صورة الشعب .. وصورة الزعيم

 


 

عادل الباز
28 March, 2011

 


صورة الشعب عند الرؤساء العرب قبل الثورة بطل .. عظيم.. عريق!!! بعد الثورة مندس...  عميل ... جرذ!!!
صورة الزعيم عند الشعوب العربية قبل الرحيل قائد تاريخي... بطل مغوار... حارسنا وفارسنا بعد الرحيل مستبد... فاسد.... خائن
(1)
28/3/2011
تبدع الحكومات في وصف شعوبها قبل أن يأتيها يقين الثورات. فصورة الشعوب عند حكامها زاهية، وأمجادها عظيمة لاتدانيها أمة في المجد، وليس كمثل شعبها شعب. هي شعوب عريقة ذات تاريج مجيد، وشخصيتها فريدة، وهي وحيدة زمانها، ونسيج وحدها!!!.
 انظر لخطابات الرؤساء التي يمجدون فيها الشعوب، تكاد تكون واحدة؛ إذ لايخلو خطاب لرئيس أو زعيم أو قائد من الافتخار بمآثر الشعب المعني، والتغني بأمجاده؛ فغالباً ما تحظى الشعوب بنعوت تُستهل بها خطابات الرؤساء الطويلة والمملة من (أيها الشعب البطل) أو (الشعب العظيم) أو (النشامى الأماجد) وغيرها من النعوت المخاتلة.
ذات الشعب العظيم ما إن يرتفع صوته الذي تم إخراسه لعقود، لينادي (بإسقاط) النظام أو رحيل الزعيم، يتحول لكائن شيطاني بين ليلة وضحاها, يغدو ذات الشعب (البطل) مندس و(عميل) وأخيراً جداً (جرذ). دعني عزيزي القارئ أتأمل معك هذه النعوت التي يسارع الرؤساء والزعماء لدمغ شعوبهم (العظيمة) بها قبل أن يطاردوها (زنقة زنقة)!!.
ما معنى شعب مندس، ما المقصود؟ كيف يصبح الشعب مندساً حين يطالب بحريته؟ في لحظات الخروج بالملايين للشوارع وساحات التغيير وميادين التحرير لا يكون الشعب مندساً، وكيف يندس من يخرج معلناً عن نفسه ثائراً؟ في تلك اللحظات الذي (يندس) ليس هو الشعب إنما هم الحكام والرؤساء, يندسون وراء جدر مصمتة وبروج مشيدة!! لا أفهم حقيقةً كيف يندس الشعب؟ أم أنهم يقصدون أن هنالك فئة مندسة في أوساط الشعب، ولكن من هم أعضاء هذه الفئة؟ هل هم مرتزقة أم أنهم من الشعب، فإذا كانوا مرتزقة؛ فالمرتزقة لا يندسون بل يقاتلون عياناً بياناً في الشوارع والزنقات، وليس بإمكانهم الاندساس أصلاً في أوساط الشعب الثائر؛ لأن الشعب لا يرسل مرتزقة ليندسوا وسطه، فإذا كان هنالك مندسون فهم تابعون لجهات أخرى لا الشعب الثائر!! أما إذا كانوا من الشعب، فلماذا نعتهم بالمندسين كان الأجدى وهو الأصح أن يقولوا إن الشعب كله الثائر هو شعب (مندس)!!
أما ما يحيرني هو نعت الشعب الثائر أنه عميل... عميل لمن؟ لدوائر خارجية، وربما صهيونية، ولكن كيف لشعب كامل أن يصبح عميلاً بين ليلة وضحاها؟ لعلهم يقصدون أن نفراً من الشعب قد غدا عميلاً له أجنداته الخارجية، يحاول أن يمررها عبر الثورة أو التمرد على النظام. هذا مفهوم غير أن هذه التهمة تواجه إشكالات خطرة!! فالاكتشاف المتأخر لهؤلاء العملاء وهم بالآلاف يشي بأن الزعيم أو الرئيس وأجهزته ذات البأس الشديد لا يملكون المعلومات الكافية عن آلاف العملاء!! وهذا ما يصعب تصديقه فأين كانت أجهزة الأمن المتعددة التي يصرف عليها 80% من موازنات الدولة، والعملاء يتكاثرون بالآلاف؟ فإذا كانت تعلم أن هنالك اختراقاً أمنياً بهذا الحجم وسكتت تصبح بذلك هي العميلة المندسة على نظامها!!! أما إذا لم تكن تعلم فتلك مصيبة أعظم.. كيف يمكن لهذه الجحافل التي تم تجنيدها وتمويلها بالمال والسلاح لكشف العملاء تعجز كشف آلاف العملاء وهم يندوسون لإفساد الشعب تحت أبصارهم؟ أكاد لا أصدق، ولا يمكنني ومعاذ الله أن أشكك في كفاءة أجهزة القمع العربية؛ فهذه هي الأجهزة الوحيدة التي لا يمكن التشكيك بكفاءتها في قهر الشعوب!!
إلا أن ماهو مبدع وشكل إضافة حقيقية لذاكرة الشعوب العربية هو وصف عميد الزعماء العرب وملك ملوك أفريقيا العقيد معمر القذافي لشعبه بأنهم (جرذان)!! هذه إضافة مبدعة في نعت الشعوب وتشبه إبداعات عُرف القذافي بها ابتداءً من تسمية جماهيريته لكتابه الأحمر حمرة الدم المسال في صحارى ليبيا ومدنها الباسلة!!.
 أيها القارئ الكريم إذا سمعت أن زعيما أو رئيساً عربياً أدمن التغزل في شعبه؛ فاعلم أنه شعب أليف تم تدجينه فاستكان.. يفعل به الزعيم أو الرئيس ما يشاء، أو أنه شعب أدمن الإذعان محققاً كل مواصفات الخنوع. أما إذا سمعت بأن رئيساً ما، قد وصف شعبه بأنه (جرذ, عميل, خائن, مندس) فاستبشر خيراً، واعلم أن الشعب قد ثار وخرج إلى ساحات التغيير مطالباً بحريته، وإذا سمعت بعد حين، الرصاص يلعلع في سماء المدائن وبدأت مواكب الشهداء، فادرك حينها (أن العملاء والمندسين والجرذان) قد شرعوا في إسقاط النظام!!
........
(2)

