شعبان.. بُكائيةٌ واحدة

 


 

 

شعبان.. بُكائيةٌ واحدة

طواحين القرويين.. ثلاثون عاما فصلت ما بين الجزائر والخرطوم..

ناجي شريف بابكر نوفمبر 14، 2024

في الجزائر في بداية التسعينات من القرن العشرين حدث أن نال الإسلاميون هناك أغلبية أصوات الناخبين، وكانوا على وشك إنعقاد برلمانهم حينما قام الجيش بإنقلاب أوقف فيه إجراءات تشكيل الحكومة، وتم بموجبه نزع الحكم عنهم.. أحدث هذا التطور ردود أفعال إنتقامية واسعة النطاق في الريف الجزائري، إستمرت لعقد من الزمان، توزعت فيها الإتهامات ما بين عناصر الجيش ومتشددين إسلاميين، تم فيها إرتكاب مذابح جماعية وأعمال قتل وتنكيل، راح ضحيتها عشرات الآلاف من القرويين من النساء والأطفال والشيوخ. قدرت الإحصائيات أن عدد القتلى قد فاق المائة وخمسين الف نفس.

كان إنقلاب الجيش الذي قاد لإحباط تفوق الإسلاميين الإنتخابي في الجزائر إستجابة لقلق وسط السياسيين وقادة الجيش من إقدام الإسلاميين على تطبيق ما كانوا يبشرون به من مبادئ تدعو لإجهاض الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وتهديد نسق الجمهورية الحديثة في الجزائر، والإستعاضة عنه بتصورات وأشواق تتعلق بدولة الخلافة الأولى.. بالإضافة لأن طيفا واسعا من السياسيين كانوا يرون أن الإسلاميين قد مارسوا إنتهازية سياسية مكشوفة لدغدغة جمهور الناخبين، من خلال تبنيهم لحملة إعلامية وتسليط الضوء على عمليات توزيع للأغذية والإعانات بصورة واسعة لأسر المجتمع الجزائري، في توظيف واضح ومواقت لحصاد مرائر الأزمة المالية الطاحنة والمخمصة التي كان يكابدها الفقراء من الشعب إبان إنخفاض أسعار النفط في نهاية الثمانينات في الألفية السابقة، مما رآه البعض خلطا للأوراق بينما هو إنساني بحت، وما هو سعي محموم لحصاد مستحقات سياسية لم تكن مواتية.

لكن الوقائع تشير إلى أن جذور الأزمة في الجزائر قد بدأت في التشكل عقب إحتجاجات شعبية عنيفة مناهضة لحكومة جبهة التحرير الجزائرية بقيادة الشاذلي بن جديد، كانت قد اندلعت في أكتوبر ١٩٨٨، إثر سياسات تقشف تبنتها الحكومة خلال أزمة مالية طاحنة بسبب تراجع مداخيل النفط. الشئ الذي أجبر الرئيس على تبني إصلاحات سياسية أكثر انفتاحا، تمخضت في العام ١٩٩٢عن أول انتخابات برلمانية حرة تشهدها الجزائر، حازت جبهة الإنقاذ الجزائرية فيها على أغلبية مقاعد البرلمان، الشي الذي دفع قائد الجيش وقتها للتدخل لقطع الطريق على الإسلاميين.

في السودان بفاصل ثلاثة عقود دانت فيها البلاد لحكم الإنقاذ، اندلعت ثورة شعبية بعد أن خضعت البلاد لثلاثين عاما تراوحت بين الثيوكراسية والكليبتوكراسي تحت حكم الحركة الإسلامية، تمخضت عن إشكالات ومصاعب مختلفة شملت انتهاكات للحريات، فسادا واسع النطاق وتلاعبا في العدالة والأصول والاراضي والأموال العامة، كان مؤداها نزع الحكم عن الإسلاميين في الخرطوم.. الشئ الذي تسبب بعد أقل من خمس سنوات في إندلاع صراع مسلح لم يقتصر ضحاياه على عناصر الصراع ما بين الجيش ومتمردين من الجنجويد المنحدرين من بدو جنوب الصحراء. إذ أن المدنيين في معظم القرى السودانية بدا أنهم يتعرضون بصورة واسعة وممنهجة لأعمال إبادة وقتل وتنكيل أدت لمصرع عشرات الآلاف منهم بالرصاص وبالقذائف العشوائية والتجويع وتسميم الحبوب ومصادر المياه. لا تزال عمليات القتل والتنكيل والترويع تتوسع في كافة البوادي والفرقان في أنحاء البلاد الواسعة.

حالة السيولة والضبابية التي تبدو بصفة متكررة والتي تمثلت في غياب الفواصل ما بين الكيانات المتنازعة، كون أن المليشيات المتفلتة التي يعلن النظام في الخرطوم اليوم عن مواجهتها بإعتبارها مسئولة عن معظم الفظائع المرتكبة في حق المدنيين كالجنجويد وكدرع البطانة، هي كيانات سبق أن تم تخليقها وتسليحها حتى أسنانها ورعايتها وتدليلها بواسطة قادة الجيش وتحت أنظمة سياسية، السابق منها واللاحق لا يكاد يخرج عن عباءة الإسلاميين. كما يدلل على تلك السيولة عمليات إنتقال وتبديل ولاءات، بصورة متكررة لعناصر قيادية ظلت تتأرجح ما بين طرفي القتال. والتصريحات الودودة والخجولة لقادة الحركة الإسلامية بما يشي بإستعدادهم غير المشروط للتفاوض وللإحتفاء بالآبقين من قادة أولئك المتفلتين، وقتما يواتيهم الشوق للأخدان. كظاهرة تعكس استخفافا، لا تحترم بصورة كافية مقدار المعاناة والخسائر في الأرواح التي ارتكبها أولئك العائدون في حق الأهالي.

