فيصل الآخر، كان شخصاً قصير القامة ومجازفاً من الدرجة الأولى، لم يكن من أولاد حلتنا ولا أعرف حتى إسم والده، وحتى ملامحه قد ضاعت من ذاكرتي الآن لكنني مع ذلك لن استطيع أن أنساه أبداً فقد كانت تجمع بيننا هواية العوم في النيل الأبيض الذي كنا نسميه "البحر" وكنا نلتقي من وقت لآخر بالصدفة على شاطئ البحر! عندما كنت في الثامنة وغرقت في البحر وأنقذني الله سبحانه وتعالى من الموت غرقاً بعد أن سخّر لي ذلك المنقذ المجهول، كان فيصل الآخر شاهد عيان على فضيحة غرقي! حينما عدت للبحر مرة أخرى وصممت على تعلم السباحة كان فيصل الآخر هو السبب فقد كان يجيد السباحة كالسمكة! بدأت في مجاراته حتى تعلمت السباحة كفاحاً واجتهاداً لكنني اكتشفت أن فيصل الآخر يتفوق عليّ في السباحة على الصدر فقد كانت لديه قوة تحمل كبيرة في السباحة على الصدر لمسافات طويلة ولم أكن أمتلك قوة تحمل مماثلة وكنت استطيع السباحة على الصدر لمسافات أقصر نسبياً ولهذا ناضلت نضالاً شاقاً حتى تعلمت السباحة على الظهر وأصبحت أجاري فيصل الآخر في التنافس على السباحة لمسافات قصيرة أو طويلة بالقرب من الشاطيء! كنا نحب دق الراس أو ما يسمونه حالياً "الدايفن" حيث كنا نقفز قفزات اكروباتية من على ظهر الصندل الذي كان يرتفع عن البحر بحوالي خمسة أمتار لكن فيصل الآخر صعد ذات يوم إلى سطح صندل ضخم كان يرتفع عن البحر بحوالي عشرين متراً وطار من هناك إلى مياه البحر البعيدة في قفزة اكروباتية مدهشة ماداً يديه أمام رأسه ومقوساً جسمه برشاقة متناهية! عندها شعرت بالاعجاب والذهول الشديدين، صعدت إلى سطح الصندل الضخم بحذر، نظرت إلى مياه البحر البعيدة بارتباك وشعرت برجفة الخوف تسري في سائر أنحاء جسمي، في تلك اللحظات، صعد فيصل الآخر، وطار من سطح الصندل الضخم إلى مياه البحر البعيدة بقفزة اكروباتية أخرى، عندها صاح في داخلي صوت مجنون (اقفز، فيصل الآخر ليس أشجع منك!)، أغمضت عيناي وطرت في الهواء ماداً يداي أمام رأسي في قفزة مجنونة ولدهشتي اصطدمت بالماء بنعومة بالغة، لقد اكتشفت الخدعة، عرفت أن القفز من ارتفاع عشرين متراً أسهل بكثير من القفز من ارتفاع خمسة أمتار وحتى لا أنسى تلك الحركة الاكروباتية الجريئة الجديدة قمت بإعادة تنفيذها أكثر من 10 مرات حتى شعر فيصل الآخر بالملل وغادر البحر وهو في قمة الاستياء بينما كنت أنا على وشك تنفيذ القفزة الاكروباتية الحادية عشر!! عندما كنت في الخامسة عشر من عمري، دخلت في تحديين خطيرين مع فيصل الآخر، في المرة الأولى، سبحنا داخل البحر حتى وصلنا إلى ثلث البحر تقريباً ولما أحس فيصل الآخر بتصميمي على مواصلة التحدي، صاح قائلاً (يلا نرجع)! في المرة الثانية، سبحنا حتى وصلنا إلى منتصف البحر تقريباً وعندما لمس فيصل الآخر استعدادي للتوغل أكثر داخل البحر صاح قائلاً (خلاص كفاية، يلا نرجع)! ذات يوم لا يُنسى، قابلت فيصل الآخر الذي كان بصحبة ثلاثة اولاد آخرين لا أعرفهم، قال فيصل الآخر بحماس مجنون: يجب أن نعبر البحر اليوم، هناك في الشاطيء الآخر مزرعة بطيخ ضخمة فيها بطيخ غاية في الحلاوة، والله أن أي بطيخة من بطيخ الشاطيء الآخر أحلى من جميع البطيخ الموجود في مدينة كوستي وأننا إذا عبرنا البحر سنغرق في حلاوة احلى بطيخ في العالم! همست لنفسي: (الزول دا مجنون واللا شنو، البطيخ كلو واحد، بعدين ياخي البطيخ ارخص شي في كوستي، الواحد فينا كل يوم بيمشي ملجة كوستي بالقرب من دار الرياضة ويشتري أكبر بطيخة بى تعريفة ويفقشا في قضيب القطر ويشبع بس من قلب البطيخة ويترك أطرافها للغنم!) عندما نزل فيصل الآخر إلى البحر مع أصحابه الثلاثة بغرض عبور البحر لتحقيق ذلك الهدف البطيخي العظيم، لم أجد بداً من المشاركة في تلك المجازفة المجنونة، فبعد تلك المحاضرة البطيخية من قبل فيصل الآخر، صرت مقتنعاً تماماً بأن الحصول على بطيخة واحدة من الشاطيء الآخر قد أصبح مسألة حياة أو موت! في ذلك اليوم، كان البحر هادئاً تماماً كان سطحه مثل مرآة ملساء، سبحنا أكثر من خمس ساعات متواصلة وأخيراً عبرنا نهر النيل الأبيض ووجدنا أنفسنا في الشاطيء الآخر وسط أكبر مزرعة بطيخ رأيتها في حياتي، هجمنا على البطيخ الروثمان، غرقنا في حلاوة البطيخ الاسطوري وأكلنا منه بنهم شديد حتى امتلأت بطوننا وأصبحنا عاجزين عن التنفس، انبطحنا على ظهر أحد الصنادل الذي كان راسياً في شاطيء البطيخ آخذين قسطاً طويلاً وممتعاً من الراحة اللذيذة ثم قام كل واحد منا بكتابة إسمه بالفحم على الواح الصندل (تذكار من فلان الفلاني)! بعد حوالي ساعة من الراحة اللذيذة، قرر فيصل الآخر وأصحابه العودة سباحةً إلى مدينة كوستي واعترضت أنا على ذلك بشدة بحجة أن بطني ممتلئة بالبطيخ وأنني لا أقوى على السباحة، وعندها نفذ فيصل الآخر وأصحابه قرار العودة ونزلوا إلى البحر بدوني ثم شرعوا في السباحة، جلست وحيداً على الشاطيء الآخر ورحت اتابع الرؤوس الأربعة وهي تبتعد داخل البحر حتى اختفت في الأفق البعيد! بعد حوالي ساعة من الكسل الذاتي والوجود الانفرادي في شاطيء البطيخ، قررت النزول للبحر والعودة إلى ميناء كوستي سباحةً، توهمت أن المياه تحت الصندل ليست عميقة ولذلك قررت الوقوف على أرجلي قبل البدء في السباحة كنوع من الكسل الإضافي لكن جسمي غاص بسرعة شديدة في مياه عميقة جداً جداً وناضلت نضالاً شاقاً حتى عدت للسطح مرة أخرى بعد أن شربت رغم أنفي عدة جرعات كبيرة ومفاجئة من ماء البحر، بعد اجتيازي لمحنة البداية الخاطئة، شرعت في السباحة ببطء، مرت حوالي ثلاث ساعات من السباحة الآمنة وفجأة عند منتصف البحر تقريباً حدث انقلاب بحري كبير وخطير، فجأة امتلئت السماء بسحب سوداء كثيفة وهبت رياح قوية وتحول سطح البحر الذي كان قبل دقائق كالمرآة إلى كتل عاتية ضخمة من الأمواج الهائجة الغاضبة، من المؤكد أن تلك اللحظات الخطيرة، كانت أقسى وأخطر لحظات حياتي على الإطلاق، أصبحت كالقشة وسط الأمواج التي كانت تتقاذفني بسرعة في جميع الاتجاهات بعنف شديد وقسوة بالغة، كنت أحاول السباحة على الصدر فتلطمني أمواج هائلة على وجهي وكنت أحاول السباحة على الظهر فتضربني الأمواج من جميع الاتجاهات، شعرت بانهاك شديد ودعوت الله في سري طالباً النجاة من الخطر الداهم ومتعهداً بالقيام بكل واجباتي الدينية إذا كُتبت لي النجاة، بعد مرور أوقات صعبة كأنهن سنوات طويلة اختفت الغيوم وسكنت الرياح وهدأ البحر وعاد لصفائه الشديد وكأن شيئاً لم يكن، شعرت بالطمأنينة والاسترخاء ورحت أسبح على ظهري لكن فجأة ضربتني سمكة بردة في رجلي اليمنى التي كنت اجدف بها وشلت كهربتها القوية رجلي اليمنى، لم تكن هناك أي خيارات أخرى، فالسباحة على الصدر لمسافة طويلة مرهقة ومستنزفة للقوة، ولذلك بدأت أسبح على ظهري ببطء شديد مستخدماً رجلي اليسري التي لم استخدمها مطلقاً في التجديف من قبل والتي لم تكن جيدة كرجلي اليمنى! فجأة، وبعد مرور عدة ساعات من السباحة البطيئة، حملت لي المياه صوتاً مدوياً قادماً من على البعد (يا فيصل، يا فيصل)! عندما استعدلت ونظرت إلى مصدر الصوت رأيت فيصل الآخر وأصحابه واقفين على شاطيء مدينة كوستي وهم يلوحون بايديهم واكتشفت أنني كنت أسبح واتحرك في الاتجاه الخطأ بعيداً عن ميناء كوستي لأن السابح على الظهر لا يرى أمامه وفهمت أن صياحهم كان بغرض تنبيهي ودعوتي لتصحيح مسار سباحتي، عندها قمت بتصحيح اتجاهي وواصلت السباحة على الظهر حتى اقتربت من الشاطيء، وعندما كنت على بعد خطوات من الوصول إلى الشاطيء، غادر فيصل الآخر وعصابته الشاطيء، خرجت من البحر ثم وقفت على شاطيء ميناء كوستي وحدقت في الأفق البعيد محاولاً رؤية الشاطيء الآخر لكن دون جدوى فشاطيء البطيخ الحلو لم يكن يُرى بالعين المجردة من شاطيء ميناء كوستي بأي حال من الأحوال!!
عندما أرسل لي صديقي المحامي أحمد ساتي المقيم بالمملكة العربية السعودية فيديوهات بطيخية طريفة من ضمنها فيديو لامرأة آسيوية تسجل صوت قرمشة البطيخ عبر الماكرفون وهي تأكله بمزاج منقطع النظير وفيديو لرجل عربي صائم كاد أن يفطر وكادت مقاومته أن تنهار بسبب شريحة بطيخ لذيذة تتحرك يميناً ويساراً في يد بائع البطيخ، تذكرت تلك المغامرة البطيخية الجنونية التي حدثت بمدينة كوستي منذ سنوات بعيدة وحينما حكيت تفاصيلها العجيبة لابنتي سارة، نظرت إلىّ بشك بالغ ثم قالت لي: (بابا، هل يُعقل أن يقوم أي انسان بعبور البحر من أجل بطيخة واحدة؟!!)