نعت الزعماء والرؤساء لشعوبهم بالمندسّين والعملاء والجرذان لم يخرج هكذا للعلن فجأة، فهم غالباً ما يؤمنون بتلك المقالات سراً لسنوات وعقود كانوا فيها على سدة العرش، ولكن لا يصرحون بمشاعرهم الحقيقية إلا ساعة الجد حين حيت (تدق ساعة) الثورة في الميادين العامة. لماذا يحتقر الزعماء والرؤساء شعوبهم؟ لطالما أرّقني هذا السؤال. لم أجد له جواباً ولكني سأجازف بما طاف بخاطري وليعذرني الزعماء والقادة إذا مسّت أو أحرجت خواطري مشاعرهم الرقيقة رقة مشاعر العقيد وحنوّه على شعبه!!.
غالباً مايأتي الزعيم أو الرئيس لسدة الحكم وفساد الزعيم الذي سبقه، وعجرفته واستهتاره قد بلغت مداها، وانتهت مملكته إلى حطام رث، فيأتي القائد الجديد بخطاباته وبياناته الحالمة، ووعوده الجهنمية ليدغدغ أحلام الشعوب ويعبّر عن أشواقها؛ وعليه سرعان ما تسارع الشعوب لتأييده بصورة مذهلة أملاً في غدٍ سعيد بعد أن سامها الأوّلون ألوان العذاب، ولكنها سرعان ما تكتشف أنها أُبدلت قيصر قديم بقيصر جديد، ولحظتها تكون قواها قد انهارت من شدة الإحباط، ساعتها يستأسد الزعيم الجديد ويأتي بما لم يأت بل الأوائل!! فيعيد بناء النظام القديم بصورة أشد وطأةً وقهراً، فيصبر الشعب ولا يتحدث. في هذه المرحلة تصاب الشعوب بفقدان حاستين هما السمع والبصر. والعياذ بالله!!. الخرس أول ما يعتري الشعوب من هول ما رأت من شدة وطأة النظام الجديد... فلا صوت يعلو لها. وبعد حين يفقد الشعب بصره يرى بعين النظام وإعلامه الجهنمي الذي لا يري الشعب إلا ما يرى الزعيم، فتمتلئ صفحات صحفه وأجهزة تلفازه بالزبانية الذين يزينون كل منكر، ويغطون على كل فاحشة وفساد. هكذا يقع الشعب ضحية صورة لواقع زاهٍ ليس على الأرض، إنما في مخيلة الزعيم وسدنته الأقربين. ومن عجبي أن الشعوب تصدق لسنوات وأعوام هذا الوهم اللذيذ، وترضى بالأحلام بديلاً لوقائع حياتها التعيسة، فماذا تفعل تعبت خيولها!! لقد أبدلت بالأمس القريب زعيماً فاسداً بزعيم جديد أشد فساداً وأمضى قهراً.
