صفحة في تاريخ منطقة الدفار: شاهد علي زيارة الحاكم العام لافتتاح مبني مدرسة كورتي الأولية!
الخضر هارون
24 May, 2022
24 May, 2022
maqamaat@hotmail.com
في أنس عابر مع الأخ العزيز الأستاذ بابكر الجنيد أو بابكر الحاج كما يحلو لأهله وذويه ،ناس الغريبة في محلية مروي بالولاية الشمالية أن ينادوه ،ذكرنا أيام زمان وكلانا مسكون ب(نستالجيا )أبت أن تفارقنا بل و تزداد ضراوة كلما شط بنا النوي فرسخاً، ويستيقظ شيطان الحنين تغلغلاً وعمقاً في جوانحنا فنرتاع لمجرد الإحساس بأن البون قد اتسع وأن النجعة قد ازدادت بعداً عن مساقط رؤوسنا الحبيبة ، تلك البقاع ، قيض الله لها من يحفظ حقها ويجود عليها بما تستحق من التجلة واليسر والعيش الرغيد وما ذلك علي الله بعزيز!
الأخ بابكر محاسب وإداري- دبلوماسي انتسب لوزارة المالية في صباه الباكر ثم انتدب للعمل في وزارة الخارجية كما جرت وتجري العادة وانتقل للعمل محاسباً في بعثة السودان الدائمة في نيويورك وعاصر فترات حية من تاريخ البعثة والسودان هناك. ولعل أحد النابهين من ناشئة السلك الدبلوماسي أو من غيرهم يجلس إليه وإلي غيره من ذوي الصلة بالبعثة من أمثال المرحوم أمين عبد الصمد رحمه الله الذي عمل مديراً لمكتبة الأمم المتحدة كما عمل في البعثة، لإعداد دراسة أكاديمية تؤرخ لتلك الفترات سيما وأن جل أبطالها علي قيد الحياة. يقيني أن مثل تلك الدراسة ستحظى بالاهتمام لتاريخها لفترة حية من تاريخ السودان بعد الاستقلال ويلزم إجراء دراسات مماثلة لها ,في بعثات السودان في دول كان السودان محط اهتمامها كمصر والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. هذه الدراسات ستؤرخ لعمل الدبلوماسية السودانية في عواصم مهمة وستسهم في تفهم أعمق لعلاقات تلك الدول بالسودان و تعين واضعي السياسة الخارجية إزاء تلك الدول ما يلزم استصحابه من ذلك .
الأستاذ بابكر لم يبتعد عن البعثة كثيراً فبعد التقاعد عمل فيها ضمن طاقمها المحلي لسنوات ثم أقام في كوينز في نيويورك الكبرى.
قلت ، الأستاذ بابكر مسكون بحب القرية غادرها جسدا في شبابه وبقيت تنبض بالحياة في جوانحه حتي يوم الناس هذا تطربه أهازيجها و تشجيه مدائحها ونغمات طنابيرها كلما أرهف السمع ساعة صفاء للذي يناجي حتي رمال الحلة الصماء المفجوعة بانفضاض سامر أبنائها :(يا رمال حلتنا زولاً كان بآنسك يا حليلو يا حليلو..) فيخال نفسه ذلك الزول المفقود وربما غشيته لذلك كآبة من تأنيب الضمير وخالطت تلك الكآبة حسرات، وما دري أن المفقودين أزوال وأزوال يملؤون السهل والجبل!
لذلك فهو قارئ نهم يقرأ كل ما كتب ويكتب عن تلك المنطقة الساحرة كأنما يعزي النفس بذلك الفقد الجلل ، فقد المكان والأحبة. ذكر لي أن أباه عثمان جنيد كان يملك مكتبة حسنة وبدا لي أنا، أنه كان رجلاً مستنيراً ميسور الحال إذ حج عدة مرات وسافر إلي البحرين وأفغانستان. ولصعوبة الحج قديما أطلق عليه أهل الغريبة (الحاج) فأصبحت علماً دالاً عليه مكان عثمان فكان ابنه، بابكر هو بابكر الحاج بينما غلبت علي التسمية الرسمية ،بابكر عثمان جنيد. وعشيرتهم في القرية تعرف بالجنيداب. قال لي لا أدري من أين جاءت نيويورك بهذا الالف واللام فأصبحت بابكر الجنيد!. وأصبح اسمه في البعثة وخارجها (مستر جي). أرسله أبوه الذي أقام في الخرطوم إلي الغريبة ليلتحق بالمدرسة في كورتي وخلع عليه كسوة فخيمة، (بالطو) وجزمة برباط . لكن ناظر المدرسة الأستاذ الشيخ أحمد كير ويعرف بود كير ،حرمه من التنعم بكلتيهما محافظة علي الزي العام أو وربما تلطفاً بمن لا يملكون مثلما يملك. وأضاف الناظر إلي التحذير الحازم قرصة مؤلمة في الأذن فكان لا يعاقب بأقسي منها ، رحمه الله. طلب مني محذراً "يا ود الغريبة تاني ما تجي بالقفطان دا" الزي المطلوب سروال أبيض وقميص أبيض. وكذلك منعني، يقول بابكر، من المجئ بالجزمة . تركت البالطو وأبدلت الجزمة بجزمة باتا التي كانت تصنعها شركة باتا البريطانية من القماش ، فمنعني من المجئ بها كذلك. وطلب مني التوجه لود فايت في سوق كورتي ليصنع لي حذاء من الجلد (مركوب) وبعد ذلك أمرني أن أذهب لمناصر لخياطته ودهنه بالقطران! قال" لم تكن وجبة الفطور في المدرسة ضمن وجباتنا اليومية (لعلهم كانوا يتناولون شيئا في بيوتهم قبل التوجه إليها)لكن أبي كان ينعم عليّ ب (تعريفة) وهي نصف القرش، كنت أدخرها ليوم السوق في كورتي لشراء قرعة ترمس أو جرمة مسلوقة". قال منحني عمنا المرحوم حمزة بشير كمبال وهو أحد أثريا كورتي وكان له دكان في سوقها ، قرشاً قال لي اشتري به شمامة .وكان الشمام يكثر في فصل الشتاء. كان أهلنا نحن يسمونه (القاعون). لا أدري إن كانت تركية فقد وجدتها في المورد للبعلبكي في مقابل كلمة (ميلون) بالإنقليزية: قاؤون! كذلك سادت في قرانا ذاك الزمان كلمة (بناضوره) للطماطم وهي كلمة إيطالية تسود في الشام بدوله الأربع(بنادورة) . تري كيف ضلت طريقها إليهم وإلينا؟
