صندوق باندورا السوداني
عمر العمر
4 December, 2024
4 December, 2024
aloomar@gmail.com
بقلم عمر العمر
أطراف الاقتتال وأنصاره يجفلون من الحقيقة الوحيدة الشاخصة من تحت ركام الحرب ورمادها. فلا أحد يتكهن بموعد نهاية هذه الحرب الآثمة ومَن الخارج منها منتصراً. لكن الجميع يدركون أن الشعب هو الخاسر الأكبر، مثلما يجمعون على تصاعد كلفة فاتورةالحرب كلما اتسع مداها في الزمان والمكان. الحقيقة المغيّبة عمداً عن رؤى أنصار معسكريالحرب خروجهما عن قبول الجماهير بعودة أيٍّ منهما أو هما معاً إلى دست السلطة. قناعاتهما غير المعلنة بهذه الحقيقة ، لاغيرها، تؤجل نهاية الحرب عبر تسوية سلمية.فوقفالنار رهين بارتضاء طرفي الحرب مصيرا عسيرا جوهره خسارةٌ فادحة. استطالة زمن الحربوتوسيع رقعتها يهدف إلى تخفيف وقع تلك الخسارة من خلال استنزاف قوة الشعب بحيثيصبح أدنى إلى القبول بالمساومة أو أبعد عن الرفض والمحاسبة.لكن من المستحيل على الشارع السياسي إغفال إخفاق الجيش عن حماية الدولة والعائلات و تعريض الشعب لحملات التهجير ،التجويع والترهيب .
*****
بغض النظر عن أثقال كفة كل جانب في ميزان الجرائم فالخطيئة المشتركة الكبرى تتجسدفي التواطوء على اقتراف إنقلاب ٢٥ اكتوبر. فهو صندوق باندورا . إذ أطلق كل الشرور الراهنة.فمن عند ذلك المنحنى هبطنا من فردوس الحلم السلمي الديمقراطي إلى جحيمالاحتراب الإثني الجهوي. ذلك الإنقلاب الأحمق أضاع من بين أيدينا مفتاح بوابة حداثية لنهضة تاريخية صممت الجماهير نسقها العام بالبذل ،بالدم والصبر. صحيح لم يكن الشعب قبل الانقلاب الخسيء داخل إطار وحدة التجانس الشامل في الغايات والآليات. لكنه كان متماسكاً داخل ذلك الإطار مشبّعا بطموح الذهاب إلى الأمام نحو الإستقرا ر دوما. فإذا المباغتة تأتي من معقل الحذر الدائم. انقلاب عسكري يلوّح بشعارات راجفة ليس للانقلابيين أنفسهم قناعة بتردادها. تلك المغامرة الغادرة لم تخنق فقط أكمام زهور الثورة ، أوتكتفي بحفر قبور طموحات الثوار ، أو شق أخاديد الفرقة الوطنية ،بل أقحمت الشعب بأسره في هجير الأهوال والتهجير ،كما عرّضت مؤسسات الدولة برمتها إلى التدمير.إنه - الإنقلاب -ردة إلى أسخم المنزلاقات المدمرة في التاريخ السوداني .
*****
أسوأ ما انتجه إنقلاب أكتوبر هو النكوص بالشعب والوطن إلى أرجوحة الإرتداد بينالحاضر والماضي .فلمّا عايش الشعب محنة الضيق في الحياة اليومية إبان سني البشير العجاف - زمن استباحة المال العام واحتكار الامتيازات والقمع الباطش -ظل الشارع ينادي دعاة الإسلام السياسي بإرجاع الوطن إلى ما قبل الإنقاذ. تحت وطأة إحباط ما بعد إنقلاب٢٥ اكتوبر أمسى الشعب ينادي الإنقلابيين بإعادته إلى ماقبل الإنقلاب.بل تمنى البعض الردة إلى زمن الإنقاذ.لم يعد طوال هذه الحقبة من يتطلع إلى بشارات للمستقبل.هذه هيالمحنة في أكثر صورها قتامةً. البؤس يحقق أرقاما قياسية إبان هذه الحقبة الكالحة فثُلُثُ السودانيين في مدارات النزوح وأكثر من الثلثين يكابدون شبح مجاعة ربما تتجاوز حدتها ما يصنفها التاريخ ب(مجاعة سنة ستة) -١٣٠٥ للهجرة- أبشع فواصل الحقبة المهدية.
