الا ان حسين شريف يعتبر اول من قدم أطروحة في الفكر السياسي لما يجب ان يكون عليه مستقبل السودان. و يفرق الدكتورعبد الله بين محمود القباني اول صحفي سوداني علي الإطلاق وهو اول من اصدر صحيفة سودانية عام ١٨٩٨ بعد أن عمل صحفيا في الأهرام المصرية وبين حسين شريف . اما محمد عبد الرحيم صاحب ( نفثات اليراع) فقد كان كاتبا و ليس صحفيا وأتهمه البعض بسرقة المنتوج الأدبي و الفكري و الكتابي للأديب و الشاعر الكبير التيجاني يوسف بشير نظير دراهم معدودة تسد مسغبة الفقر. اما حسين شريف فقد كان وفقا لتصنيف بروف عبد الله اول من كتب في الفكر السياسي في العصر الحديث. هذا رغم ارتدادات حسين شريف في مقاله الناقد لثورة ١٩٢٤ عندما احتج علي ثورة المنبتين عرقيا حسب وصف الباحثة اليابانية هيثر شاركي. وهو صاحب العبارة الشهيرة محتجا علي الإنجليز عندما اغلقوا صحيفته ( شعب بلا جريدة قلب بلا لسان).
ينتقد بروف عبد الله خفافيش الأدب و المتسولين علي التاريخ باهمال اهم مصدر في ذلك الوقت وهو الصحف المصرية التي احتلت فيها اخبار السودان مساحات بارزة ومقدرة و بأقلام أميز مثقفي السودان. وقال ان ما وجده في الصحافة المصرية عن ثورة ودحبوبة ١٩٠٨ يفوق في أهميته ما جمعته المصادر السودانية.
و يستخلص بروف عبد الله من دراسته لتاريخ التطور الفكري والثقافي والاجتماعي في السودان منهجا متماسكا ظل ديدنه في الدرس و البحث حتي رحيله وحاول ان يغرسه في تلامذته وهو الاعتماد علي المصادر المعاصرة للحدث المنشورة في الصحف و الوثائق مع الاستعانة بمصادر ثانوية من التراث القولي المبدع الذي يلخص الموقف ولا يقدم التفاصيل. كما دعا الي ما اسماه. ( الخيال المؤسس) و التأمل و التدبر في مآلات الاحداث والربط المنطقي بينها. و يستدل علي ذلك بالصحفي محمود القباني و يتساءل عن المصدر الملهم الذي دفعه للصحافة. فقاده التأمل لمتابعة النشاط التعليمي للاستاذ الشهير رفاعة رافع الطهطاوي احد آباء الصحافة في مصر، عندما جاء منفيا الي السودان، فوجد ان القباني تتلمذ عليه في مدرسة الخرطوم الابتدائية فغرس فيه حب الصحافة فكان اول صحفي سوداني في التاريخ. و مثال آخر عن ( الخيال المؤسس) وهو عن تأثر الأديب حمزة الملك طمبل بالعقاد فقاده التأمل و الربط الموضوعي للتأكد من ان حمزة الملك طمبل تتلمذ كفاحا علي العقاد عندما كان أستاذه في مدرسة أسوان الابتدائية. اما العنصر الثالث في منهجه فهو امتلاك العقلية الناقدة. و عبد الله كان شديد التذمر من العقل التسليمي المذعن و العقل التلقيني الذي يولد التقليد لا الإبداع، فكان ناقدا لماحا يمتلك نقدا عقليا حاذقا وفذا يتجلي في كل منتجه المعرفي و الثقافي.
وصف البعض بروفيسور عبد الله بأنه ابرز ناقد للمسلمات التي لا تقف علي قاعدة صلبة من الحقائق و الموضوعية، و انه صاحب مقولات حركت ساكن الثقافة و يستدلون علي ذلك بقوله المشهور ان ( ام درمان مدينة مصنوعة) مما حرك كوامن وأشجان ومدافعات اهل ام درمان. و يقول عن نفسه انه لا يبتغي تحريك الجدل لكن هدفه تسليط الضوء علي الظواهر علي غير الوجه المألوف و السائد. اذ يقدر الفرق بين المجتمع التلقائي و المقصود مثل مدينة بورتسودان التي أوجدها الميناء. ووجدت شبيها بقول بروفيسور عبد الله عن ام درمان ما أورده الأكاديمي الغربي بول كرامر في كتابه المشهور ( ام درمان مدينة مقدسة علي النيل).
