شرف…. زيارة جديدة لأجندة قديمة!!
للمرة الثانية خلال شهر أُتيح لي لقاء السيد عصام شرف وجهاً لوجه: الأولى كانت بقصر القبة حين كنت برفقة السيد الرئيس في زيارته الأخيرة لمصر منتصف الشهر الماضي, حينها لم يُدل السيد شرف بأي تصريحات صحفية، ورغم امتعاضنا من عدم لقاء شرف بالصحفيين الذين كانوا يتحلقون حول غرفة الاجتماعات بانتظاره، ولكن في النهاية وجدنا للسيد شرف العذر؛ إذ لم يتجاوز عمره الوزاري آنذلك سوى أسبوعين، فمن الصعب أن يكون السيد شرف قد أحاط بملف بحجم ملف العلاقات السودانية المصرية، المتشعب، وذي القضايا المعقدة والمصيرية لمصر. من المؤكد الإلمام بأبعاد هذا الملف يحتاج لزمن لم يتوفر للسيد شرف آنذاك. في تلك الزيارة استمع السيد شرف إلى ما قاله الوفد السوداني الشيء الذي أوضحه السيد علي كرتي وزير الخارجية الذي خرج سعيداً بعد اللقاء، مؤكدا أن العلاقات بين السودان ومصر ستشهد نقلة نوعية قي القريب العاجل.
أمس الأول كان لقائي الثاني بالسيد شرف بدعوة كريمة من السيد سفير مصر عبد الغفار الديب بمنزله وسط حشد من الشخصيات الرسمية والشعبية. كانت كلمة السيد شرف في هذا اللقاء حميمة ومؤثرة أثرت فيها الأجواء والطريقة التي استقبلته بها الخرطوم. قال شرف: (إن حرارة الاستقبال قد فاقت سخونة الخرطوم. وأضاف اننا كنا نتفاوض كوفد واحد وليس وفدين). بعد اللقاء حرصت على الالتقاء بالسيد شرف منفرداً على الهامش، وقلت هل هذه أول زيارة للخرطوم؟ آه مازرتش الخرطوم قبل كدة. وماذا عن الزيارة؟ جيدة بدايات جيدة. ما الجديد؟ ما حسينا به في الخرطوم من مشاعر أخوية صادقة لن يسمح لنا بخذلان شعب وادي النيل.
إذن هي زيارة جديدة وأولى لشرف للخرطوم لإحياء أجندات قديمة ظلت على الطاولة لسنوات دون أن يدرك أحد لمصلحة من تعطلت، ولا من عطلها!!. عشرات المشاريع أُجهضت... علق اتفاق الحريات الأربع.. ليس هناك تنسيق على أي مستوى في القضايا التي تهم البلدين، حتى قضية المياه كاد يحدث فيها تنازع مُضر بمصلحة البلدين. الآن مصر لم تثُر فقط على الفساد الداخلي ولا السياسات العقيمة التي اتخذها نظام حسني مبارك داخلياً، إنما السياسات الخارجية التي تراجعت بدور مصر الإقليمي وتقزيم فعاليتها في وادي النيل حتى أصبحت بورندي لاعباً خطراً على أمن مصر القومي!!. الآن في عهد الثورة تحاول مصر استعادة دورها التاريخي عبر البوابة الجنوبية التي هي عمقها الاستراتيجي ومركز مصالحها الحيوية.
على الطاولة أكثر من ثلاث قضايا مُلحّة: أولها قضية المياه التي يشهد ملفها تحركاً غير مسبوق بعد الاتفاق الأخير بين دول حوض النيل على ما سمّي (مبادرة حوض النيل). يحتاج هذا الملف لتعامل خاص مع الدول التي تسعى لفرض اتفاقية جديدة تسمح لها بالاستفادة من مياه النيل باستثمار حصتها أو بيعها لآخرين راغبين خارج الإقليم (إسرائيل). للأسف إلى الآن لا يبدو في الأفق حل واضح، ولكن يمكن للسودان أن يلعب دوراً توفيقياً بين دول الحوض ومصر.
الملف الآخر الذي تجري العناية به الآن هو الملف الزراعي؛ ولذا كان المتعافي نجم زيارة شرف، فأغلب الحوار دار حول هذا الملف وجرى حديث كثير عن مشاريع زراعية عملاقة. وشراكات بين مصر والسودان كان قد خُطط لها منذ فترة ولكن ظلت محلك سر. الاستثمارات المصرية اليوم بالسودان خمسة مليارات دولار بحسب نائب الرئيس علي عثمان، ولكن هذه الاستثمارات أغلبها استثمارات هامشية، ومتفرقة في حيازات صغيرة، ولم ينجح حتى الآن مشروع زراعي ضخم، أو مشاريع متعددة؛ مثل المشاريع التي تقوم بها الأردن الآن في ولاية نهر النيل. ثم إن الميزان التجاري اليوم معجز لصالح مصر لابد من استعداله.
الحريات الأربع معلقة من الجانب المصري لأسباب ظلت مجهولة حتى يوم الناس هذا. قد لا تعالج زيارة شرف الأولى كل القضايا، ولكنها بالتأكيد نجحت في معالجة أزمة صامتة ظلت تدوي داخل الغرف المغلقة بين البلدين؛ بسبب ملفات عالقة وأسئلة مطروحة لم تجد لها حلاً من كلا الطرفين.