ذكرنا في أنسنا ذاك البواخر النيلية التي أدركتها أنا : الزهرة أو لعها الزهراء لا أدري و هي الأقرب لنَفس المنطقة فجداتنا وعماتنا وخالاتنا يغلب عليهن تسمية الزهراء ،سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت محمد النبي رضي الله عنها وصلي وسلم علي أبيها المصطفي، فالزهرة عندنا ،نوارة وإن اكتملت ، و هناك كانت الجلاء وكربكان. وكان القطار وتلك البواخر أكثر ما يستهوينا في السفر إلي قرانا التي هجرها الأهل إلي حواضر السودان المختلفة يلتمسون فيها الرزق الحلال ثم يُهرعون إليها فرحين كل عام مرة لحصاد التمر وللقاء الأحبة الذين تركوهم هناك ونأوا عنهم فأطلق أولئك عليهم تسمية غريبة : (ناس السكة والسكي بالإمالة!) أي أولئك الذين هجرونا لأماكن نائية يستعصي الوصول إليها إلا بواسطة السكك الحديدية! فغدت وسيلة التنقل بين قراهم ومهاجرهم اسماً دائماً يعرفون به . وأهل المنطقة تغربوا قبل مجئ السكة حديد إلي السودان مرات عديدة بسبب الحروب أحياناً وبسبب الجدب والسنين العجاف أحايين أخر، فانداحوا في ربوع السودان الفسيح فأسسوا أو ساهموا في تأسيس قري وحواضر في الشرق والغرب والوسط بما بعضه معلوم للكافة . ويروي البروفسور عبد الله الطيب عن الدكتور مندور المهدي والأخير ابن من أبناء المنطقة مدار هذا الحديث ،أن في احدي السنين العجاف ضاق الحال بالناس فهاجر بعضهم إلي صعيد السودان البعيد تاركين نخيلهم وديارهم وبعد حين عاد الرخاء للمنطقة فقال شاعر المقيمين منهم يغايظ أولئك الذين تعجلوا بالرحيل :
التمر شال فدع الجريد و ا مغصة (مغص) الضرب الصعيد!
والضرب في الأرض من فصيح اللغة ورد في التنزيل في أكثر من موضع.
وقد قرأت قبل أيام في هذه الوسائط تحذيرا لناصح أمين حذر فيه أهل الحواضر الكبيرة الذين شرعوا في بيع عقاراتهم التي أفنوا خيرة أيامهم في تشييدها ، من مغبة ذلك بالتوجه بحصيلة ذلك إلي القاهرة أو إستنبول هرباً من حال السودان الذي بلغ حداً من الشدة لا يطاق ، ونصحهم بأن يعتصموا بقراهم في السودان بديلاً عن تلك الهجرة المحفوفة بالمخاطر والتي سرعان ما تقضي علي ثمن ما قبضوه من بيع عقاراتهم .فبالهجرة إلي الداخل، إلي قراهم ، يحتفظوا بعقاراتهم حتي تنجلي الأزمات ويعودوا بعدها إن شاءوا إلي حيث كانوا. قلت حبذا لو أعانهم المركز ببعض محفزات ترجح عندهم خيار الهجرة إلي قراهم بتزويد مشافيهم هناك ومدارسهم وجامعاتهم بالضروري من الطاقة الكهربائية والدواء وتيسير الأمر لأبنائهم في المهاجر بإعفاءات يجلبون بموجبها كل ما يعين ذويهم في قراهم تلك .وربما تتولد أفكار أكبر للبدء في (بندرة الريف) لإعادة الإنتاج الزراعي والحيواني إليه مع التمتع بضرورات الحياة العصرية . لعل ذلك أقل تكلفة من تكدس الحواضر الكبرى بلاء طائل ومن مؤونة توفير الطاقة والأمن فيها. وقد سرتني رؤية فيديو متداول لقرية ( كبر نارتي) في الشمالية كتب من قام بتوزيعها عنواناً لها : (كبرنارتي تستحي منها الخرطوم) لنظافتها وتخطيطها .فقلت لماذا لا يشمر الشباب السواعد لفعل نافع كذلك في كل أريافنا. وكانت الحكومة الاسبانية قد خصصت حوافز لمواطنيها بالتوجه للعيش في الريف.
قريتنا السدر تبعد نحو سبعين كيلومتراً من كريمة علي الضفة الشرقية والوصول إليها بالبر علي ظهور الشاحنات (اللواري ) أيسر رغم وعورة الطرق التي لم تزفت في ذلك الوقت، لكن أهلنا كانوا يحصلون علي تصاريح سفر مجانية حتي قرية مورة وهي محطة زاخرة يومئذ، فكانوا يفضلون ضياع يوم كامل علي متن الباخرة ،علي السفر علي ظهور اللواري لساعتين أو ثلاث. أما أهل الغريبة بالضفة الغربية فلعله الأيسر بالنسبة إليهم الباخرة فبها يوفرون مشقة الانتقال إلي الضفة الغربية بالعبّارة (البنطون) إلي مروي ثم البحث عن اللواري إليها .فكانت (بابور البحر) هي الوسيلة الأنسب. وبابور تعني الباخرة والقطار الذي يعمل بالبخار والبحر هنا لتمييز الباخرة عن القطار وهي كلمة عثمانية تركية لعلها تصحيف لكلمة (فيبر) الفرنجية التي تعني البخار.
