(زيارة للتاريخ من أجل الحقيقة والعدالة والمصالحة)
[5-15]
هاشم عوض عبدالمجيد
hashimkhairy@gmail.com
(5) دلالات شهادة السيد الصديق عن ملابسات وقوع انقلاب نوفمبر 1958:
إن الرواية التي ذكرها السيد الصديق المهدي في أكثر من موضع في مذكراته موثقاً فيها حواره المكتوب مع ممثلي المجلس العسكري الذي كان يقوده الفريق عبود بعد الانقلاب، إنما هي إقرار واضح منه بما يلي:
(أولاً) أنه كان شخصياً على علم مسبق بالترتيبات الرامية لتسليم السلطة للعسكريين؛
(ثانياً) أنه شارك شخصياً في اجتماعات تحضيرية ناقشت إمكانية قيام انقلاب عسكري على النظام الديمقراطي الذي كان حزبه جزءاً منه بل يقود ائتلافه الحاكم؛
(ثالثاً) أنه شخصياً من حيث المبدأ لم يكن يعارض تسليم السلطة للعسكريين؛
(رابعاً) أنه شخصياً بدأ يعارض السلطة العسكرية بعد الانقلاب بسبب تحولها إلى نظام قار ومستدام.
إن إفادات السيد الصديق المهدي المشار إليها أعلاه تتوافق مع بعض أقوال السيد زين العابدين صالح (عضو مجلس الشيوخ سنة 1958 عن حزب الأمة)، وبعض اقوال السيد إبراهيم عبود القائد العام لجيش ورئيس المجلس العسكري أمام لجنة التحقيق القضائية التي انعقدت بعد ثورة أكتوبر والتي ذكر فيها هذا الأخير أنه بدعوة من السيد عبدالله خليل حضر اجتماعاً في بيت السيد الصديق المهدي وبحضور هذا الأخير نوقش فيه كيفية تدخل الجيش لبسط الاستقرار في البلاد التي تعاني من عدم الاستقرار وقد شرح السيد الصديق مفهومه لهذا التدخل – وفق شهادة الفريق عبود أمام لجنة التحقيق – بأن [يتم تعيين وزير دفاع من قبل الجيش] وواصل السيد عبود أقواله قائلاً: […وانفضت الجلسة على لا شيء ولم يحدث اتفاق] . كما أكد السيد زين العابدين صالح أمام لجنة التحقيق انعقاد اجتماع بين السيد الصديق المهدي وبعض قادة الجيش حيث يقول في شهادته أمام اللجنة:[…أذكر قبل الانقلاب بنحو ثمانية شهور أن جاء عبود وحسن بشير وأحمد عبدالوهاب إلى منزل السيد الصديق واجتمعوا في الدور العلوي، وكنت أنا أجلس في الدور الأول ولم أحضر الاجتماع ولا أعرف ما دار فيه، وكان عبدالله خليل هناك] .
ما سبق يتبين أن الأمر ليس عملاً فردياً قام به السيد عبدالله خليل؛ بل هو أمر جرى التحضير له بواسطة عدد من الأشخاص من ضمنهم السيد الصديق المهدي، حيث عُقدت عدة اجتماعات بشأنه في منزل السيد الصديق المهدي بأمدرمان وفق إفادته الشخصية.
إن إقرار السيد الصديق المهدي (رئيس الحزب) بأنه رتّب وحَضْر (عدة اجتماعات) مع قيادة الجيش لمناقشة إمكانية القيام بانقلاب (غض النظر عن موقفه اللاحق من هذا الانقلاب) تجعله مسئولاً مسئولية مباشرة مع السيد عبدالله خليل (السكرتير العام للحزب) الذي ذكرت مصادر عديدة وشهادات قيامه بعملية التسليم والتسلم، وتمتد المسئولية للسيد عبدالرحمن المهدي (راعي الحزب) الذي ترجح بعض المصادر أنه كان يعلم مسبقاً بترتيبات الانقلاب وأصدر يوم الانقلاب بياناً أيّد وبارك فيه الانقلاب وأدان الممارسة الديمقراطية التي كانت سائدة قبل وقوعه. إذ خلافاً لبيان السيد علي الميرغني الذي حوى مباركة مقتضبة للانقلاب، فإن لغة بيان السيد عبدالرحمن المهدي كانت مُفَصّلة ومُتضمِّنة تفسيراً وتبريراً من وجهة نظره لوقوع الانقلاب على نحو يجعله مشتركاً في المسئولية عن الانقلاب؛ كونه راعي الحزب الذي يقود الحكومة ومُناط بها قبل الغير واجب حماية الدستور قبل الواجب المبدئي لحماية الديمقراطية. إن بيان تأييد السيد عبدالرحمن المهدي للانقلاب يستوجب وقفة، حيث أكد السيد عبدالرحمن علي طه في مذكراته أن السيد عبدالرحمن المهدي طلب منه إذاعته، ولكنه لم يقم بكتابته ! البيان الذي يحتوي مضامين معقدة؛ ورسالة سياسية عالية الكثافة تجعل من اليقين أنها كتبت وصيغت إما من شخص بالغ الثقافة السياسية وعلى قدر عالٍ من التعليم، أو مجموعة من المتمرسين في السياسة ولكن يستبعد أن تكون قد تمت صياغتها من قبل السيد عبدالرحمن المهدي منفرداً وعلى عجل صبيحة الانقلاب.
