صراع الهوية والمواطنة وضياع الوطن
خضر محمد عبدالباسط
8 April, 2024
8 April, 2024
K.m.abdelbasit@gmail.com
خضر محمد عبدالباسط
مدخل:
كثر الحديث مؤخرا عن "غياب المشروع الوطنى الذى يحظى باجماع السودانيين" كأهم اسباب الأزمة السودانية، و فى إطار البحث عن هذا المشروع المفقود ذهب الكثيرون إلى أن الإتفاق على مستقبل الحكم فى السودان لا بد أن يستصحب إتفاقاً على الهوية السودانية، و قد أريق الكثير من الحبر و أهدر الكثير من الوقت فى الجدل حول موضوع الهوية. فما هى بالهوية ؟
الهوية:
ما زال مفهوم الهوية مفهوما متعدد التعريفات فى العلوم الإنسانية و فضفاضاً غير محدد المعالم و لكن يمكن القول أن الهوية هى مجموعة من الصفات التى يمتلكها الفرد أو الجماعة و التى تمنح هذا الفرد أو هذه الجماعة صفة التفرد عن غيرهم. و عليه تكون الهوية إنتماءاً ثقافياً إلى معتقدات و قيم و معايير و اسلوب حياة محدد و منها الهوية الفردية (ال أنا) و هى إدراك الفرد لذاته و ما يميزه عن الآخرين و الهوية الإجتماعية (ال نحن) و هى الصورة التى تكونها مجموعة معينة عن نفسها و التى تقوم على الإرث الثقافى و العرقى و اللغوى و الدينى المشترك و الذى يشكل اسلوب حياتهم و كيفية تعاملهم فيما بينهم و بين المجموعات الاخرى ,و تكون الهوية هنا من الموروث. كما يمكن أن يمتد هذا إلى المكتسب كالإنتماء السياسى أو المذهبى. و عليه تكون الهوية من الخصوصيات، فما هى هوية (خصوصية) السودانى؟
الهوية السودانية؟
يتنازع الكثيرون حول هوية السودان و هل هى العروبة أم الأفريقانية أم الإسلام و لكن لم يرد فى الأدبيات ما يبين كيف تمنح أى من هذه المكونات السودانيين صفة إو صفات خاصة بهم تميزهم عن غيرهم. بل انه ليست أى من هذه المكونات الثلاث للسودانيين وحدهم بل يتشاركون كل منها مع عدد مقدر من الشعوب. فنحن نتشارك العروبة مع عدد مقدر من الأقطار فى الجزيرة العربية و شمال أفريقيا، هذا إضافة إلى أن عروبة جزء غير يسير من السودانيين محل شك كما أن جزءاً مقدراً منهم لا يمت للعروبة بصلة. و بنفس القدر فاننا نتشارك الإنتماء الأفريقى مع عدد من الأقطار التى تتعدد اصولهم العرقية و لغاتهم و ثقافاتهم. و ينطبق هذا بشكل أكبر على الإسلام الذى نتشاركه مع جميع الآقطار العربية و عدد مقدر من الأقطار الأفريقية و الآسيوية. و عليه فليس فى العروبة و لا الأفريقانية و لا الإسلام ما يمنح السودانى صفة الخصوصية أو التفرد عن غيره و هو معنى الهوية، بل أن نصيب السودانى من أى من الثلاث اقل من نصيب كثير من شركائه فيه. ينطبق تعدد الهويات هذا على جميع البلاد متعددة الأعراق و الثقافات و المعتقدات و هو ما يجعل موضوع الهوية مجالا خصبا للدراسات الإجتماعية متى ما قبلت هذه المكونات المجتمعية التعايش مع بعضها البعض و تعاملت على قدم المساواة دون اعتبار للعرق أو الثقافة أو الدين، كما هو الحال فى المجتمعات المتقدمة. و بنفس القدر الذى يوفر تعدد الهويات مجالا خصبا لإثراء الدراسات و الأنشطة الإجتماعية و الثقافية، فانه متى ما اقحم فى السياسة أصبح مجال فرقة و شتات و عصبية و مطية لدعاة الفرقة على اسس عرقية و مذهبية انتهاءاً بالحروب بين أبناء الوطن الواحد كما رأينا فى العديد من البلاد، و آخرها هذه الحرب اللعينة فى السودان. و من الطبيعى أن يتضخم الإحساس بالهوية فى هذه الأحوال وصولاً النرجسية المفضية إلى العنصرية و الإعتقاد بنقاء و طهارة الأصل و الخوف من أن يفسد الآخرون هذا النقاء، و فى المقابل الشعور بالضيم و الحقد على هويات الغير، و فى كلا الحالين يضعف إن لم يختفى تماماً الإحساس بالمواطنة.