*****
نعم ،اتسم أداء حكومة حمدوك بالكثير من التردد على المستوى القيادي كما على الصعيدالوطني. نعم لم ينج الأداء العام من الأخطاء لكن التجربة التاريخية أكدت صدق مقولةالسياسي البارع محمد احمد محجوب ؛معالجة اخطاء التجربة الديمقراطية ممارسةُ مزيدمن الديمقراطية.التاريخ شاهدٌ حاضرٌ على سوء دوافع وقصد ونتئج أفعال الإنقلابيين . فكلفة أخطاء حكومة حمدوك لا توازي مثقال ذرة من شرور إنقلاب اكتوبر البغيض. لو تسلّح قليلٌمن الرجال بشيءٍ من الشجاعة لأمكن إحهاض الإنقلاب الأرعن ولأصلحنا حال سلطة الثورةولتفادى البلد النكبة ولتجنب الشعب مهزلة الشتات المبكية و دفن الموتى بين الأنقاض وفي العراءمجردين من الاكفان ومن طقوس الصلاة والبكاء عليهم.
*****
مقارنة بكل مهابط الإنكسار القاتمة في تاريخنا تشكل الحقبة الراهنة المتداعية عن الإنقلاب الآثم أكثرهن قعودا ،فسادا ،إجراماً و توحشاً. في الذاكرة السودانية عدد من المدائن المخربة بأيدينا إبان حقبٍ متباعدة. من ذلك سوبا، أربجي ، الحلفاية و شندي. لكن الإنقلابيين وحدهم خربوا أكثر مما فعل أسلافهم عبر تلك المهابط التاريخية المتباينة. هذا الانقلاب الأسود لم يعطّل فقط حركة الانتاج بل دمّر بُناها التحتية ،الوسطى والفوقية.أكثر منذلك تهتُكاً خرّب دولاب حركة الأجيال بإرباك مسارات الدراسة والتعليم . فرغم قول عدد من المؤرخين ،بينهم محمد عبد الرحيم، بتوقف التعليم بصورة شاملة في عهد المهدية .إلا أن الثابت استبدال المهدي وخليفته دولاب التعليم الاستعماري ب منهاج و ثقافة الثورةالسودانية.
*****
أما عظمُ أزمة شرور انقلاب اكتوبر فيتجسّد في غياب الحد الأدنى من أي رؤية للخروجمن ظلام النفق العتم الخانق حيث حُشر الشعب
نقلا عن العربي الجديد
بقلم عمر العمر
أطراف الاقتتال وأنصاره يجفلون من الحقيقة الوحيدة الشاخصة من تحت ركام الحرب ورمادها. فلا أحد يتكهن بموعد نهاية هذه الحرب الآثمة ومَن الخارج منها منتصراً. لكن الجميع يدركون أن الشعب هو الخاسر الأكبر، مثلما يجمعون على تصاعد كلفة فاتورةالحرب كلما اتسع مداها في الزمان والمكان. الحقيقة المغيّبة عمداً عن رؤى أنصار معسكريالحرب خروجهما عن قبول الجماهير بعودة أيٍّ منهما أو هما معاً إلى دست السلطة. قناعاتهما غير المعلنة بهذه الحقيقة ، لاغيرها، تؤجل نهاية الحرب عبر تسوية سلمية.فوقفالنار رهين بارتضاء طرفي الحرب مصيرا عسيرا جوهره خسارةٌ فادحة. استطالة زمن الحربوتوسيع رقعتها يهدف إلى تخفيف وقع تلك الخسارة من خلال استنزاف قوة الشعب بحيثيصبح أدنى إلى القبول بالمساومة أو أبعد عن الرفض والمحاسبة.لكن من المستحيل على الشارع السياسي إغفال إخفاق الجيش عن حماية الدولة والعائلات و تعريض الشعب لحملات التهجير ،التجويع والترهيب .