قال كنا نقطع المسافة بين قريتنا الغريبة وبين كورتي وهي نحو أربع إلي خمس كيلومترات علي ظهور الحمير أو مشياً علي الأقدام .والغربية كما يقول الأستاذ بابكر ، هي أول قرية تتبع لعمودية كورتي ولنظارة البديرية من جهة الشمال وتمثل الحد الفاصل بين ديار البديرية و ديار الشايقية حيث ساير التقسيم الإداري هذا التقسيم القبلي، وهو ديدن المستعمر يومئذ، فجعلها في نظارة البديرية التي كان يرأسها الناظر محمد أحمد أبوشوك في قنتي. وقد أورد البروفسور المؤرخ أحمد إبراهيم أبوشوك في سفره القيم عن العمدة أحمد عمر كمبال تفاصيل مهمة عن تداول الإدارة في هذه المنطقة ففي البدء كانت أمبكول هي مركز ادارة المنطقة الغربية للنيل من حدود مملكة الدفار. والتغيرات الإدارية في هذه المنطقة أحدثت بعض الالتباس بخصوص مكوناتها الإثنية .فمثلا أطلق الحكم التركي المصري علي المنطقة الممتدة من مروي شمالاً اسم مديرية دنقلاً ،فكانوا يطلقون علي كل من انتسب لتلك المنطقة التي تضم الشايقية والبديرية والركابية كلمة "دنقلاوي" مع ان كثرة من سكانها لم تكن لهم صلة بدنقلا. أو بالمتحدثين باللغة النوبية السائدة في منطقة دنقلا العرضي وما وراءها . والنازحون الأوائل الذين استقر بهم المقام في القطينة والكوه وود الزاكي وغيرها إن سألتهم عن قبائلهم قالوا لك "نحن دناقلة" ومن أولئك سكان حلة الدناقلة شرق ود مدني وهم بديرية من دنقلا العجوز (الغدار). تغير الحال حسب التقسيم الاداري اللاحق فأصبح سكان منحني النيل حتي الغابة يعدون (شايقية) حسب اللهجة والثقافة وهي بالفعل متطابقة تماماً. لكنهم حقاً من الناحية الإثنية ينتمون لقبائل عديدة فهم شايقية وبديرية وركابية وكبابيش وهواوير وحلنقة وحسانية.
قلت ،عندما عددت اسم البواخر التي تمخر عباب النيل علي أيامنا كما بينت بأعلاه ، ذكر بابكر باخرة "جكسيم باشا" التي حملت اسم مفتش مركز مروي آنئذٍ جاكسون باشا. واستطرد بأنه لا يزال يذكر وهو تلميذ في مدرسة كورتي الأولية عندما زارها الحاكم العام المستعمر البريطانيي السير روبرت جورج هاو (شغل المنصب١٩٤٧-١٩٥٤).
كانت مدرسة كورتي الأولية قد تأسست في العام ١٩٣٣ وكانت تقع علي ضفة النيل لكن فيضان ١٩٤٦ الشهير دمر مبانيها تماماً فأقاموا مكانه عرائش من البروش( السعف ) ريثما تبني من جديد. فبنيت واكتمل بناؤها عام ١٩٤٨ بعيدا عن موقعها القديم وعن النيل بناء حسناً ،فجاء الحاكم العام بنفسه لافتتاح ذلك البناء. قال الأستاذ بابكر :"كنت قد التحقت بالمدرسة ذات العام . وحتي نتهيأ للمناسبة الكبيرة جمعنا في طابور الصباح ناظر المدرسة و قال لنا تعرفون طير البقر ؟ قلنا نعم ." وهو من الطيور المهاجرة التي تفد علي المنطقة في الشتاء مع طيرة أم قيردون أو القينقرد . وأم قيردون أو القينقرد حظيت دونها بحفاوة عجيبة في بوادي السودان وأحاطت بمقدمها الأساطير لا أدري ولماذا: (دودك ورد يا القينقرد وبحرك شرد يا القينقرد.) وقال الشاعر ود كدكي يصف إفساد الفيضان للبرسيم: "خلاه جلاليق انهرد بس غايتو بخت القينقرد" أي من فرط فساده غزته الديدان وهي طعام ذلك الطائر ! غني آخرون بأنغام :(ام قيردون الحاجة الكل صباحا لاجا، قاعده في ضليله تذبح في سخيله! ) .
وطائر البقر طائر جميل أبيض اللون كان يصعد علي ظهور الأبقار. ثم واصل السيد الناظر القول: الحاكم العام جاي لازم تكونوا مثل طير البقر ! أي نظافة وهنداماً في الزي الأبيض ،حيث كان الزي المدرسي سروالاً يتدلي بعد الركبة بقليل وعراقي من الدبلان الأبيض يقال له (دبلان فاروق) فقد كان يأتي هدية من الملك فاروق في مصر كل عام. وظل الناظر يكرر سيرة طير البقر أياماً حتي يوم مجيء الحاكم العام، تذكيرا بالعناية بالمظهر اللائق ذلك اليوم.