و بروفيسور عبد الله شديد الاعتقاد بتأثر الرواد الأوائل من الأدباء السودانيين بمنهج العقاد في النقد، و الاعتقاد في ركيزته الأولي وهي محاربة التقليد وهو ما نقله عنه حمزة الملك طمبل و الامين علي مدني و ابناء عشري صديق و حتي الشاعر و الناقد الكبير محمد محمد علي. و خلص في بحثه الي نتيجة هامة وهي ان الأدباء السودانيين لم يتأثروا بمنهج العقاد في المناداة بالوحدة العضوية مقابل التفكك، بل سار الرواد الأوائل علي نهج مغاير يطلبون الوحدة الفنية و الموضوعية و ليست العضوية وذلك لان الشعر السوداني اغلبه شعر غنائي و ان الوحدة العضوية تناسب الشعر الملحمي. والسودانيون حسب ظنه مولعون بالجواهر دون الاعراض، كما اخذوا منه منهج الدراسات النفسية كما اشتهرت في كتبه عن بن الرومي وأبو نواس وغيره علي عكس المدرسة التاريخية التي عُرف بها طه حسين. كما اخذ منه الرواد الأوائل من الأدباء في السودان معيار الصدق الفني علي النحو الذي عبر عنه حمزة الملك طمبل والذي قال عنه البروفيسور الراحل احمد ابراهيم الشوش ان طمبل اخذ من العقاد "تتبع الحجة حتي تنزف دما" . كما تأثر أدباء السودان بقوة الأسلوب و القسوة في الالفاظ ، وهو ما عبر عنه الشاعر والأديب الدكتور الراحل محمد الواثق انه بقصائد هجاء المدن يحارب ميوعة العاطفة امام ظاهرة القصائد الهلامية. كما انحاز ابرز أدباء السودان وهو معاوية محمد نور للعقاد في هجومه القاسي علي رموز مدرسة ابولو وهم محمود طه المهندس وإبراهيم ناجي. ورثاه العقاد عندما زار قبره في منتصف أربعينات القرن الماضي في مقبرة حمد النيل في ام درمان في زيارته الشهيرة للسودان عندما قال ان معاوية كان نجما مفردا في سماء الأدب، و هو يلقي قصيدته الشهيرة وا لهفي علي معاوية من مقلة ما شوهدت قط باكية.
يقول البروفيسور عبد الله حمدنا الله في مقال ادبي شهير: ماذا بقي من العقاد؟ ويقول بقي منه كل شيء ليس من خلال تلاميذه فحسب بل من خصومه الذين اشهروا منهجه. لذا لا غرو ان يصنف الدكتور محمد وقيع الله البروفيسور الراحل عبد الله بأنه احد ابرز ما اسماهم (العقاديون العشر في السودان). و بروف عبد الله حسب اعترافاته متأثر بمدرسة الدراسات النفسية في الأدب التي أشهرها العقاد لا المدرسة التاريخية التي قام عليها طه حسين. و كان عبد الله طوال سنوات دراسته فوق الجامعية في مصر احد أعضاء ندوة العقاد الأدبية . قابل فيها أدباء و شعراء مصر الذين لم ينقطعوا عن ندوة العقاد بعد وفاته وله مداخلات و مساجلات مع عامر العقاد و غيره.
للبروفيسور عبد الله حمدنا الله ايادٍ سابغات علي الثقافة و الأدب في السودان فقد تتلمذ علي يديه المئات ممن حملوا لواء الدراسات السودانية و التوثيق لتاريخ التطور الثقافي و الفكري و الاجتماعي و التعريف برموز السودان من المبدعين والأدباء والشعراء و المصلحين. و ُطبعت تحت إشراقه عشرات الكتب مما تفيض به المكتبة السودانية. وله مقولات خرائد سارت بذكرها الركبان وسابلة الأسافير. ، و تصدي لهدم المسلمات مثل ما ورد في تقديمه لكتاب حسن الجزولي عن (دار فوز) و التي شبهها الكاتب بصالون الأديبة المصرية مي زيادة. ولم تكن فوز أديبة بل كانت ملهمة لسيد الغناء السوداني خليل فرح. فقد انتهت مي زيادة الي برلين تحت اوجاع حبها لجبران خليل جبران، اما فوز فقد تزوجها احد أفاضل مدينة ام درمان وانزوت بعد رحيل خليل فرح وفي أصداء المكان أغنيته الدامعة ( ما هو عارف قدمو المفارق) كما قال عنها حسن نجيلة في روايته عن جمال ابوسيف وهو ما كشفه الاستاذ شوقي بدري بأنه تزوجها اكبر ابرز رموز أسرته.