ما هى المواطنة؟
و نعنى بالمواطنة الإنتماء لقطر بعينه و هى الهوية المعتمدة رسمياً فى الأوراق الرسمية من بطاقات و جوازات سفر و غيرها مع ما يسستتبعه هذا الإنتماء من حقوق و واجبات، و هى الهوية (نظرياً على الأقل) التى تسود على جميع الهويات الأضيق، بما يحقق دولة المواطنة أو الدولة الحديثة و التى تتميز بالضرورة بالسمات التالية:
• علاقة قانونية مباشرة الفرد و الدولة على اساس الشراكة في الوطن ومنظومة الحقوق والواجبات حيث لا يحتاج المواطن الى وسائط فرعية بينه وبين الدولة كالقومية والطائفية والعشائرية وغير ذلك.
• القانون هو الفيصل في عقاب وثواب الأفراد و الجماعات وفض المنازعات بينها و تتولى الدولة مسئولية تطبيق القانون على الكل سواء بسواء.
• المؤسسات هى المسئولة عن تصربف المهام حسب النظم التى تحكم عملها و ليس على هوى من يتولون إدارتها.
تمثل هذه السمات الهوية الوطنية الجامعة العليا وهي الأساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة، التي يعتبر حمل جنسيتها هو هويتها الأساسية و ياتى كل ما عداها من سمات الافراد و الكيانات دون ذلك. عليه تكون هذه الهوية الوطنية العليا مقترنة بشكل مباشر بقيمة الإنسان العليا كإنسان في المقام الأول، وفي ما يلي هذا المقام يمكن للهويات والصفات الأدنى درجة أو الثانوية أن تتواجد أو لا تتواجد، و بالطبع يندر وجود هذه السمات فى المجتمعات التى توصف بالمتخلفة حيث الولاء الأكبر للهويات الطائفية والعرقية والعشائرية , حيث السلطة الأبوية و تهميش المؤسسات و ضعف سلطة القانون و مما لا شك فيه أن السودان يقع ضمن هذه الفئة , حيث طغيان الولاء العرقى و العشائرى و الطائفى و المذهبى على الولاء للوطن ماثلة للعيان.
بالعودة إلى كثرة الحديث مؤخرا عن "غياب المشروع الوطنى الذى يحظى باجماع السودانيين" كأهم اسباب الأزمة السودانية، فهناك شبه إتفاق أن أهم ملامح هذا المشروع هو ما أسميناه دولة المواطنة، فما الذى منع من الوصول لهذه الدولة بعد ثلثى قرن من عمر البلاد‘ بل مالنا نبعد عنها أكثر فأكثر مع مرور السنين؟ فى تقديرى انه لا بد لنا أن نعى أننا نفتقد أهم أدوات قيام دولة المواطنة و هى وجود شخصيات فكرية وثقافية ودينية متنورة، وحركات اجتماعية متحضرة تأخذ على عاتقها محاربة التخلف، ومكافحته، ونشر ثقافة المواطنة والتربية الحضارية بحدها الادنى، قبل أو جنباً إلى جنب التشريعات والقوانين والتربية المدرسية وصولا الى بناء دولة المواطنة. و بالطبع لا بد لهذه الشخصيات و الحركات أن تتمتع بقدر عال من الوطنية، و هى عاطفة قوية يشعر بها المواطن تجاه وطنه تسمو على كل ما هو خاص به كفرد مما يجعل المصلحة العامة أهم من المصلحة الخاصة،بل غالباً ما تكون خصماً عليها. و بما اننا نعلم أن قليل من البشر من يمكن يضحى بالخاص فى سبيل العام فان هذه الشخصيات عملة نادرة نتمنى أن يجود الزمان بشى منها على السودان.
يخلص هذا المقال إلى أن الجدل حول موضوع الهوية جدل لا طائل من ورائه و يدعو إلى إخلاص الإنتماء للوطن الواحد و التسامى فوق مفهوم الهوية و القومية و الإقليمية و إختلاف الدين مع كامل الإحترام لمختلف الهويات.