 الشعوب وهي في استكانتها وحيرتها تلك يغدق عليها الزعيم الألقاب، ويطلق عليها كل النعوت والأوصاف التي تطرب لها, فترقص على أنغامها وطبولها الفارغة، وشعاراتها الممجوجة، وليس في الأمر عجب!! قال الشاعر قديما: (انظر الشعب ديون يوحون إليه ملأ الجو هتافاً بحياة قاتليه). هنا يحصل تناغم عجيب وتنشأ حالة من الرضى على الزعيم، وتبدأ الأناشيد والهتافات التي تمجده، وترفع صوره في الرايات واللافتات، وتتصدر أخباره النشرات، وتخلع عليه الألقاب؛ فهو قائد الأمة وزعيمها التاريخي، وهو باني أمجادها، ورب الأسرة، وكبير العائلة، وهو القائد المقدام والزعيم الهمام!! لقد بدأ نميري حارسنا وفارسنا، وانتهى إلى الإمام مجدّد الدين!! هاهو الزعيم الآن، الكل يسبّح بحمده، ويمجده، ويرفع صورته، ويتغنى بحكمته وأياديه البيضاء على الأمة. هو الزعيم الذي لا تكون الأمة شيئاً مذكوراً من بعده، كما لم تكن من قبله.!! هنا يصدق الزعيم تلك الشعارات والهتافات، ولكن بدلا أن يشكر الشعب (المنافق) تتضخم ذاته، ويشعر بأنه هو فعلاً وحيد زمانه، وخاصة أن الحاشية التي صنعها حوله تنفخ في أمجاده فتنتفج أوداجه، ويدخله شعور واهٍ بالعظمة، فتتغير نظرته للشعب، وبدلاً من أن يبادله حباً بحب يبدأ في مسيرة قهر؛ فالزعماء العرب يدركون بحسّهم التاريخي، وتجربتهم أن الشعب الخانع لا يستحق إلا مزيداً من القهر والاضطهاد، لا شيء خلاف ذلك.
«بيني وبينك» الشعوب تستاهل... تستاهل أن (تاخد) بالجزمة على قفاها، وبالرصاص على صدروها، فهي التي فرعنت رؤساءها الذين من المفترض أنهم خدامها فأصبحوا سادتها!! ألم تخرج الشعوب بالملايين منادية بحياة ذات الزعماء الأشرار؟ ألم تتغنَّ بأمجادهم المزعومة؟ ألم تدمن رفع صورهم، وتردد شعاراتهم حتى بحّت أصواتها؟ لو أن الشعوب من بداية عهدها تضغط وتضرب على يد قادتها أو على الأقل تمحضه النصح لما ساموها سوء العذاب، ولكنها ظلت تنافقهم فتزيّن لهم كل باطل، وتحسن لهم كل قبيح، وهكذا ساهمت في نفخ ذواتهم المتضخمة أصلاً، فطغوا في البلاد وعاثوها فيها الفساد!!
 لماذا تتباكى الشعوب اليوم، وتخرج غاضبة ثائرة على الرؤساء والزعماء، وتخون كل من يواليهم؟ ألم يكونوا بالأمس القريب في مقدمة صفوف المنافقين؟ ذات ساحات التغيير وميادينه الثائرة اليوم شاهدة على هتافتها الممجدة للزعيم!! هنا في الخرطوم ذات النيم الذي هتفوا ورقصوا بأغصائه لعبود والنميري، ثم مالبثوا وحملوه ضدهما في أكتوبر وأبريل!! كتبت من قبل مقالاً عن حيرة النيم (حيّرتو النيم)!! أيتها الشعوب العربية لا تلوموا إلا أنفسكم فالحكمة القديمة تقول: (البِلْد المحن لا بد يلولي صغارن).
 

 

آراء