وصل الحاكم العام علي متن الباخرة "جكسيم باشا " وكانت باخرة في غاية الجمال وكان الناس يغنون لها:
جيكسم باشا أم رتاين
حسيسا يتور النايم
لكنها كانت بطيئة. نزل الحاكم العام من الباخرة في كامل زينته وكانت من قماش الكاكي مطابقة لزي كماسرة ومفتشي السكة حديد والضباط الإداريين في ذلك الوقت وكانت رداء( نصف بنطال ،شورط ) وجوارب طويلة بنفس اللون حتي منتصف الساق في احداها يقبع (كدوسه)،غليونه وعلي الرأس قبعة مزينة بصوف و تحيط به مجموعة من (الخواجات).امتطي صهوة جواد ليصل إلي باحة المدرسة حيث أوقفونا صفاً وألقي الحاكم العام فينا كلمة باللغة الانقليزية التي كنا نجهلها في تلك السن وكان بعض المعلمين يحسنونها مثل الأساتذة عثمان سوار الدهب و أحمد عثمان حمري الذي تعلم في بخت الرضا وعبدالحليم القاضي لكن الذي تولي الترجمة كان هو السير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري وكان يجيد العربية بلهجة مصرية. لا زلت أذكر جيدا ما قاله : "الحاكم العام بقولكم إن شاء الله....تدخلون المدرسة (القديدة) ..." و لا أذكر بقية كلامه... ثم أمرنا بالدخول إلي الفصول حيث خصص مقعد للحاكم العام جلس عليه بينما انتشر بيننا عدد من طاقمه يكتبون كل كلمة تقال يسبرون جدوي طرق التدريس. والمدرسة الجديدة كانت جميلة بحق وكانوا يصرفون لنا كل شيء الكتب والكراسات ومحبرة وريشة.
ومن المعلمين الذين تولوا التدريس في المدرسة ذكر منهم الأستاذ بابكر من تقدم ذكرهم . أما الأستاذ شمس العلا التهامي فقد كان يتردد علي المدرسة لماماً إذ لم يكن ضمن طاقم التدريس الدائم حيث كان ناظرا لمدرسة الدبة الصغرى.
ونظراً لقلة المدارس كانت مدرسة كورتي الأولية تستقبل تلاميذ من شتي أصقاع المنطقة فقد كان معنا تلاميذ من قنتي منهم علي ابنعوف، محمد الأمين محمد النور (أصبح مهندساً). وأحد أبناء الناظر أبو شوك لا أذكر اسمه ومن الضفة الشرقية للنيل كان هناك تلاميذ من الكرفاب منهم محمد أحمد عبدو كاشف وكان والده من كبار تجار المنطقة المعروفين وتلاميذ من مورة أحدهم اسمه الأخير جانقبة أظنه أحد أبناء العمدة ، عمدة عمودية كوري الممتدة من النافعاب والركابية عبر مورة والسدر إلي ساب قرية كوري، سليمان جانقبة . ومن جزيرة مساوي سرالختم جاويش وأحمد جدعة. وفي يوم الخميس وكانوا يسمونه يوم (المرويح ولعله من الرواح حيث تعقبه عطلة الجمعة)،كان بعض المشاغبين ونحن في طريق العودة للقرية يحرضون التلاميذ للتباري في الصراع وكان الضحايا المنهزمين في الصراع من صغار السن أو ضعاف الأجسام. ومن زملائي من الغريبة كان حسن محمد خير وكان مطلعاً متقدما علينا جدا فقد كان يحدثني عندما قبلنا في المرحلة المتوسطة عن مجلة تشبه مجلة "الرسالة" في الشهرة يكتب فيها كتاب من المشاهير ذكر لي منهم سهيل ادريس (الكاتب اللبناني مؤلف الرواية المشهورة ، الحي اللاتيني). وكذلك من أبناء قريتنا الغريبة ،عبدالسلام الصادق، وحسن عثمان مالك وهو ابن عم قريبنا علي الحسن مالك المذيع والمعلق الرياضي المعروف وعثمان عبد السلام ، وصديق حسن الحسين. والخليفة هاشم إلياس وسعيد أحمد سعيد الجزار وابن عمه عوض وداعة الله الجزار. حامد حسن الصافي وعمر محمد عثمان حسين وعزالدين حمري وعثمان حسن الحسين.
وعن الغريبة يحدثنا بابكر عن خلوتها المشهورة رغم أنه لم يلتحق بها . كانت خلوة يفد إليها الطلاب من أريتريا، ومن تشاد ونيجريا وكانت الأسر ميسورة الحال في القرية تتكفل بإعاشة طالب من أولئك. كانوا يسكنون في الخلوة لكنهم يمرون علي بيوت كافليهم صباحاً لأخذ وجباتهم منها .أما شيوخ الخلوة الذين أدركناهم فهم شيخنا ود صديق و شيخنا سرالختم . و كان أكبر عدد من طالبي حفظ القرآن الكريم يأتون من منصوركتي و يطلقون عليهم في القرية اسم العقّابة (أي من يعبرون عقبة تفصل منصوركتي عن الغريبة) منهم ود السيد الذي حفظ في عام واحد وود الراجل .
وعن كورتي يحدثنا بابكر عن سوقها العظيمة وكان عمدتها عمر كمبال قد تنازل لابنه أحمد عمر كمبال عن العمودية بعد أن كبر. كان يأتي إلي السوق فيوضع له كرسي أمام دكان ابنه العمدة أحمد .وقد وصف بابكر العمدة أحمد عمر كمبال بأنه كان شهماً مهاباً بساماً فارعاً فاتح السمرة يحظى باحترام ومحبة الناس وهو والد الدكتور صلاح كمبال صاحب الصيدلية المعروفة وسط الخرطوم قرب المحطة الوسطي. وكان في سوق كورتي مطعم للفول الجيد والخبز المصنوع من القمح البلدي في زمان لم يكن فيه الفول طعاماً راتبا كما هو اليوم. ومن تجارها أيضاً يقول "عمنا وقيع الله وكان في آخر سلسلة المتاجر في السوق كذلك دكان عمنا عثمان النقيب رحمه الله وهو من أهلنا الجنيداب." وممن ذكر الأستاذ بابكر من أهل الغريبة ممن عرفنا في حي السجانة في الخرطوم ،عمنا الشيخ الفاضل الحافظ عبدالغني الذي كان إماماً لمسجد الشايقية رحمه الله وكذلك الأخ العزيز عبد السلام الصادق أمد الله في عمره والأخ المغفور له بإذن الله بابكر أبو جاره.
جزي الله الأستاذ بابكر عثمان جنيد خير الجزاء وبارك في عمره وبارك في أعمار من ذكر من أسماء وانزل شآبيب الرحمة علي من باتوا في جواره و نسأله تعالي أن يشملهم برحمته الواسعة وغفرانه.
في أنس عابر مع الأخ العزيز الأستاذ بابكر الجنيد أو بابكر الحاج كما يحلو لأهله وذويه ،ناس الغريبة في محلية مروي بالولاية الشمالية أن ينادوه ،ذكرنا أيام زمان وكلانا مسكون ب(نستالجيا )أبت أن تفارقنا بل و تزداد ضراوة كلما شط بنا النوي فرسخاً، ويستيقظ شيطان الحنين تغلغلاً وعمقاً في جوانحنا فنرتاع لمجرد الإحساس بأن البون قد اتسع وأن النجعة قد ازدادت بعداً عن مساقط رؤوسنا الحبيبة ، تلك البقاع ، قيض الله لها من يحفظ حقها ويجود عليها بما تستحق من التجلة واليسر والعيش الرغيد وما ذلك علي الله بعزيز!
الأخ بابكر محاسب وإداري- دبلوماسي انتسب لوزارة المالية في صباه الباكر ثم انتدب للعمل في وزارة الخارجية كما جرت وتجري العادة وانتقل للعمل محاسباً في بعثة السودان الدائمة في نيويورك وعاصر فترات حية من تاريخ البعثة والسودان هناك. ولعل أحد النابهين من ناشئة السلك الدبلوماسي أو من غيرهم يجلس إليه وإلي غيره من ذوي الصلة بالبعثة من أمثال المرحوم أمين عبد الصمد رحمه الله الذي عمل مديراً لمكتبة الأمم المتحدة كما عمل في البعثة، لإعداد دراسة أكاديمية تؤرخ لتلك الفترات سيما وأن جل أبطالها علي قيد الحياة. يقيني أن مثل تلك الدراسة ستحظى بالاهتمام لتاريخها لفترة حية من تاريخ السودان بعد الاستقلال ويلزم إجراء دراسات مماثلة لها ,في بعثات السودان في دول كان السودان محط اهتمامها كمصر والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. هذه الدراسات ستؤرخ لعمل الدبلوماسية السودانية في عواصم مهمة وستسهم في تفهم أعمق لعلاقات تلك الدول بالسودان و تعين واضعي السياسة الخارجية إزاء تلك الدول ما يلزم استصحابه من ذلك .
الأستاذ بابكر لم يبتعد عن البعثة كثيراً فبعد التقاعد عمل فيها ضمن طاقمها المحلي لسنوات ثم أقام في كوينز في نيويورك الكبرى.
قلت ، الأستاذ بابكر مسكون بحب القرية غادرها جسدا في شبابه وبقيت تنبض بالحياة في جوانحه حتي يوم الناس هذا تطربه أهازيجها و تشجيه مدائحها ونغمات طنابيرها كلما أرهف السمع ساعة صفاء للذي يناجي حتي رمال الحلة الصماء المفجوعة بانفضاض سامر أبنائها :(يا رمال حلتنا زولاً كان بآنسك يا حليلو يا حليلو..) فيخال نفسه ذلك الزول المفقود وربما غشيته لذلك كآبة من تأنيب الضمير وخالطت تلك الكآبة حسرات، وما دري أن المفقودين أزوال وأزوال يملؤون السهل والجبل!
لذلك فهو قارئ نهم يقرأ كل ما كتب ويكتب عن تلك المنطقة الساحرة كأنما يعزي النفس بذلك الفقد الجلل ، فقد المكان والأحبة. ذكر لي أن أباه عثمان جنيد كان يملك مكتبة حسنة وبدا لي أنا، أنه كان رجلاً مستنيراً ميسور الحال إذ حج عدة مرات وسافر إلي البحرين وأفغانستان. ولصعوبة الحج قديما أطلق عليه أهل الغريبة (الحاج) فأصبحت علماً دالاً عليه مكان عثمان فكان ابنه، بابكر هو بابكر الحاج بينما غلبت علي التسمية الرسمية ،بابكر عثمان جنيد. وعشيرتهم في القرية تعرف بالجنيداب. قال لي لا أدري من أين جاءت نيويورك بهذا الالف واللام فأصبحت بابكر الجنيد!. وأصبح اسمه في البعثة وخارجها (مستر جي). أرسله أبوه الذي أقام في الخرطوم إلي الغريبة ليلتحق بالمدرسة في كورتي وخلع عليه كسوة فخيمة، (بالطو) وجزمة برباط . لكن ناظر المدرسة الأستاذ الشيخ أحمد كير ويعرف بود كير ،حرمه من التنعم بكلتيهما محافظة علي الزي العام أو وربما تلطفاً بمن لا يملكون مثلما يملك. وأضاف الناظر إلي التحذير الحازم قرصة مؤلمة في الأذن فكان لا يعاقب بأقسي منها ، رحمه الله. طلب مني محذراً "يا ود الغريبة تاني ما تجي بالقفطان دا" الزي المطلوب سروال أبيض وقميص أبيض. وكذلك منعني، يقول بابكر، من المجئ بالجزمة . تركت البالطو وأبدلت الجزمة بجزمة باتا التي كانت تصنعها شركة باتا البريطانية من القماش ، فمنعني من المجئ بها كذلك. وطلب مني التوجه لود فايت في سوق كورتي ليصنع لي حذاء من الجلد (مركوب) وبعد ذلك أمرني أن أذهب لمناصر لخياطته ودهنه بالقطران! قال" لم تكن وجبة الفطور في المدرسة ضمن وجباتنا اليومية (لعلهم كانوا يتناولون شيئا في بيوتهم قبل التوجه إليها)لكن أبي كان ينعم عليّ ب (تعريفة) وهي نصف القرش، كنت أدخرها ليوم السوق في كورتي لشراء قرعة ترمس أو جرمة مسلوقة". قال منحني عمنا المرحوم حمزة بشير كمبال وهو أحد أثريا كورتي وكان له دكان في سوقها ، قرشاً قال لي اشتري به شمامة .وكان الشمام يكثر في فصل الشتاء. كان أهلنا نحن يسمونه (القاعون). لا أدري إن كانت تركية فقد وجدتها في المورد للبعلبكي في مقابل كلمة (ميلون) بالإنقليزية: قاؤون! كذلك سادت في قرانا ذاك الزمان كلمة (بناضوره) للطماطم وهي كلمة إيطالية تسود في الشام بدوله الأربع(بنادورة) . تري كيف ضلت طريقها إليهم وإلينا؟