خضر محمد عبدالباسط
مدخل:
كثر الحديث مؤخرا عن "غياب المشروع الوطنى الذى يحظى باجماع السودانيين" كأهم اسباب الأزمة السودانية، و فى إطار البحث عن هذا المشروع المفقود ذهب الكثيرون إلى أن الإتفاق على مستقبل الحكم فى السودان لا بد أن يستصحب إتفاقاً على الهوية السودانية، و قد أريق الكثير من الحبر و أهدر الكثير من الوقت فى الجدل حول موضوع الهوية. فما هى بالهوية ؟
الهوية:
ما زال مفهوم الهوية مفهوما متعدد التعريفات فى العلوم الإنسانية و فضفاضاً غير محدد المعالم و لكن يمكن القول أن الهوية هى مجموعة من الصفات التى يمتلكها الفرد أو الجماعة و التى تمنح هذا الفرد أو هذه الجماعة صفة التفرد عن غيرهم. و عليه تكون الهوية إنتماءاً ثقافياً إلى معتقدات و قيم و معايير و اسلوب حياة محدد و منها الهوية الفردية (ال أنا) و هى إدراك الفرد لذاته و ما يميزه عن الآخرين و الهوية الإجتماعية (ال نحن) و هى الصورة التى تكونها مجموعة معينة عن نفسها و التى تقوم على الإرث الثقافى و العرقى و اللغوى و الدينى المشترك و الذى يشكل اسلوب حياتهم و كيفية تعاملهم فيما بينهم و بين المجموعات الاخرى ,و تكون الهوية هنا من الموروث. كما يمكن أن يمتد هذا إلى المكتسب كالإنتماء السياسى أو المذهبى. و عليه تكون الهوية من الخصوصيات، فما هى هوية (خصوصية) السودانى؟
الهوية السودانية؟
يتنازع الكثيرون حول هوية السودان و هل هى العروبة أم الأفريقانية أم الإسلام و لكن لم يرد فى الأدبيات ما يبين كيف تمنح أى من هذه المكونات السودانيين صفة إو صفات خاصة بهم تميزهم عن غيرهم. بل انه ليست أى من هذه المكونات الثلاث للسودانيين وحدهم بل يتشاركون كل منها مع عدد مقدر من الشعوب. فنحن نتشارك العروبة مع عدد مقدر من الأقطار فى الجزيرة العربية و شمال أفريقيا، هذا إضافة إلى أن عروبة جزء غير يسير من السودانيين محل شك كما أن جزءاً مقدراً منهم لا يمت للعروبة بصلة. و بنفس القدر فاننا نتشارك الإنتماء الأفريقى مع عدد من الأقطار التى تتعدد اصولهم العرقية و لغاتهم و ثقافاتهم. و ينطبق هذا بشكل أكبر على الإسلام الذى نتشاركه مع جميع الآقطار العربية و عدد مقدر من الأقطار الأفريقية و الآسيوية. و عليه فليس فى العروبة و لا الأفريقانية و لا الإسلام ما يمنح السودانى صفة الخصوصية أو التفرد عن غيره و هو معنى الهوية، بل أن نصيب السودانى من أى من الثلاث اقل من نصيب كثير من شركائه فيه. ينطبق تعدد الهويات هذا على جميع البلاد متعددة الأعراق و الثقافات و المعتقدات و هو ما يجعل موضوع الهوية مجالا خصبا للدراسات الإجتماعية متى ما قبلت هذه المكونات المجتمعية التعايش مع بعضها البعض و تعاملت على قدم المساواة دون اعتبار للعرق أو الثقافة أو الدين، كما هو الحال فى المجتمعات المتقدمة. و بنفس القدر الذى يوفر تعدد الهويات مجالا خصبا لإثراء الدراسات و الأنشطة الإجتماعية و الثقافية، فانه متى ما اقحم فى السياسة أصبح مجال فرقة و شتات و عصبية و مطية لدعاة الفرقة على اسس عرقية و مذهبية انتهاءاً بالحروب بين أبناء الوطن الواحد كما رأينا فى العديد من البلاد، و آخرها هذه الحرب اللعينة فى السودان. و من الطبيعى أن يتضخم الإحساس بالهوية فى هذه الأحوال وصولاً النرجسية المفضية إلى العنصرية و الإعتقاد بنقاء و طهارة الأصل و الخوف من أن يفسد الآخرون هذا النقاء، و فى المقابل الشعور بالضيم و الحقد على هويات الغير، و فى كلا الحالين يضعف إن لم يختفى تماماً الإحساس بالمواطنة.
