طريق طويل

 


 

 

ذكر هينري سيسيل جاكسون أحد البريطانيين الذين انخرطوا بالخدمة المدنية في السودان، في العام 1907 "كانت الحمير بنعيقها تستقبل القادمين إليها". أضيف على ما ذكره معاصرةً بعد الحرب وإذا قدر الله أن تنتهي قريباً، فإن مواء القطط وعواء الكلاب الجائعة هي من ستستقبل سكانها. ولسخرية القدر فقد وعد حميدتي بأن العمارات ستسكنها "الكدايس".
تسببت الحرب في تهجير الملايين وتدمير العديد من المدن والقرى، مما أثر بشكل كبير على النسيج الاجتماعي والثقافي للسودان. فقد تضررت المدارس والمستشفيات والمباني الحكومية بشكل كبير، بالإضافة إلى شبكات المياه والكهرباء، مما أدى إلى تفاقم الظروف المعيشية للسكان. وتعرضت العديد من المواقع الأثرية والتاريخية للتدمير أو النهب، مما يشكل خسارة كبيرة للتراث الثقافي للسودان وللعالم. كما أجبرت الحرب الملايين على النزوح من منازلهم، مما أدى إلى أزمات إنسانية حادة. يعيش الكثير من النازحين في ظروف قاسية في مخيمات اللاجئين. علاوة على تعطل الأنشطة الاقتصادية بشكل كبير، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والفقر. تضررت الزراعة والتجارة بشكل خاص. وما تزال الجهود الدولية والإقليمية مستمرة لإحلال السلام وإعادة إعمار ما دمرته الحرب، لكن الطريق طويل وصعب أمام السودان لاستعادة عافيته واستقراره.
فقد طالت الحرب تدمير المتاحف والجامعات إنها ليس مجرد خسارة مادية، بل هو اعتداء على مستقبل الأمم وقدرتها على التعافي والنهضة. هذه المؤسسات ليس لها ذنب في النزاعات العسكرية، بل هي ضحية بريئة تُعاني نتائج قرارات سياسية وعسكرية لا تملك حيالها حيلة. الاعتداء على المتاحف والجامعات هو اعتداء على هوية الشعوب وتراثها، وعلى مستقبل أجيالها في التعلم والمعرفة.
وهذا ما يأخذنا إلى اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان تعاني من دمار شامل في بنيتها التحتية، واقتصادها، ونسيجها الاجتماعي. ومع ذلك، تمكنت اليابان من تحقيق تنمية مذهلة وحققت قفزات هائلة في الاقتصاد والتكنولوجيا خلال العقود التالية. يعود الفضل في ذلك إلى مجموعة من العوامل والاستراتيجيات المتكاملة، يمكن تلخيصها في الإصلاحات الزراعية حيث تم توزيع الأراضي على الفلاحين مما عزز الإنتاج الزراعي ورفع مستويات المعيشة في الريف. كما تبنت اليابان دستور جديد أسهم في استقرار البلاد السياسي. ثم استثمرت اليابان بشكل كبير في نظام التعليم، مما أسفر عن إعداد قوة عمل متعلمة و ماهرة قادرة على تشغيل الصناعات الحديثة والمساهمة في البحث والابتكار. ودعمت الحكومة اليابانية الشركات الخاصة في مجالات البحث والتطوير من خلال سياسات تمويلية وحوافز ضريبية، مما حفز الابتكار والنمو التكنولوجي. واعتمدت سياسات صناعية موجهة من الدولة، حيث ركزت على تطوير صناعات محددة مثل السيارات والإلكترونيات، مما ساعد في بناء قاعدة صناعية قوية ومتنوعة. أضف لذلك ثقافة العمل الجاد، والالتزام، والولاء المؤسسي كانت عوامل أساسية في نجاح اليابان. إضافة إلى قيم الجودة والابتكار المستمر التي تبنتها الشركات اليابانية. بفضل هذه العوامل، تستطيع الدول أن تتحول من دول مدمرة إلى واحدة من أقوى الاقتصاديات العالمية في غضون عدة عقود.
وأقول للذين يروجون عن عدم نهوض السودان من كبوته مرة أخرى بأن رغم جور وطغيان الحكم العثماني في السودان هذا العصر كان مليئًا بالصراعات والتغيرات التي أدت إلى دمار واسع في البلاد ولكن رغم ذلك نهض السودان مرة أخرى. والآن إلى أن تتوقف نيران الحرب فإن القادم سيكون عمراناً ونهضة وتطور لدرء ما صنعته أيدي أبنائها العاقين.

د. سامر عوض حسين
19 يونيو 2024

samir.alawad@gmail.com

 

آراء