إن ما ذكره السيد الصديق المهدي في الملخص الذي كتبه عن مقابلته الأولى لأعضاء المجلس العسكري عند اجتماعه بهم يوم 17/02/1961م والموثقة في مذكرة سلمت للمجلس العسكري، وكذلك تلك التي وردت في الملخص الذي كتبه عن مقابلته الثالثة لأعضاء المجلس العسكري عند اجتماعه بهم يوم الأحد 12/3/1961م تجد موثوقية لكونها إقرار من كاتبها بأحداث شارك فيها، وكون السيد الصديق المهدي قد عاد وقال في ذات الرواية أنه: […وأخيرا وبعد بحث استبعدنا فكرة الانقلاب لئلا نزج بالجيش في السياسة والحكم…] فإن هذا القول لا ينفي الإقرار بالقبول المبدئي لفكرة تسليم السلطة للجيش ومناقشة ترتيبات وسيناريوهات إنفاذها مع قياداته، بل وتأكيده اللاحق تأييد المبدأ في سياق إفادته بقوله [..إنني أسوق هذه الحادثة لأدلل بها علي تأييدي في الماضي على أساس أنه عمل مؤقت تدعو له الحالة…] كما أن ما ذكره السيد الصديق المهدي يناقض تماماً إفادة السيد ابراهيم عبود أمام لجنة التحقيق، إذ أن النقاشات وفق رواية السيد الصديق المهدي لم تكن تتعلق فقط باشراك الجيش في النظام الديمقراطي وتعيين وزير عسكري في وزارة الدفاع وإنما تجاوزت ذلك إلى:[…احتمال تولية الجيش الحكم. ] وفق ما ذكره السيد الصديق المهدي في لقاءه الثالث مع ممثلي الجيش.
إن الاجتماعات التحضيرية التي تمت بين السيد الصديق المهدي وقيادات الجيش الرئيسية والتي وردت في مذكراته وعُضِدتْ على لسان بعض المشاركين في الانقلاب – وحضرها السيد عبدالله خليل وفق بعض الشهادات – كما وردت في سياق محضر التحقيق، وبغض النظر عن منتهاها الفعلي، يمكن تفسيرها بـأنها أوصلت لقادة الجيش آنذاك رسالة صريحة وواضحة مفادها أن سياسيين من طراز رفيع ورمزين في أكبر قوة سياسية حينها في البلاد، قد زهدا ليس في السلطة وإنما في العملية الديمقراطية برمتها !! وكانت هذه الاجتماعات تصريحاً وليس تلميحاً لقيادة الجيش بأنهم يمكن أن يسلكوا ذات الطريق الذي سلكه رصفائهم حينذاك في مصر وسوريا وباكستان. لقد كانت هذه الاجتماعات التحضيرية وما جرى فيها من نقاش بمثابة إخراج للمارد من قمقمه والذي لم يعود إليه حتى الآن!
هذا الأمر يثير عدة أسئلة تحتاج للبحث المعمق، ومنها التساؤل ما إذا كان هناك تنسيقاً واتفاقاً، أم تنافساً محموماً بين السيد الصديق المهدي والسيد عبدالله خليل هو ما جعل قيادة الجيش تقرر استلام السلطة بمفردها، وإبعاد السياسيين من دفة الأمر بعد أن اتفقت معهما على ترتيبات مسبقة ؟ وكيف يُفسَّرْ ما يرد في مصادر مختلفة عن وجود خلاف بين موقفي السيد الصديق المهدي والسيد عبدالله خليل من الأزمة العامة في البلد ورؤيتهما لحلها، بينما إفادة السيد عبدالله خليل خلال لقائه بالسفير البريطاني قبيل الانقلاب تقول بانه كان على علم وموافق على فكرة الائتلاف مع الحزب الوطني الديمقراطي وبالتالي الحل السياسي للأزمة وهي فكرة تُنسب للسيد الصديق المهدي منفرداً. في ذات الوقت فإن إفادة السيد الصديق المهدي في مذكراته – رغم عدم ذكره السيد عبدالله خليل – فيمن اجتمع معهم مع قادة الجيش، تقود إلى الفهم بأنه كان متفقاً مع السيد عبدالله خليل على دورٍ ما للجيش في حكم البلاد، وأنهما – سواءً منفردين أو مجتمعين- قد شاركا في الترتيب والتحضير لهذا الدور؟
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم