شهادات وزوايا نظر ومقاربة جديدة لملابسات انقلاب 17 نوفمبر 1958م
(زيارة للتاريخ من أجل الحقيقة والعدالة والمصالحة)
[6-15]
هاشم عوض عبدالمجيد
hashimkhairy@gmail.com
(6) دلالات شهادة السيد الصديق عن ملابسات وقوع انقلاب نوفمبر 1958:
مما أثرناه في الأجزاء السابقة من هذه الدراسة أن مصادر عديدة وعلى رأسها ما جاء على لسان السيد الصادق المهدي سواءً في كتاب “ميزان المصير الوطني في السودان”، أو في التوثيق الذي تم معه في قناة الجزيرة في برنامج “شاهد على العصر”، أشارت إلى أن موقف السيد الصديق المهدي كان يختلف عن موقف السيد عبدالله خليل من الأزمة العامة في البلد ورؤيتهما، وبالتالي – وفقاً لهذه الرواية فإن موقف السيد الصديق كان رافضاً تسليم السلطة للجيش، حيث تقول ذات الرواية أن الذي كان من وراءه هو السيد عبدالله خليل منفرداً. بيد أن إفادة السيد الصديق المهدي التي أوردها في مذكراته تقود إلى الفهم بأنهما كانا متفقين على دورٍ ما للجيش في حكم البلاد، وأنهما – سواءً منفردين أو مجتمعين- قد شاركا في الترتيب والتحضير لهذا الدور، فكيف يمكن فهم هذا التناقض؟
لتحرير هذه الجزئية الهامة وغيرها مما يتصل بوقائع انقلاب 17 نوفمبر 1958 التقيت السيد الصادق المهدي في أواخر العام 2017، وقد جاءت إفادته مختلفة عما أورده من قبل سواءً في كتابه الذي أشرنا له أعلاه، أو في توثيقه مع قناة الجزيرة سنة 2015. في مقابلتي له ذكر السيد الصادق المهدي مجدداً أن فكرة الانقلاب بُحثت في اجتماع لمجلس إدارة حزب الأمة حينها بناءً على اقتراح من السيد عبدالله خليل، وأن السيد الصديق كان ممن ناقشوا الفكرة إلا أنه كان من الرافضين لها وطرح البديل الذي ذكرناه سابقاً والمتمثل في تغيير الائتلاف الحاكم . وعند سؤالي للسيد الصادق المهدي عما ورد في مذكرات السيد الصديق المهدي ذكر أنه بالفعل قام شخصياً بتحرير مذكرات السيد الصديق المهدي (جهاد في سبيل الديمقراطية – مطلب أمة) وذلك من واقع الوثائق الخاصة بالسيد الصديق المهدي مثلما فعل من قبل مع وثائق السيد عبدالرحمن المهدي (جهاد في سبيل الاستقلال)، وبالتالي فإن وثائق السيد الصديق المهدي تحدث عن نفسها ولا يستطيع تأكيدها أو نفيها. أما فيما يتعلق باجتماع مجلس الإدارة فيقول السيد الصادق المهدي أنه سمع عن قيامه وتفاصيله من السادة عبدالله عبدالرحمن نقدالله والسيد أمين التوم ولكن لم يطلع على وثيقة بشأنه. يستطرد السيد الصادق المهدي قائلاً أنه في تلك الفترة لم يكن ضمن الفاعلين الرئيسيين في حزب الأمة وكل ما ذكره سواءً في كتابه أو التوثيق مع قناة الجزيرة روايات شفهية وردته من آخرين، وأن ما يستطيع ذكره كشاهد عيان هو الحديث الذي وجهه له السيد الصديق المهدي حينما قابله في المطار يوم عودته من أوربا بعد الانقلاب مباشرة، وكذلك النقاش الذي جرى أمامه في نفس اليوم بين السيد الصديق المهدي والسيد عبدالرحمن المهدي.
في تدليله على مسألة التصويت داخل مجلس الإدارة وأن اثنين من الأعضاء قاما بالتصويت مع التوصية، يرى السيد الصادق المهدي أن مواصلة أحد هذين العضوين في مسعاه حتى قيام الانقلاب ويعني بذلك السيد عبدالله خليل، ومشاركة أحدهما وزيراً في الحكومة التي شكلها الانقلابيين ويعني بذلك السيد زيادة أرباب إنما هي بينة على أنهما كانا الوحيدين الداعمين له من قيادات حزب الأمة.
ومضى السيد الصادق المهدي قائلاً بأن نقاش فكرة تسليم السلطة للجيش داخل حزب الأمة كانت خطأً في حد ذاتها . إلا أنه يرى أنها جاءت في سياق نقاش لخيارات وبدائل للأزمة السياسية التي كانت تمر بها البلاد، وإن نقاشها تم على أساس أن تكون أجراء مؤقت ولمدة محددة، وأنه حتى هذا الخيار رفضته الأغلبية وفضلت عنه فض التحالف مع حزب الشعب الديمقراطي والتحالف مع الحزب الوطني الديمقراطي. من جهة أخرى لم ينفي السيد الصادق المهدي أنه جرت عدة اجتماعات بين الصديق المهدي وقادة الجيش بشأنه تسليمهم السلطة، إلا أنه أكد أن السيد الصديق لاحقاً تراجع عن هذا الخيار ومضى في خيار إعادة تشكيل التحالف.
مما سبق من ملابسات، وبعد إيراد ما جاء في مذكرات السيد الصديق المهدي، وما ذكره السيد الصادق المهدي بشأنها سابقاً ولاحقاً، يتبين أن الواقعة الجوهرية التي تنبني عليها هذه المسألة كلها، فيما يتعلق بمسئولية حزب الأمة كمؤسسة، هي مدى صحة القول بالعلم المسبق لمؤسسات حزب الامة بفكرة أو ترتيبات الانقلاب. وما يستتبع ذلك من أسئلة حول ما إذا كانت ترتيبات تسليم السلطة للجيش تمت بناءً على تصرف منفرد من السيد عبدالله خليل لم يعلم به أحد مسبقاً، أم أنه جاء بناءً على توصية من السيد عبدالله خليل – وفق ما ذكرناه آنفاً وورد كذلك في بعض المصادر المختلفة – وجرى بحثها في اجتماع لمجلس إدارة حزب الأمة في وجود السيد الصديق المهدي الذي كان من المعارضين لها. أم أن هذا التصرف كان بناءً على توافق أو ربما تنافس بين الرجلينٍ ؟ هذا يقودنا لسؤال محوري قد تقود الإجابة عليه إلى مسار تاريخي مختلف فيما يتعلق بملابسات انقلاب 17 نوفمبر 1958م، ويتلخص هذا السؤال فيما يلي:
هل أعضاء “مجلس إدارة” حزب الأمة كانوا على إلمام بكافة الأعمال التحضيرية لانقلاب 17 نوفمبر 1957م؟ وهل عرض الأمر عليهم بصورة رسمية وتم التصويت حوله كما جاء في بعض المصادر ؟
هذه الجزئية ملتبسة جداً وتستوجب بعض التحميص والتدقيق. فإذا كانت الإجابة على السؤال أعلاه بــ (نعم) وفق ما أورده كثيرين في بعض المصادر التاريخية، ووفق ما ذكره السيد الصادق المهدي ابتداءً ، قبل أن يعود ويؤكد في مقابلتي معه أنها كانت محض مرويات لا يستطيع تأكيدها وأنه لا توجد وثيقة أو مصدر مؤكد لها، فإن حزب الأمة برمته يكون مسئولاً مسئولية كاملة عن الانقلاب وما نتج عنه. ذلك أن قيام أعلى هيئة تنفيذية في حزب الأمة وفق هذه الرواية، بمناقشة توصية قدمها السكرتير العام للحزب وتقضي بتسليم السلطة للجيش، يعني علم هذه الهيئة الحزبية المسبق بالانقلاب وما يتبع ذلك من مسئولية. أما ما ذُكِرَ – وفق هذه الرواية – عن اعتراض غالبية حضور الاجتماع على هذه التوصية بنسبة (13) من أصل (15) عضواً، فإن هذا الاعتراض لا يعفي الحزب من المسئولية ، إذ أن مجرد علم هذه الهيئة العليا في الحزب بنية سكرتيره العام القيام بانقلاب وعدم الإتيان بفعل يمنعه ومن ثم غض الطرف عنه وتمريره هو مشاركة في الفعل. ولا يعتد بالقول أن غالبية الأعضاء قد صوتوا ضد الترتيبات المذكورة، ذلك أن هذه الترتيبات لم تكن تتعلق بتقدير سياسي سوف يقرره الحزب وإنما تتعلق باتفاق جنائي لتقويض الدستور!! فهل هذا هو واقع الحال، هل بالفعل ما ذكرته هذه الرواية عن قيام اجتماع لمجلس الإدارة أمر قد وقع بالفعل أم لا ؟ أم أن واقعة انعقاد هذا الاجتماع غير صحيحة؟
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم