عبد الخالق محجوب: لن تحمى ظهرنا سوى مصر !
كان الراحل عبد الخالق محجوب – إتفقنا أو إختلفنا معه – شيوعياً متفرداً ومتميزاً عن بقية قادة الأحزاب الشيوعية فى المنطقة العربية ، فلم يكن بتلك التبعية لموسكو كما كان بعض شيوعيى المنطقة أمثال خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعى السورى وأمثاله حتى حقّ فيهم القول الشهير (يتدثرون بالمعاطف ويفتحون مظلاتهم كلما أمطر الشتاء فى موسكو ) ، وفوق هذا كان ذا علاقة حميمة بعبد الناصر مما أكسبه حنق الشيوعيين العرب الذين صنفوا عبد الناصر برجوازياً صغيراً ، وأكسبه كذلك سخط بعض الليبراليين والمحافظين السودانيين الذين ينتقدون التوجهات القمعية للنظام الناصرى . وفى عام 1957 عقب الإستقلال بعام واحد كتب عبد الخالق رسالة فى شكل مقالات تم جمعها فى كتيب بعنوان (آفاق جديدة ) وأعيد طبعه فى 2005 أى بعد ما يقارب النصف قرن ، وقد إستوقفنى فى الكتاب الفصل الأخير بعنوان (الكفاح المشترك بين الشعبين المصرى والسودانى) .
يقول عبد الخالق فى هذا الشأن : (إذا تحسنت العلاقات المصرية السودانية فُتح الطريق أمام السودان الحر ، وإن ساءت تجمعت كافة العوامل لوضع بلادنا موضع العبودية بالنسبة للإستعمار الأجنبى ، وليس هذا كلاماً عاطفياً ولكنه يستند الى حقائق صلبة ... فهو يستند الى الحقيقة الناصعة التى تقول بأن بلادنا محاطة بمراكز للنفوذ الإستعمارى إلا من حدودها الشمالية ، وإن التهديد لحريتنا يأتى من تلك الإحاطة ولن تحمى ظهرنا سوى هذه الحدود الشمالية التى تحتلها مصر . إن تطوراتنا المرتقبة ستلاقى المعارضة من جانب الإستعماريين وستكون مراكز الإستعمار المحيطة بنا قواعد للضغط والتدخل فإلى أين يلجأ السودان من هذا الوضع ؟ لا منفذ لبلادنا مع هذه الإحاطة الجغرافية سوى مصر . ما هو شكل العلاقات المصرية السودانية الكفيلة واللازمة لصيانة إستقلال السودان من المؤامرات الإستعمارية ؟ إن الميادين الأساسية اللازمة لصيانة إستقلال بلادنا وسيرها فى طريق التطور المستقل مستندة على الروابط المصرية السودانية تتلخص فى الميادين السياسية والإقتصادية والثقافية والعسكرية . فمن ناحية الوضع السياسى أرى أن يستهدف الكفاح المشترك بين شعبينا الإرتباط بسياسة خارجية موحدة ضد الأحلاف العسكرية مع الدول الإستعمارية .. سياسة خارجية تحدد علاقة السودان بأفريقيا بكونه الصلة بين حركة التحرر الوطنى فى الشرق العربى وبين شعوب أفريقيا ، هذا الإرتباط يكون فى شكل معاهدة ثابتة تعقدها لجنة مشتركة بتمثيل متساو بين الجمهوريتين . ويدعم هذه المعاهدة معاهدة أخرى للدفاع المشترك بحيث يعتبر أى إعتداء على طرف هو إعتداء على الجانب الآخر ، وبالمثل توقع معاهدات وتشكل لجان عليا فى الميدان الإقتصادى والثقافى . هذا إقتراح قد يكون غير محكم ولكنه يمثل إتجاهاً عاماً. وبالطبع لن يُضمن إستمرار وتطور هذا الوضع بمجرد توقيع هذه المعاهدات ، ولكن أساساً بالعلاقات التى تُنمّى على أساس شعبى ) .
وعلى الرغم من أن هذه الرؤية صاغها الراحل عبد الخالق قبل أكثر من نصف قرن ، وفى وقت كانت فيه مصر عبد الناصر قد بدأت جنوحها يساراً وطنياً بتاميم قناة السويس كرد على رفض الحكومة الأمريكية تمويل بناء السد العالى ، بينما حكومة السيدين فى السودان كانت تجنح يميناً بقبول مشروع المعونة الأمريكية ، إلا أنه ورغم رياح التغيرات السياسية الإقليمية التى عصفت بالمنطقة خلال العقود الطوال الماضية ، وقلبتها رأساً على عقب على غير ما يشتهى عبد الخالق ورفاقه ، فإن هذه الرؤية تملك نفساً إستراتيجياً جديراً بالتأمل فى أيامنا هذى .
fadil awadala [fadilview@yahoo.com]