واختط البروف وصفا تليدا لما اسماه مدرسة الرباطاب التاريخية متكئاً علي ما كتبه بابكر بدري في كتابه ( حياتي) و كتاب مذكرات العميد ليوسف بدري ثم كتاب ( قطار العمر) للراحل محمد محمد خير البدوي حيث وجد ان منهج الشفافية في التدوين التاريخي خصيصة يكاد يتميز بها الرباطاب دون غيرهم. وكان الراحل عضوا في معظم المشروعات الثقافية القومية و برامج الأحياء الثقافي ، وكانت له بصمة في كل مجال في مقامات الثقافة و المعرفة، كما في فصول الدراسة حيث نهل من ينابيع علمه الدفاقة آلاف الطلاب من مختلف الدول العربية والإفريقية و الآسيوية وفي الندوات التي طالما هزها بجميل قوله وغزير علمه و نقضه الجهير للمسلمات و المنقولات و محاربته القوية للعقل الاذعاني التسليمي و تكريسا للعقل النقدي المتأمل. كما ظل مشاركا نشطا البرامج الثقافية و في القنوات و الإذاعات و الجمعيات الأدبية و المشروعات القومية و طباعة و تقديم الكتب مما تفيض به مكتبات السودان.
كان دينه عليَّ شخصيا يزيد و لا ينقص حيث قابلته و انا في هفهفة الشباب ارتقي مدارج النقد الأدبي وانا شاب حدث علي اعتاب التخرج الجامعي، وقدمت له باكورة إنتاجي كتاب ( اللامنتمي في أدب الطيب صالح) وقد اتيت به محمولا علي قراءات من شارع المتنبيء ببغداد. و كان الدكتور غالي شكري حينها يحاول ان يجد في مشروع نجيب محفوظ وقصص الحارة المصرية ما يسقطه علي كولون ويلسون و اللامنتمي كأحد ابرز مظاهر الفكر الوجودي بعد الحرب العالمية. فأخذني بلطف المشفق عليّ من وعثاء الطريق و غفر لي جهلي و قدمني للقراء وكنت حينها مجهول النسب الأدبي وقال ( في الكتاب الذي بين يديك فكرة و بشارات.. البشارة فيه ان كاتبه من الجيل الحفيد الذي شب ليكتشف أدب الطيب صالح عن ثقة ووعي يعود معها كل شيء مغفورا، اما الفكرة فكانت استخلاص معايير موضوعية من شخصية اللامنتمي التي قدمها كولن ويلسون)
لم يعرف عن البروفيسور الراحل عبد الله حمدنا الله كثرة التآليف و النشر، ولكن تأثيره الثقافي اعمق ذيوعا وانتشارا من اصحاب المنقولات الذين يسرهم التزي بقشيب المبني دون جوهر المعني، وهو بذلك قد كسر مقدسات الأكاديميين الركينة publish or perish اذ ان التأليف و النشر هو أكسجينهم للحياة، لكن بروفيسور عبد الله تحول الي مثقف عام public intellectual وهو ان خبراته العلمية وإسهاماته المعرفية تجاوزت قاعات الدرس و صارت جزء من ديناميكيات تشكيل الوعي العام في الفضاء الاجتماعي و الثقافي و الفكري.
كان عبد الله يقول في قاعات الدرس وسوح الانتداء الجهير : ماذا تبقي من ارث العقاد؟ و يستطرد، تبقي كل العقاد اذ نشر أدبه خصومه اكثر من حواريه وتلاميذه. اما عبد الله
فقد ترك إرثا لا ينضب معينه و نبعا من المعرفة و الثقافة لا تجف مصادره ووداً انسانيا مفعما لا يغيب صهيله وان غاب الفرس و النهر. ينشر تراثه المعرفي و الثقافي و مآثره تلامذته و محبيه و عارفي فضله اذ كان رجلا دون خصوم لأنه جعل من العلم و المحبة و التسامح منهجا انسانيا يزيد كلما انفق منه.
أتطلع ان تنهض مؤسسة ثقافية للإعتناء بمشروعه الثقافي و بذله للناس و ان توظف مكتبته العامرة بالذخائر و النفائس و الوثائق للفائدة العامة، وهي حسب معرفتي اكبر مكتبة في الثقافة و الدراسات السودانية يملكها شخص مفرد في السودان، و اتمني ان تشيد مكتبة باسمه تضم كتبه ومقتنياته الثقافية في احدي الجامعات السودانية حتي تكون صدقة جارية لروحه ووصلاً و احياءً لمشروعه الثقافي الذي استعرضنا النذر اليسير منه في هذه المقالة عساها تبلغ مقامه الرفيع.
khmudad@gmail.com