ذكرنا في أنسنا ذاك البواخر النيلية التي أدركتها أنا : الزهرة أو لعها الزهراء لا أدري و هي الأقرب لنَفس المنطقة فجداتنا وعماتنا وخالاتنا يغلب عليهن تسمية الزهراء ،سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت محمد النبي رضي الله عنها وصلي وسلم علي أبيها المصطفي، فالزهرة عندنا ،نوارة وإن اكتملت ، و هناك كانت الجلاء وكربكان. وكان القطار وتلك البواخر أكثر ما يستهوينا في السفر إلي قرانا التي هجرها الأهل إلي حواضر السودان المختلفة يلتمسون فيها الرزق الحلال ثم يُهرعون إليها فرحين كل عام مرة لحصاد التمر وللقاء الأحبة الذين تركوهم هناك ونأوا عنهم فأطلق أولئك عليهم تسمية غريبة : (ناس السكة والسكي بالإمالة!) أي أولئك الذين هجرونا لأماكن نائية يستعصي الوصول إليها إلا بواسطة السكك الحديدية! فغدت وسيلة التنقل بين قراهم ومهاجرهم اسماً دائماً يعرفون به . وأهل المنطقة تغربوا قبل مجئ السكة حديد إلي السودان مرات عديدة بسبب الحروب أحياناً وبسبب الجدب والسنين العجاف أحايين أخر، فانداحوا في ربوع السودان الفسيح فأسسوا أو ساهموا في تأسيس قري وحواضر في الشرق والغرب والوسط بما بعضه معلوم للكافة . ويروي البروفسور عبد الله الطيب عن الدكتور مندور المهدي والأخير ابن من أبناء المنطقة مدار هذا الحديث ،أن في احدي السنين العجاف ضاق الحال بالناس فهاجر بعضهم إلي صعيد السودان البعيد تاركين نخيلهم وديارهم وبعد حين عاد الرخاء للمنطقة فقال شاعر المقيمين منهم يغايظ أولئك الذين تعجلوا بالرحيل :
التمر شال فدع الجريد و ا مغصة (مغص) الضرب الصعيد!
والضرب في الأرض من فصيح اللغة ورد في التنزيل في أكثر من موضع.
وقد قرأت قبل أيام في هذه الوسائط تحذيرا لناصح أمين حذر فيه أهل الحواضر الكبيرة الذين شرعوا في بيع عقاراتهم التي أفنوا خيرة أيامهم في تشييدها ، من مغبة ذلك بالتوجه بحصيلة ذلك إلي القاهرة أو إستنبول هرباً من حال السودان الذي بلغ حداً من الشدة لا يطاق ، ونصحهم بأن يعتصموا بقراهم في السودان بديلاً عن تلك الهجرة المحفوفة بالمخاطر والتي سرعان ما تقضي علي ثمن ما قبضوه من بيع عقاراتهم .فبالهجرة إلي الداخل، إلي قراهم ، يحتفظوا بعقاراتهم حتي تنجلي الأزمات ويعودوا بعدها إن شاءوا إلي حيث كانوا. قلت حبذا لو أعانهم المركز ببعض محفزات ترجح عندهم خيار الهجرة إلي قراهم بتزويد مشافيهم هناك ومدارسهم وجامعاتهم بالضروري من الطاقة الكهربائية والدواء وتيسير الأمر لأبنائهم في المهاجر بإعفاءات يجلبون بموجبها كل ما يعين ذويهم في قراهم تلك .وربما تتولد أفكار أكبر للبدء في (بندرة الريف) لإعادة الإنتاج الزراعي والحيواني إليه مع التمتع بضرورات الحياة العصرية . لعل ذلك أقل تكلفة من تكدس الحواضر الكبرى بلاء طائل ومن مؤونة توفير الطاقة والأمن فيها. وقد سرتني رؤية فيديو متداول لقرية ( كبر نارتي) في الشمالية كتب من قام بتوزيعها عنواناً لها : (كبرنارتي تستحي منها الخرطوم) لنظافتها وتخطيطها .فقلت لماذا لا يشمر الشباب السواعد لفعل نافع كذلك في كل أريافنا. وكانت الحكومة الاسبانية قد خصصت حوافز لمواطنيها بالتوجه للعيش في الريف.
قريتنا السدر تبعد نحو سبعين كيلومتراً من كريمة علي الضفة الشرقية والوصول إليها بالبر علي ظهور الشاحنات (اللواري ) أيسر رغم وعورة الطرق التي لم تزفت في ذلك الوقت، لكن أهلنا كانوا يحصلون علي تصاريح سفر مجانية حتي قرية مورة وهي محطة زاخرة يومئذ، فكانوا يفضلون ضياع يوم كامل علي متن الباخرة ،علي السفر علي ظهور اللواري لساعتين أو ثلاث. أما أهل الغريبة بالضفة الغربية فلعله الأيسر بالنسبة إليهم الباخرة فبها يوفرون مشقة الانتقال إلي الضفة الغربية بالعبّارة (البنطون) إلي مروي ثم البحث عن اللواري إليها .فكانت (بابور البحر) هي الوسيلة الأنسب. وبابور تعني الباخرة والقطار الذي يعمل بالبخار والبحر هنا لتمييز الباخرة عن القطار وهي كلمة عثمانية تركية لعلها تصحيف لكلمة (فيبر) الفرنجية التي تعني البخار.