ما هى المواطنة؟
و نعنى بالمواطنة الإنتماء لقطر بعينه و هى الهوية المعتمدة رسمياً فى الأوراق الرسمية من بطاقات و جوازات سفر و غيرها مع ما يسستتبعه هذا الإنتماء من حقوق و واجبات، و هى الهوية (نظرياً على الأقل) التى تسود على جميع الهويات الأضيق، بما يحقق دولة المواطنة أو الدولة الحديثة و التى تتميز بالضرورة بالسمات التالية:
• علاقة قانونية مباشرة الفرد و الدولة على اساس الشراكة في الوطن ومنظومة الحقوق والواجبات حيث لا يحتاج المواطن الى وسائط فرعية بينه وبين الدولة كالقومية والطائفية والعشائرية وغير ذلك.
• القانون هو الفيصل في عقاب وثواب الأفراد و الجماعات وفض المنازعات بينها و تتولى الدولة مسئولية تطبيق القانون على الكل سواء بسواء.
• المؤسسات هى المسئولة عن تصربف المهام حسب النظم التى تحكم عملها و ليس على هوى من يتولون إدارتها.
تمثل هذه السمات الهوية الوطنية الجامعة العليا وهي الأساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة، التي يعتبر حمل جنسيتها هو هويتها الأساسية و ياتى كل ما عداها من سمات الافراد و الكيانات دون ذلك. عليه تكون هذه الهوية الوطنية العليا مقترنة بشكل مباشر بقيمة الإنسان العليا كإنسان في المقام الأول، وفي ما يلي هذا المقام يمكن للهويات والصفات الأدنى درجة أو الثانوية أن تتواجد أو لا تتواجد، و بالطبع يندر وجود هذه السمات فى المجتمعات التى توصف بالمتخلفة حيث الولاء الأكبر للهويات الطائفية والعرقية والعشائرية , حيث السلطة الأبوية و تهميش المؤسسات و ضعف سلطة القانون و مما لا شك فيه أن السودان يقع ضمن هذه الفئة , حيث طغيان الولاء العرقى و العشائرى و الطائفى و المذهبى على الولاء للوطن ماثلة للعيان.
بالعودة إلى كثرة الحديث مؤخرا عن "غياب المشروع الوطنى الذى يحظى باجماع السودانيين" كأهم اسباب الأزمة السودانية، فهناك شبه إتفاق أن أهم ملامح هذا المشروع هو ما أسميناه دولة المواطنة، فما الذى منع من الوصول لهذه الدولة بعد ثلثى قرن من عمر البلاد‘ بل مالنا نبعد عنها أكثر فأكثر مع مرور السنين؟ فى تقديرى انه لا بد لنا أن نعى أننا نفتقد أهم أدوات قيام دولة المواطنة و هى وجود شخصيات فكرية وثقافية ودينية متنورة، وحركات اجتماعية متحضرة تأخذ على عاتقها محاربة التخلف، ومكافحته، ونشر ثقافة المواطنة والتربية الحضارية بحدها الادنى، قبل أو جنباً إلى جنب التشريعات والقوانين والتربية المدرسية وصولا الى بناء دولة المواطنة. و بالطبع لا بد لهذه الشخصيات و الحركات أن تتمتع بقدر عال من الوطنية، و هى عاطفة قوية يشعر بها المواطن تجاه وطنه تسمو على كل ما هو خاص به كفرد مما يجعل المصلحة العامة أهم من المصلحة الخاصة،بل غالباً ما تكون خصماً عليها. و بما اننا نعلم أن قليل من البشر من يمكن يضحى بالخاص فى سبيل العام فان هذه الشخصيات عملة نادرة نتمنى أن يجود الزمان بشى منها على السودان.
يخلص هذا المقال إلى أن الجدل حول موضوع الهوية جدل لا طائل من ورائه و يدعو إلى إخلاص الإنتماء للوطن الواحد و التسامى فوق مفهوم الهوية و القومية و الإقليمية و إختلاف الدين مع كامل الإحترام لمختلف الهويات.