إن حالة السيولة وانعدام الفواصل القاطعة ما بين الخندقين، تشير إلى وضع من العبثية وتعطي إنطباعا أن الطرفين ليسوا على درجة كبيرة من الغبن والعداء تجاه بعضهما البعض، كما لا يبدوان راغبين في تكبيد عناصرهما خسائر حاسمة. فالمتحركات من الجانبين يتم إعلانها والتغني بها في اللايفات على مختلف تطبيقات التواصل الإجتماعي، وكأن العدو يتوسط متصفحيها أو المدونين فيها، دون أن تكون تلك المعلومات العسكرية الحساسة المبذولة على الأثير سببا في إستهداف الطيران الحربي لتلك المتحركات أو ضررا لطائرات إمدادها، التي ظلت تهبط و تقلع آمنة في مطارات أرضية معبّدة مكشوفة، ظللنا نشاهدها على الهواء من على هواتفنا النقالة.

لا يبدو أن قادة النزاع في الخرطوم عازمين على وضع حد لهذه الحرب بتحقيق نصر أو إيقاع هزيمة حاسمة، ولا من خلال تسوية سياسية، أكثر مما يبدو أن إجماعهم وتمسكهم بإطالتها إنما هو إنتظارا لتشكّل واقع موضوعي ما.. حتى يتمكنون من إنزال أكبر الخسائر بالمدنيين الذين كانت ثورة ديسمبر التي أحرقت دور حزبهم وحاكمتهم على فظائعهم التي اقترفوها في حق المواطن السوداني البسيط ونهب أرضه وأصوله وممتلكاته، خسائر تجعل من مطالبته بالتغيير السياسي ترفاً أو كابوسا شديد الكُلفة، يتحتم عليه تجاوزه كفدية لا يتردد في بذلها كأدنى الأضرار مقابل بقائه وأسرته على قيد الحياة. يبدو الأمر وكأنما لا يتعدى كونه عملية إنتقام وتصفية سياسية واسعة النطاق، أعقبت فقدان الإسلاميين وأنصارهم الحكم في الخرطوم نزولا لإجماع شعبي، كان الناس قد تواثقوا فيه، ألا عودة لدولتهم فيها.

في الجزائر أرتكبت العناصر المسلحة لجبهة الإنقاذ أسوة بأخرى تابعة للجيش، فظائعَ وحماقاتٍ وعمليات إنتقام لا توصف في حق الأهالي في الأرياف وفي أطراف العاصمة.. رفضت تلك العناصر كل الحلول التي قدمت لها من أجل إلقاء السلاح والتوقف عن عمليات القتل الجماعي، إلا بعد أن أعلن النظام بقيادة بوتفليقه عن إلتزام الدولة بميثاق يقضي بعدم ملاحقة المسلحين المتورطين في المجازر للعدالة، وعدم التحقيق في الجرائم والإنتهاكات التي أرتكبت في حق قرويين عزل لا يكادون يملكون ما يدفعون به عن حقهم في الحياة لأنفسهم ولأهليهم وفسائلهم. لم تتوقف عمليات القتل هناك، إلا بعد أن ضمنت الجبهة الإسلامية للإنقاذ تعطيل العدالة وتعطيل القصاص، بعد أن أصبح مجرد الحديث أو النشر أو التحقيق في الإنتهاكات أو المطالبة بحقوق الضحايا، تابو وانتهاك للا سامية، يساءل مصدره، تحقق فيه العدالة ويحاسب عليه القانون .

لو كانوا يتمتعون بحد أدنى من الذكاء لما قبلوا أن يتوافقوا مع النظام على وثيقة تتجرأ بالنص على ذلك البند، فلا أدلّ على جرائمهم وانتهاكاتهم وعلى إقرارهم إرتكابها من توافقهم مع الحكومة على وقف العمليات العدائية وفق ميثاق تم التوافق عليه في إستفتاء شعبي كان قد نص ضمن بنوده صراحة على تعطيل العدالة وإبطال القصاص وآيقاف التحقيق الجنائي في الإنتهاكات.. ما يجدر ذكره هنا هو أن ذلك الميثاق رغم ما عليه من المآخذ والعلل الظاهرة، لكنه تمكن على بؤسه من حقن دماء الأهالي في معظم الريف الجزائري ولو إلى حين.. فهل يا ترى أن لو استنسخناه، سيفلح في وقف النزيف هنا إذا ما توافق عليه يوما السودانيون؟

هذه المقاربة، إذا ما عززتها الوقائع والشهادات، ربما ستصبح ذات أهمية لا بأس بها لتفهم مآلات الصراع، ودراسة العوامل المشتركة ما بين مآسي الشعبين، مرائرهما وأحزانهما، والحيل التي يمكن تبنيها بصورة مبكرة، لإيقاف شلال الدم في السودان.
إنتهى..

Email: nagibabiker@hotmail.com

 

آراء