قال كنا نقطع المسافة بين قريتنا الغريبة وبين كورتي وهي نحو أربع إلي خمس كيلومترات علي ظهور الحمير أو مشياً علي الأقدام .والغربية كما يقول الأستاذ بابكر ، هي أول قرية تتبع لعمودية كورتي ولنظارة البديرية من جهة الشمال وتمثل الحد الفاصل بين ديار البديرية و ديار الشايقية حيث ساير التقسيم الإداري هذا التقسيم القبلي، وهو ديدن المستعمر يومئذ، فجعلها في نظارة البديرية التي كان يرأسها الناظر محمد أحمد أبوشوك في قنتي. وقد أورد البروفسور المؤرخ أحمد إبراهيم أبوشوك في سفره القيم عن العمدة أحمد عمر كمبال تفاصيل مهمة عن تداول الإدارة في هذه المنطقة ففي البدء كانت أمبكول هي مركز ادارة المنطقة الغربية للنيل من حدود مملكة الدفار. والتغيرات الإدارية في هذه المنطقة أحدثت بعض الالتباس بخصوص مكوناتها الإثنية .فمثلا أطلق الحكم التركي المصري علي المنطقة الممتدة من مروي شمالاً اسم مديرية دنقلاً ،فكانوا يطلقون علي كل من انتسب لتلك المنطقة التي تضم الشايقية والبديرية والركابية كلمة "دنقلاوي" مع ان كثرة من سكانها لم تكن لهم صلة بدنقلا. أو بالمتحدثين باللغة النوبية السائدة في منطقة دنقلا العرضي وما وراءها . والنازحون الأوائل الذين استقر بهم المقام في القطينة والكوه وود الزاكي وغيرها إن سألتهم عن قبائلهم قالوا لك "نحن دناقلة" ومن أولئك سكان حلة الدناقلة شرق ود مدني وهم بديرية من دنقلا العجوز (الغدار). تغير الحال حسب التقسيم الاداري اللاحق فأصبح سكان منحني النيل حتي الغابة يعدون (شايقية) حسب اللهجة والثقافة وهي بالفعل متطابقة تماماً. لكنهم حقاً من الناحية الإثنية ينتمون لقبائل عديدة فهم شايقية وبديرية وركابية وكبابيش وهواوير وحلنقة وحسانية.
قلت ،عندما عددت اسم البواخر التي تمخر عباب النيل علي أيامنا كما بينت بأعلاه ، ذكر بابكر باخرة "جكسيم باشا" التي حملت اسم مفتش مركز مروي آنئذٍ جاكسون باشا. واستطرد بأنه لا يزال يذكر وهو تلميذ في مدرسة كورتي الأولية عندما زارها الحاكم العام المستعمر البريطانيي السير روبرت جورج هاو (شغل المنصب١٩٤٧-١٩٥٤).
كانت مدرسة كورتي الأولية قد تأسست في العام ١٩٣٣ وكانت تقع علي ضفة النيل لكن فيضان ١٩٤٦ الشهير دمر مبانيها تماماً فأقاموا مكانه عرائش من البروش( السعف ) ريثما تبني من جديد. فبنيت واكتمل بناؤها عام ١٩٤٨ بعيدا عن موقعها القديم وعن النيل بناء حسناً ،فجاء الحاكم العام بنفسه لافتتاح ذلك البناء. قال الأستاذ بابكر :"كنت قد التحقت بالمدرسة ذات العام . وحتي نتهيأ للمناسبة الكبيرة جمعنا في طابور الصباح ناظر المدرسة و قال لنا تعرفون طير البقر ؟ قلنا نعم ." وهو من الطيور المهاجرة التي تفد علي المنطقة في الشتاء مع طيرة أم قيردون أو القينقرد . وأم قيردون أو القينقرد حظيت دونها بحفاوة عجيبة في بوادي السودان وأحاطت بمقدمها الأساطير لا أدري ولماذا: (دودك ورد يا القينقرد وبحرك شرد يا القينقرد.) وقال الشاعر ود كدكي يصف إفساد الفيضان للبرسيم: "خلاه جلاليق انهرد بس غايتو بخت القينقرد" أي من فرط فساده غزته الديدان وهي طعام ذلك الطائر ! غني آخرون بأنغام :(ام قيردون الحاجة الكل صباحا لاجا، قاعده في ضليله تذبح في سخيله! ) .
وطائر البقر طائر جميل أبيض اللون كان يصعد علي ظهور الأبقار. ثم واصل السيد الناظر القول: الحاكم العام جاي لازم تكونوا مثل طير البقر ! أي نظافة وهنداماً في الزي الأبيض ،حيث كان الزي المدرسي سروالاً يتدلي بعد الركبة بقليل وعراقي من الدبلان الأبيض يقال له (دبلان فاروق) فقد كان يأتي هدية من الملك فاروق في مصر كل عام. وظل الناظر يكرر سيرة طير البقر أياماً حتي يوم مجيء الحاكم العام، تذكيرا بالعناية بالمظهر اللائق ذلك اليوم.
وصل الحاكم العام علي متن الباخرة "جكسيم باشا " وكانت باخرة في غاية الجمال وكان الناس يغنون لها:
جيكسم باشا أم رتاين
حسيسا يتور النايم
لكنها كانت بطيئة. نزل الحاكم العام من الباخرة في كامل زينته وكانت من قماش الكاكي مطابقة لزي كماسرة ومفتشي السكة حديد والضباط الإداريين في ذلك الوقت وكانت رداء( نصف بنطال ،شورط ) وجوارب طويلة بنفس اللون حتي منتصف الساق في احداها يقبع (كدوسه)،غليونه وعلي الرأس قبعة مزينة بصوف و تحيط به مجموعة من (الخواجات).امتطي صهوة جواد ليصل إلي باحة المدرسة حيث أوقفونا صفاً وألقي الحاكم العام فينا كلمة باللغة الانقليزية التي كنا نجهلها في تلك السن وكان بعض المعلمين يحسنونها مثل الأساتذة عثمان سوار الدهب و أحمد عثمان حمري الذي تعلم في بخت الرضا وعبدالحليم القاضي لكن الذي تولي الترجمة كان هو السير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري وكان يجيد العربية بلهجة مصرية. لا زلت أذكر جيدا ما قاله : "الحاكم العام بقولكم إن شاء الله....تدخلون المدرسة (القديدة) ..." و لا أذكر بقية كلامه... ثم أمرنا بالدخول إلي الفصول حيث خصص مقعد للحاكم العام جلس عليه بينما انتشر بيننا عدد من طاقمه يكتبون كل كلمة تقال يسبرون جدوي طرق التدريس. والمدرسة الجديدة كانت جميلة بحق وكانوا يصرفون لنا كل شيء الكتب والكراسات ومحبرة وريشة.
ومن المعلمين الذين تولوا التدريس في المدرسة ذكر منهم الأستاذ بابكر من تقدم ذكرهم . أما الأستاذ شمس العلا التهامي فقد كان يتردد علي المدرسة لماماً إذ لم يكن ضمن طاقم التدريس الدائم حيث كان ناظرا لمدرسة الدبة الصغرى.
ونظراً لقلة المدارس كانت مدرسة كورتي الأولية تستقبل تلاميذ من شتي أصقاع المنطقة فقد كان معنا تلاميذ من قنتي منهم علي ابنعوف، محمد الأمين محمد النور (أصبح مهندساً). وأحد أبناء الناظر أبو شوك لا أذكر اسمه ومن الضفة الشرقية للنيل كان هناك تلاميذ من الكرفاب منهم محمد أحمد عبدو كاشف وكان والده من كبار تجار المنطقة المعروفين وتلاميذ من مورة أحدهم اسمه الأخير جانقبة أظنه أحد أبناء العمدة ، عمدة عمودية كوري الممتدة من النافعاب والركابية عبر مورة والسدر إلي ساب قرية كوري، سليمان جانقبة . ومن جزيرة مساوي سرالختم جاويش وأحمد جدعة. وفي يوم الخميس وكانوا يسمونه يوم (المرويح ولعله من الرواح حيث تعقبه عطلة الجمعة)،كان بعض المشاغبين ونحن في طريق العودة للقرية يحرضون التلاميذ للتباري في الصراع وكان الضحايا المنهزمين في الصراع من صغار السن أو ضعاف الأجسام. ومن زملائي من الغريبة كان حسن محمد خير وكان مطلعاً متقدما علينا جدا فقد كان يحدثني عندما قبلنا في المرحلة المتوسطة عن مجلة تشبه مجلة "الرسالة" في الشهرة يكتب فيها كتاب من المشاهير ذكر لي منهم سهيل ادريس (الكاتب اللبناني مؤلف الرواية المشهورة ، الحي اللاتيني). وكذلك من أبناء قريتنا الغريبة ،عبدالسلام الصادق، وحسن عثمان مالك وهو ابن عم قريبنا علي الحسن مالك المذيع والمعلق الرياضي المعروف وعثمان عبد السلام ، وصديق حسن الحسين. والخليفة هاشم إلياس وسعيد أحمد سعيد الجزار وابن عمه عوض وداعة الله الجزار. حامد حسن الصافي وعمر محمد عثمان حسين وعزالدين حمري وعثمان حسن الحسين.
وعن الغريبة يحدثنا بابكر عن خلوتها المشهورة رغم أنه لم يلتحق بها . كانت خلوة يفد إليها الطلاب من أريتريا، ومن تشاد ونيجريا وكانت الأسر ميسورة الحال في القرية تتكفل بإعاشة طالب من أولئك. كانوا يسكنون في الخلوة لكنهم يمرون علي بيوت كافليهم صباحاً لأخذ وجباتهم منها .أما شيوخ الخلوة الذين أدركناهم فهم شيخنا ود صديق و شيخنا سرالختم . و كان أكبر عدد من طالبي حفظ القرآن الكريم يأتون من منصوركتي و يطلقون عليهم في القرية اسم العقّابة (أي من يعبرون عقبة تفصل منصوركتي عن الغريبة) منهم ود السيد الذي حفظ في عام واحد وود الراجل .
وعن كورتي يحدثنا بابكر عن سوقها العظيمة وكان عمدتها عمر كمبال قد تنازل لابنه أحمد عمر كمبال عن العمودية بعد أن كبر. كان يأتي إلي السوق فيوضع له كرسي أمام دكان ابنه العمدة أحمد .وقد وصف بابكر العمدة أحمد عمر كمبال بأنه كان شهماً مهاباً بساماً فارعاً فاتح السمرة يحظى باحترام ومحبة الناس وهو والد الدكتور صلاح كمبال صاحب الصيدلية المعروفة وسط الخرطوم قرب المحطة الوسطي. وكان في سوق كورتي مطعم للفول الجيد والخبز المصنوع من القمح البلدي في زمان لم يكن فيه الفول طعاماً راتبا كما هو اليوم. ومن تجارها أيضاً يقول "عمنا وقيع الله وكان في آخر سلسلة المتاجر في السوق كذلك دكان عمنا عثمان النقيب رحمه الله وهو من أهلنا الجنيداب." وممن ذكر الأستاذ بابكر من أهل الغريبة ممن عرفنا في حي السجانة في الخرطوم ،عمنا الشيخ الفاضل الحافظ عبدالغني الذي كان إماماً لمسجد الشايقية رحمه الله وكذلك الأخ العزيز عبد السلام الصادق أمد الله في عمره والأخ المغفور له بإذن الله بابكر أبو جاره.
جزي الله الأستاذ بابكر عثمان جنيد خير الجزاء وبارك في عمره وبارك في أعمار من ذكر من أسماء وانزل شآبيب الرحمة علي من باتوا في جواره و نسأله تعالي أن يشملهم برحمته الواسعة وغفرانه.