*****
بغض النظر عن أثقال كفة كل جانب في ميزان الجرائم فالخطيئة المشتركة الكبرى تتجسدفي التواطوء على اقتراف إنقلاب ٢٥ اكتوبر. فهو صندوق باندورا . إذ أطلق كل الشرور الراهنة.فمن عند ذلك المنحنى هبطنا من فردوس الحلم السلمي الديمقراطي إلى جحيمالاحتراب الإثني الجهوي. ذلك الإنقلاب الأحمق أضاع من بين أيدينا مفتاح بوابة حداثية لنهضة تاريخية صممت الجماهير نسقها العام بالبذل ،بالدم والصبر. صحيح لم يكن الشعب قبل الانقلاب الخسيء داخل إطار وحدة التجانس الشامل في الغايات والآليات. لكنه كان متماسكاً داخل ذلك الإطار مشبّعا بطموح الذهاب إلى الأمام نحو الإستقرا ر دوما. فإذا المباغتة تأتي من معقل الحذر الدائم. انقلاب عسكري يلوّح بشعارات راجفة ليس للانقلابيين أنفسهم قناعة بتردادها. تلك المغامرة الغادرة لم تخنق فقط أكمام زهور الثورة ، أوتكتفي بحفر قبور طموحات الثوار ، أو شق أخاديد الفرقة الوطنية ،بل أقحمت الشعب بأسره في هجير الأهوال والتهجير ،كما عرّضت مؤسسات الدولة برمتها إلى التدمير.إنه - الإنقلاب -ردة إلى أسخم المنزلاقات المدمرة في التاريخ السوداني .
*****
أسوأ ما انتجه إنقلاب أكتوبر هو النكوص بالشعب والوطن إلى أرجوحة الإرتداد بينالحاضر والماضي .فلمّا عايش الشعب محنة الضيق في الحياة اليومية إبان سني البشير العجاف - زمن استباحة المال العام واحتكار الامتيازات والقمع الباطش -ظل الشارع ينادي دعاة الإسلام السياسي بإرجاع الوطن إلى ما قبل الإنقاذ. تحت وطأة إحباط ما بعد إنقلاب٢٥ اكتوبر أمسى الشعب ينادي الإنقلابيين بإعادته إلى ماقبل الإنقلاب.بل تمنى البعض الردة إلى زمن الإنقاذ.لم يعد طوال هذه الحقبة من يتطلع إلى بشارات للمستقبل.هذه هيالمحنة في أكثر صورها قتامةً. البؤس يحقق أرقاما قياسية إبان هذه الحقبة الكالحة فثُلُثُ السودانيين في مدارات النزوح وأكثر من الثلثين يكابدون شبح مجاعة ربما تتجاوز حدتها ما يصنفها التاريخ ب(مجاعة سنة ستة) -١٣٠٥ للهجرة- أبشع فواصل الحقبة المهدية.
*****
نعم ،اتسم أداء حكومة حمدوك بالكثير من التردد على المستوى القيادي كما على الصعيدالوطني. نعم لم ينج الأداء العام من الأخطاء لكن التجربة التاريخية أكدت صدق مقولةالسياسي البارع محمد احمد محجوب ؛معالجة اخطاء التجربة الديمقراطية ممارسةُ مزيدمن الديمقراطية.التاريخ شاهدٌ حاضرٌ على سوء دوافع وقصد ونتئج أفعال الإنقلابيين . فكلفة أخطاء حكومة حمدوك لا توازي مثقال ذرة من شرور إنقلاب اكتوبر البغيض. لو تسلّح قليلٌمن الرجال بشيءٍ من الشجاعة لأمكن إحهاض الإنقلاب الأرعن ولأصلحنا حال سلطة الثورةولتفادى البلد النكبة ولتجنب الشعب مهزلة الشتات المبكية و دفن الموتى بين الأنقاض وفي العراءمجردين من الاكفان ومن طقوس الصلاة والبكاء عليهم.
*****
مقارنة بكل مهابط الإنكسار القاتمة في تاريخنا تشكل الحقبة الراهنة المتداعية عن الإنقلاب الآثم أكثرهن قعودا ،فسادا ،إجراماً و توحشاً. في الذاكرة السودانية عدد من المدائن المخربة بأيدينا إبان حقبٍ متباعدة. من ذلك سوبا، أربجي ، الحلفاية و شندي. لكن الإنقلابيين وحدهم خربوا أكثر مما فعل أسلافهم عبر تلك المهابط التاريخية المتباينة. هذا الانقلاب الأسود لم يعطّل فقط حركة الانتاج بل دمّر بُناها التحتية ،الوسطى والفوقية.أكثر منذلك تهتُكاً خرّب دولاب حركة الأجيال بإرباك مسارات الدراسة والتعليم . فرغم قول عدد من المؤرخين ،بينهم محمد عبد الرحيم، بتوقف التعليم بصورة شاملة في عهد المهدية .إلا أن الثابت استبدال المهدي وخليفته دولاب التعليم الاستعماري ب منهاج و ثقافة الثورةالسودانية.
*****
أما عظمُ أزمة شرور انقلاب اكتوبر فيتجسّد في غياب الحد الأدنى من أي رؤية للخروجمن ظلام النفق العتم الخانق حيث حُشر الشعب
نقلا عن العربي الجديد